وقفه إيمانية مع حديث : "وجعلت قرة عيني في الصلاة" 1\2
13 رمضان 1429
عبد المجيد بن صالح المنصور

روى النسائي وغيره عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) ** ، وقد كان هذا الحديث يستوقفني كثيراً من حيث صحته ومعانيه وألفاظه ودلالاته، وكلما أردت تأمله، والغوص في معانيه، وتتبع كلام العلماء فيه شغلني عنه شاغل، حتى جاءت الفرصة المناسبة، فقرأت جملة كبيرة مما سطرته يراع العلماء عن هذا الحديث، فأخذت المحبر والكاغد، فدونت ما استحسنته من كلامهم، ثم عدت فنسقته ونظمته، فكان الكلام على الحديث من وجوه :

معناه وكلام العلماء فيه:
قوله صلى الله عليه وسلم  (حبب) وفي رواية: (إنما حبب)، وهذا من بلاغة لفظ النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يقل (أحب) لأنه لم يكن ليحبها ابتداء، والدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وكان يحذر الناس منها ويزهدهم فيها، قال المناوي في فيض القدير: (ثم إنه لم يضفها لنفسه فما قال أحب تحقيراً؛ لأمرها لأنه أبغض الناس فيها، لا لأنها ليست من دنياه بل من آخرته كما ظن إذ كل مباح دنيوي ينقلب طاعة بالنية فلم يبق لتخصيصه حينئذ وجه، ولم يقل من هذه الدنيا؛ لأن كل واحد منهم ناظر إليها وإن تفاوتوا فيه، وأما هو فلم يلتفت إلا إلى ما ترتب عليه مهم ديني...)، وقال الطيبي: جئ بالفعل (حُبب) مجهولا دلالة على أن ذلك لم يكن من جبلته وطبعه وإنما هو مجبول على هذا الحب رحمة للعباد ورفقا بهم)، وقال الشاطبي في الموافقات: (لا يلزم من حب الشيء أن يكون مطلوبا بحظ؛ لأن الحب أمر باطن لا يملك، وإنما ينظر فيما ينشأ عنه من الأعمال فمن أين لك أنه كان عليه الصلاة و السلام يتناول تلك الأشياء لمجرد الحظ دون أن يتناوله من حيث الأذن...)إلخ، قال الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات: قال الفاضل كمال الدين جعفر الأدفوي: ووجدت بخط الكمال ابن البرهان: سمعت الشيخ أبا عبد الله يقول: دخلت دمشق فحضرت مجلس واعظ كان معظماً فيها فقال: ليس أحد يخلو من هوى، فقال له شخص: ولا رسول الله؟ فقال: ولا رسول الله، فأنكرت عليه فقال: قال r: حبب إلي من دنياكم ثلاث، فقلت: هذا عليك لأنه ما قال أحببت، ثم فارقته، ورأيت قائلاً يقول لي في النوم أو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد ضربنا عنقه، فخرج من دمشق فقتل).
 قوله: (من دنياكم)، وفي رواية عند أحمد (من الدنيا)، وفي رواية بدونهما وهو لفظ النسائي، قال بعض العلماء (من الدنيا) أي: في الدنيا، فيكون "من" بمعنى "في" فكأنه قال: « حبب إلي في الدنيا » أي : مدة كوني فيها هذه الأشياء الثلاثة ، فيكون هذه الأشياء في الدنيا لا من الدنيا، وإن كانت فيها، قال الكلاباذي في بحر الفوائد: (فيكون فيه إشارة إلى أنه ليس له فيها حظ، ولا إليها نظر، ولا لها عنده حظ، وأنها بغيضة رأسا، والذي حبب إليه فيها ما هو لله عز وجل).
   (النساء) أي الإكثار منهن، ولقد ذكر بعض العلماء حكمة هذا التحبيب فقيل: زيادة في الابتلاء والتكليف حتى يلهو بما حبب إليه من النساء عما كلف من أداء الرسالة، فيكون ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره، وقيل: لتكون خلواته مع ما يشاهدها من نسائه فيزول عنه ما يرميه به المشركون من أنه ساحر أو شاعر، فيكون تحبيبهن إليه على وجه اللطف به، وعلى القول الأول على وجه الابتلاء، وعلى القولين فهو له فضيلة.

   وأما حكمة إباحة نكاح أكثر من أربع بالنسبة له r فقد قال المناوي في الفيض: (والإكثار منهن لنقل ما بطن من الشريعة مما يستحيا من ذكره من الرجال، ولأجل كثرة سواد المسلمين ومباهاته بهم يوم القيامة)، ونقل السيوطي في شرحه على النسائي قول السبكي: السر في إباحة نكاح أكثر من أربع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها وما يستحيا من ذكره ومالا يستحيا منه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياء، فجعل الله تعالى له نسوة ينقلن من الشرع ما يرينه من أفعاله، ويسمعنه من أقواله التي قد يستحي من الإفصاح بها بحضرة الرجال ليكتمل نقل الشريعة، وكثر عدد النساء ليكثر الناقلون لهذا النوع، ومنهن عُرف مسائل الغسل والحيض والعدة ونحوها، قال: ولم يكن ذلك لشهوة منه في النكاح، ولا كان يحب الوطء للذة البشرية معاذ الله، وإنما حبب إليه النساء لنقلهن عنه ما يستحي هو من الإمعان في التلفظ به، فأحبهن لما فيه من الإعانة على نقل الشريعة في هذه الأبواب، وأيضا فقد نقلن ما لم ينقله غيرهن مما رأينه في منامه وحالة خلوته من الآيات البينات على نبوته، ومن جده واجتهاده في العبادة، ومن أمور يشهد كل ذي لب أنها لا تكون إلا لنبي وما كان يشاهدها غيرهن فحصل بذلك خير عظيم...)، وقد ذكر ابن حجر في فتح الباري(9/115) أن الذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه ثم سردها، وأضاف عليها الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله فأوصلها إلى خمسة عشر حكمة، فلتراجع.

