المصطفى سنكي : القدوة الحسنة أهم الوسائل التربوية ووجودها على مستوى الأبوين يمثل تحديا

الأستاذ المصطفى سنكي داعية مغربي و أخصائي وباحث تربوي و رجل تعليم منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما ، مهتم بدراسة السيرة النبوية وقضايا التربية والتعليم ، وله دراسات ومقالات متكاثرة في هذين المجالين ، نشر أغلبها بالعديد من المنابر الإعلامية والمواقع الالكترونية، وهو أيضا ناشط جمعوي فعال يشتغل في مجالات التربية وكل ما يرتبط بالعملية التربوية.
 
وفي هذا الحوار المفيد مع موقع المسلم، يبرز المصطفى سنكي المحددات الرئيسة العامة لنجاح العميلة التربوية للأبناء، موضحا أن التربية علم يقتضي الإلمام بمتطلبات الإنسان في جوانبه المتعددة روحا ونفسا وعقلا وبدنا.
ويؤكد سنكي أن القدوة الحسنة أهم الوسائل التربوية ووجودها على مستوى الأبوين يمثل تحديا لا سيما في بعدها الشمولي، فقد ينجح الأبوان في جانب أو جوانب لكنهما يفشلان في جوانب أخرى، موضحا أن التربية تشرب وتمثل قلبي، وهذا يوجب على الوالدين أن يكونوا أهلا ليقتدي بهم أبناؤهم، وإلا سيُضطر الأبناء للبحث عن مثلهم وقدوتهم خارج البيت وقد يسلكون مسالك الهلاك.."
وفي الحوار قضايا تربوية هامة ..لنتابع:
 
المسلم: ما هي المحددات الرئيسة العامة لنجاح العميلة التربوية للأبناء؟
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. بداية أشكر لكم الدعوة لتناول موضوع غاية في الحيوية، على قدر النجاح فيه يكون نجاح الفرد والمجتمع، كما أشير إلى أن الحديث في شأن التربية فسيح، وسأحاول أن أدلو بدولي فيه رغم الزاد القليل .
فيما يخص سؤالكم عن المحددات أو الأسس الرئيسية لنجاح العملية التربوية للأبناء، أرى أن نجاح أي فعل تربوي وليس تربية الأبناء فقط يقوم على أسس أو شروط هي:
• استعداد المتلقي؛ فبدون استعداد للتربية ـ بما في ذلك تنمية الجوانب الإيجابية في النفس اكتسابا لكل حسن وتخلصا من كل قبيح في السلوك كما في طرق العمل والتعامل ـ  لا تفيد التربية ولا تحقق أهدافها، وكما يقال:" لا فائدة من ضرب الحديد البارد.".
• المربي.
• البيئة التربوية أو الوسط الاجتماعي.
هذا عموما، أما فيما يخص تربية الأبناء، فتتطلب بالأساس صلاح الأبوين وسلامة البيئة الاجتماعية بكل مكوناتها: الأسرة، المدرسة، الشارع، وسائل الإعلام..، واستواء المنظومة التربوية.
 
 
المسلم: ينمو الأبناء وفق مراحل عمرية متنوعة تختلف فيها احتياجاتهم المادية والمعنوية، كيف برأيك يمكن متابعة مراحل النمو هذه مع مواكبة حاجياتها؟
هذا سؤال محوري يحيل إلى أن التربية من جهة علم يقتضي الإلمام بمتطلبات الإنسان في جوانبه المتعددة روحا ونفسا وعقلا وبدنا. والتربية فن يُكسب المربي الأساليب السليمة في التعامل أو التدخل، فالنية الحسنة للآباء لا تناقش، ولكن شكل المعالجة لسلوك معين قد يفتقر للحكمة، فتكون الحصيلة عكس المتوقع. لذلك يجب على المربين عموما والآباء خصوصا أن يعُـوا المراحل العمرية للأبناء وحاجيات كل مرحلة ماديا ومعنويا، انطلاقا من القاعدة الذهبية:" لاعبه ـ أو داعبه ـ سبعا، وأدبه سبعا، وصاحبه سبعا..."؛ بمعنى أن لكل مراحل عمرية متطلبات وحاجيات لا بد أن تراعى، فالتربية تعهد وتتبع دائمان.
من هنا يتضح أن القفز أو إلغاء مرحلة معينة يؤدي إلى حرمان مادي أو معنوي من شأنه أن يؤثر سلبا في بناء شخصية الأبناء، ولأنه بالمثال يتضح المقال، فالأطفال الذين لم يشبعوا رغبتهم في اللعب غالبا ما تظهر سلوكيات صبيانية في تصرفاتهم وهم راشدون.
 
