في كل خير ولن يضيع الله عمل عامل

 

بلغني أن قارئاً مشهوراً من أئمة الحرم المدني سابقاً يصلي هذه الأيام في الرياض، عقدت العزم على أن أصلي صلاة التراويح معه، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.. تأخرت في الخروج من المنزل، غير أني أطلقت عنان دابتي! ومضيت في الطريق...

المساجد قد رفعت الأذان بالعشاء، قلت في نفسي: لا يبدو لي أني سوف أدرك العشاء هناك.. فتحت النافذة قريباً من أحد المساجد في الطريق أتنصت .. كأنهم يقيمون.. واصلت الطريق وفي العقل تعتمل موازنة، هل أتوقف لأدرك العشاء في أي مسجد أم أمضي في طريقي؟ وبينما أنا كذلك إذا بمسجد ضخم، وقد امتلأت المواقف التي حوله بالسيارات، فقلت: يا رجل هذه بغيتك، إمام مقصود، وتدرك العشاء!

 
وما أن دخلت حتى أقام، فصلى بنا رجل أخاله في منتصف الخمسينيات، كانت الصلاة عادية، ولم ألحظ في الإمام تميزاً حتى يقصد، فلا صوته يتميز بحسن، ولا قراءته أسيفة مرققة.. ومع ذلك ما أن انتهى من العشاء حتى كاد المسجد أن يمتلأ عن بكرة أبيه! وما أن شرع في التراويح حتى بدا لي السبب فبطل العجب! لقد كان صاحبنا يصلي إن أطال بثلاث آيات في الركعة، وإن أوجز فآية واحدة تكفي! والحق أن قراءته لم تكن مخلة، فترددت هل أخرج لألحلق بالمسجد الذي كنت أُمَنِّي نفسي بالصلاة فيه أم أتم مع هذا الإمام الذي بدأت معه؟
 

ثم بدت لي فكرة استحسنتها، يأتيك نبؤها..  أكملت الصلاة مع صاحبنا وقد استغرقت صلاة التراويح بالإضافة إلى الدرس الذي تخللها قبل الوتر نحو نصف الساعة أو أقل قليلاً، والحق أن قراءة الإمام في الدرس كانت مخلة، إذ لم أميز كثيراً من أحرفه وهو يقرأ توجيهات من كتاب..

 خرجت من المسجد عجلاً وفي النفس بعض النقمة على الإمام، لكني رأيت قريباً من الباب أحد العمال –الذين أعرفهم وفيه فضل- يعد نفسه للخروج.. ركبت سيارتي وقد خفَّت نقمتي على ذلك الإمام، حتى قلت لنفسي والسيارة تنطلق بي: تعرف أن ذاك العامل يبدأ دوامه في التاسعة مساء، وكثير من الناس غيره مشغول أو فيه عجز وربما تلبس بتقصير، ويريد أن يحصل شيئاً من الأجر، فلعل مثل هذا المسجد فيه مندوحة لهؤلاء، فربما كان خيراً لهم من التأخر أو قطع صلاة مع إمام يستطيلون صلاته أن يصلوا مع مثل هذا الإمام الذي يخفف العشاء والتراويح حتى ينصرف فيخرجوا وقد كتب لهم قيام ليلة... وفضل ربك واسع يثيب على القليل بالخير الجزيل.

 
وبينما أنا كذلك إذا بي قد بلغت بغيتي؛ وصلت المسجد الذي يصلي فيه الشيخ المقصود وإذا بصوته يجلجل في الأرجاء.. عانيت حتى وجدت موقفاً على بعد سحيق قريباً من باب أحد البيوت، ترددت قليلاً ثم آثرت ترك النزول خشية التضييق على صاحب الدار، وجلست في سيارتي أستمع إلى قراءة الإمام، وظهر لي أنه قد بقيت له أربع ركعات، استمتعت بقراءته حيناً.. ثم فارقت المكان قبل أن يوتر الإمام، وتنفض جموع المصلين، ووجدتني أقارن بين المسجدين وأنا أقول: (ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون) [آل عمران: 113]، وقوله بعدها: (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين) [ آل عمران: 115]، من يفعل فلن يكفر، للنفر الأوائل أجرهم، ولهؤلاء أجرهم، وفي كل خير، ورحمة ربك واسعة، وفضله عظيم، وهما خير مما يجمع الناس، فيتلهون به عنهما.
 
فأكثر يا عبد الله من التعرض لهما فليس نصيب من جد واجتهد في الخير كنصيب غيره، وإن كنت صاحب شغل لابد منه فالنية تبلغ ما لا يبلغ العمل، إن هي صدقت..واسأل ربك أن يزين الإيمان في قلبك، فوق ما زينه في قلوب هؤلاء المزدحمين على الطاعة، وأن يحببه إليك فوق ما حببها إليهم، واعلم بأن ذلك فضل الله وتلك نعمته، وأهله هم الراشدون من عباده، كما قال ربك سبحانه وتعالى: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون، فضلاً من الله ونعمة) [الحجرات: 7-8]، إي والله! نعمة وأي نعمة؟ حبَّبَ إليهم الطيِّبَ من الذكر والصلاة وسماع القرآن...، فإذا فعلوا ما أحبوه والتذوا به أثابهم عليه.. فما أعظم إحسان ربنا سبحانه.. نعوذ به من حرمانه وخذلانه.