المسلم: كثيرا ما يحتار الآباء خاصة في زمن الفتن هذا وزمن العولمة في مراقبة سلوكيات أبنائهم بين مراقبتهم اللصيقة وبين ترك "الحبل على الغارب" كما يقال..فأي الطرق التربوية أسلم برأيك؟
 
كلاهما أي المراقبة اللصيقة وترك الحبل على الغارب خطأ، فالمراقبة الشديدة تخنق أنفاس الأبناء، وتفوت عليهم الفرصة للتعلم من خلال ارتكاب الأخطاء وبالتالي اكتساب الثقة في القدرات الشخصية، والإهمال تهرب من المسؤولية وإخلال بالواجب الذي أُمِر به الآباء شرعا وعقلا وقانونا به، وفي الحديث:" كلكم راع، وكلكم مسؤول..".
 
المسلم: لنتحدث عن القدوة في قضايا تربية الأبناء، كيف يمكن إيجاد القدوة لأبنائنا وعلى أية معايير؟
 
القدوة الحسنة أهم الوسائل التربوية ووجودها على مستوى الأبوين يمثل تحديا لا سيما في بعدها الشمولي، فقد ينجح الأبوان في جانب أو جوانب لكنهما يفشلان في جوانب أخرى. أما سؤالكم عن سبل إيجاد القدوة الصالحة فيعود بالأساس إلى المنظومة التربوية التي تختزل منظومة القيم التي تستمد بدورها من الهوية الحضارية للمجتمع أو الأمة وهي التي تؤطر معايير القدوة أو المثل العليا؛ وبناءً عليه، فالمعايير المحددة للقدوة في مجتمعنا باعتباره إسلاميا تنسجم مع قيم ومبادئ الإسلام خلقا وسلوكا ونظرة إلى الحياة تجسدها وبشكل عملي سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقا لقوله تعالى: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.." (سورة الأحزاب، الآية:21).
 
 
المسلم: هل في نظرك يجب سحب الوظيفة التربوية من الأبوين حين يزيغان عن طريق الصواب والصلاح؟ وما مصير الأبناء في هذه الحالة؟ من يرشدهم ويقـودهم؟
يقول صلى الله عليه وسلم في سياق الدعوة إلى الزواج:" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج.."، وقد ينحصر معنى الباءة في الجانب المادي وما يتطلبه الزواج من نفقات ومصاريف، إلا أن بناء الأسرة لا يقوم فقط على الاستقرار المادي على أهميته، بل هناك جوانب أخرى لا تقل أهمية ومنها الأهلية التربوية والخلقية والنفسية، فشخص ـ رجل أو امرأة ـ غير سوي في بنائه النفسي كيف يُعول عليه لبناء أسرة وتربية أبناء، وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقال.. لذا ورد في سياق وصايا لقمان الحكيم إشارة قلما يُنتبَه إليها تحدد الأهلية الأبوية في الإيمان بالله والاستقامة، يقول جل وعلا في سورة لقمان:" وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا، واتبع سبيل من أناب إلي.." (الآية:14). فالأبوة لا تتحقق بتوفير الحاجيات المادية فقط، بل تتطلب نموذجية خلقية وشخصية مستقيمة وسوية، وفي المجتمعات الغربية تسحب المسؤولية من الآباء إذا ثبت لمصالح الرعاية الأسرية أن الأبناء مهددون بخطر من قبل الآباء، وتحدد هذه المصالح من يشرف على الأبناء في هذه الحالة مؤسسات رعاية أو أسر محتضنة تتبنى هؤلاء الأبناء مؤقتا أو بشكل دائم.
 وما يجب إدراكه من طرف الآباء أن التربية تشرب وتمثل قلبي، وهذا يوجب عليهم أن يكونوا أهلا ليقتدي بهم أبناؤهم، وإلا سيُضطر الأبناء للبحث عن مثلهم وقدوتهم خارج البيت وقد يسلكون مسالك الهلاك.
 
المسلم: في المغرب هناك نوع من فساد الأخلاق لدى الكثير من الشباب والمراهقين ذكورا وإناثا إلا من رحم الله، وانتشار ثقافة تحث على التفسخ والانحلال السلوكي، فما هي الآليات التربوية السليمة والقوية التي يجب على المربين والأسرة أن تسلكها لصد هذا السيل الجارف الذي يهدد شخصية أولادنا وشبابنا؟
 المغرب ليس استثناءً، فثقافة الانحلال والتفسخ يراد لها أن تكون كونية خدمة لمصالح المستكبرين في العالم، وقبل البلدان الإسلامية والعربية استهدفت شعوب أوروبا مثلما استهدف غيرها من الشعوب لتكسير مؤسسة الأسرة والروابط الاجتماعية. غير أن المثير للاستغراب هو انخراط الأنظمة العربية في حملة الميوعة لأسباب معلومة، فبقدر ما ينغمس الناس والشباب خاصة في مستنقع الفواحش تحت مسميات الفن والإبداع والحريات الفردية بقدر ما يبتعدون عن قضايا الشأن العام ولا يهتمون بمشاكلهم المعاشة.
وفي التسعينيات من القرن الماضي وخلال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية وجوابا عن سؤال حول سبل التصدي للمد الإسلامي أجاب الملك الراحل:" مبيد ـ ترجمة لـ" Flay toxe" ـ المد الإسلامي هو الحرية." طبعا المقصود بالحرية ليس هو حرية الرأي والتعبير..
 وفي أول شهر رمضان الحالي وخلال أول درس ديني ضمن السلسلة الرمضانية الذي تكلف بإلقائه وزير الشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق دافع عن هذه الحرية عندما رد ـ ضمنيا ـ  على من يناهضون المهرجانات الموسيقية والغنائية الفاحشة معتبرا أنها تعبير وبحث عن الحقيقة. على أية حقيقة يتحدث الوزير، وما تفسيره لسلوك المغني الذي تجرد من ثيابه وهو على المنصة يغني أمام الملأ في مهرجان الرباط الأخير، أم تراه وصل إلى اليقين وبالتالي رفع عليه القلم.
أما التصدي لتيار الميوعة فهو على مستويات:
• مستوى المجتمع أو الأمة من خلال منظومة تربوية تحصن النشء من أي انحلال، تنخرط فيه المدرسة والمجتمع المدني على حد سواء، وهذا يقتضي وجود مشروع مجتمعي حقيقي.
• على مستوى الأسر من خلال تربية سليمة تتأسس على نموذجية الأبوين.
• على مستوى الرفقة بتكوين بيئة اجتماعية سليمة ولو مصغرة إشباعا للحس الاجتماعي للأفراد.
 
المسلم: نعيش شهر رمضان الكريم، وهي مناسبة لصفاء النفوس ولترسيخ القيم التربوية الطيبة، فكيف ترى إمكانية ترسيخ مثل هذه القيم التربوية وما وسائل ذلك في مجتمعنا العربي والإسلامي، علما أن هناك حربا شرسة وشهوات وغزوا إعلاميا وفضائيات تساهم عن قصد أو غير قصد في محاربة هذه القيم؟
 
أمام طوفان الميوعة وسيلها الجارف يمثل شهر رمضان بأجوائه الإيمانية وأنواره الروحية فرصة للتعافي، ففيه يزداد الإقبال على المساجد لا سيما في صفوف الشباب المتعطش لدينه، لأنه مهما كانت جاذبية الفتن وإغراءها ففطرة الإسلام محفورة مطبوعة في القلوب تحتاج إلى بعض التعهد إزالة لغبار الغفلة؛ لذا فالمطلوب من الأسر أن تستثمر أجواء رمضان وتشجع الأبناء على تطبيع العلاقة مع المسجد والقرآن، وللقدوة الأثر الكبير في هذا الباب، ولا بأس ـ بل لابد ـ من تحفيز الأبناء على المواظبة على الطاعات ومنها الصيام وختم القرآن بجوائز مشجعة، ولا ييأسن الآباء من استقامة الأبناء، والله تعالى يقول محكم التنزيل:" وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها." (سورة طه، الآية:131)
 
المسلم: يبدو أن الكثير من الناس شبابا ورجالا ونساء يتلقون رسائل إيمانية مكثفة في شهر رمضان ويتقبلون قيما تربوية وأخلاقية جميلة، لكن ما إن ينصرم الشهر الفضيل حتى "تعود حليمة إلى عادتها القديمة" كما يقال في المثل، في رأيك ما هي أسباب هذا النكوص عوض الاستمرار في نهج تربوي رباني وروحاني كما كان في شهر رمضان؟ وما هي الحلول إذن؟
 
 شهر رمضان مهما عظمت أفضاله، وتنوعت كنوز ثوابه، لا يعدو أن يكون شهرا من أشهر العام، يمثل محطة تزود استثنائية، لكن المعول عليه هو ما حصله الصائم من أعمال تعبدية، وما ثبته في يومه وليلته من طاعات وقربات، لأن أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها، كما في الحديث.
وعلى قدر الاستعداد لرمضان يكون العطاء، وعلى قدر إنائك تعطى كما يقال.. وبأي زاد وحال بل بأية عزيمة على الإقبال على ربك ودعت رمضان، فمن عرف سبيل ربه لزمه كما في الـوصية النبوية لحارثة رضي الله عنه.
أما سبل الترقية الإيمانية وتوظيف الشحن الإيمانية القوية لشهر رمضان فتعيدنا إلى ما بدأنا به الحديث وهي ما يصطلح عليه بشروط التربية الإيمانية التي تحصن المؤمن من أسباب النكوص وتوفر بيئة إيمانية سليمة، وهي شروط ثلاثة:
• الصدق وهو الاستعداد القلبي لطلب وجه الله تعالى.
• الذكر وهو نقيض الغفلة عن الله، وبه يتجدد الإيمان في القلوب كما في حديث " جددوا إيمانكم..".
. الصحبة الإيمانية، وخير الأصحاب من إذا ذكرت الله أعانك، وإذا نسيت ذكرك. وهذا يبين بجلاء قيمة أن ينطبع الجو العام لحياة المجتمع بطابع الإيمان تسهيلا لعملية العبادة والاستقامة، عوض أن يكون الأصل هو الصد عن الله تعالى، والاستقامة استثناء تحاصر في زوايا ضيقة زمانا ومكانا..