     قال علي القاري في مرقاة المفاتيح: مسألة قوله: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) لم بدأ بالنساء، وأخر الصلاة؟، الجواب: لما كان المقصود من سياق الحديث ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من متاع الدنيا بدأ به كما قال في الحديث: ما أصابنا من دنياكم هذه إلا النساء، ولما كان الذي حبب إليه من متاع الدنيا هو أفضلها وهو النساء بدليل قوله في الحديث الآخر (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) ناسب أن يضم إليه بيان أفضل الأمور الدينية، وذلك الصلاة فإنها أفضل العبادات بعد الإيمان، فكان الحديث على أسلوب البلاغة من جمعه بين أفضل أمور الدنيا وأفضل أمور الدين...)

   قوله: (الطيب): قال المناوي: (لأنه-أي الطيب- حظ الروحانيين، وهم الملائكة ولا غرض لهم في شيء من الدنيا سواه، فكأنه يقول حبي لهاتين الخصلتين إنما هو لأجل غيري...)، قلت: ولأنه من سنن المرسلين كما ورد في الحديث.
   قوله: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) قال القاضي عياض في مشارق الأنوار: (أكثر الأقوال فيها وهو الأظهر أنها الصلاة الشرعية المعهودة لما فيها من المناجاة وكشف المعارف وشرح الصدور، وقيل بل هي صلاة الله عليه وملائكته مما تضمنته الآية).
    ولقد تفنن بعض العلماء في استنباط بلاغة هذه الجملة البليغة منه صلى الله عليه وسلم ، ومن أفضل اللفتات فيها قول الطيبي السابق: (جئ بالفعل (حبب)مجهولاً دلالة على أن ذلك لم يكن من جبلته وطبعه، وإنما هو مجبول على هذا الحب رحمة للعباد ورفقا بهم، بخلاف الصلاة فإنها محبوبة له بذاتها، ومنه قوله "أرحنا يا بلال بالصلاة" أي أشغلنا عما سواها بها فإنها تعب وكدح وإنما الاسترواح في الصلاة فأرحنا بالنداء بها فلذلك قال " وجعلت قرة عيني في الصلاة ")، وقال السيوطي في الحاوي للفتاوى: (وعبر في أمر الدين (يقصد وجعلت قرة...) بعبارة أبلغ مما عبر به في أمر الدنيا على مجرد التحبيب وقال في أمر الدين جعلت قرة عيني فإن قرة العين من التعظيم في المحبة ما لا يخفى...).
فوائده وأحكامه:

   لقد وقف بعض العلماء عند هذا الحديث وقفات جميلة، ومن أجمل الوقفات ما سطرته يراع ابن تيمية، وتلميذه النجيب ابن القيم رحمهما الله في مواضع عدة من كتبهما، ولم أجد نفسي بعدهما تحتاج إلى تعليق غيرهما، إذ على الخبير سقطت كما يقال، وما سطراه لا تدع القارئ يعرض عن التدوين والاقتطاف، وأجدني مضطراً إلى نقل شيء من كلامهما، وكلام غيرهما من العلماء بعد ذكر فوائد الحديث: فمن فوائده:

الفائدة الأولى: أنه لا تثريب على الزوج في ميله لزوجته ومحبته إياها، وذكر ذلك الحب صراحة، يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان: (فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة، وإن أعانت على محبة الله ورسوله، وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يحب الشراب البارد الحلو، ويحب الحلواء، والعسل ويحب الخيل، وكان أحب الثياب إليه القميص، وكان يحب الدباء، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه، فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قربة، وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يثب ولم يعاقب، وإن فاته درجة من فعله متقربا به إلى الله، فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته، والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله تعالى، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها، فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق...).

الفائدة الثانية: فيه أن الصلاة هي قرة عيون المحبين، وبها وعندها الراحة، ولا يجدون الأنس والطمأنينة والسكينة إلا فيها حيث الخشوع والخضوع والتذلل لله والانكسار بين يديه، قال ابن حجر: (ومن كانت قرة عينه في شيء، فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه؛ لأن فيه نعيمه، وبه تطيب حياته، وإنما يحصل ذلك للعابد بالمصابرة على النصب، فإن السالك غرض الآفات والفتور)، وقد بلغت الصلاة عنده r مبلغاً لم يبلغه أحد سواه حيث بلغت مرتبة فوق درجة المحبة، وهي مرتبة قرة العين وراحة البال، يقول ابن القيم في رسالة له إلى أحد إخوانه: وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم أهل الجنة إلا هذا، ولهذا قال النبيr :حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) فأخبر أنه حبب إليه من الدنيا شيئان النساء والطيب، ثم قال: وجعلت قرة عيني في الصلاة، وقرة العين فوق المحبة، فإنه ليس كل محبوب تقر به العين، وإنما تقر العين بأعلى المحبوبات الذي يحب لذاته، وليس ذلك إلا الله الذي لا إله إلا هو، وكل ما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته، فيحب لأجله ولا يحب معه، فإن الحب معه شرك، والحب لأجله توحيد... والمقصود أن ما تقر به العين أعلى من مجرد ما يحبه، فالصلاة قرة عيون المحبين في هذه الدنيا لما فيها من مناجاة من لا تقر العيون ولا تطمئن القلوب ولا تسكن النفوس إلا إليه، والتنعم بذكره والتذلل والخضوع له والقرب منه، ولا سيما في حال السجود وتلك الحال أقرب ما يكون العبد من ربه فيها، ومن هذا قول النبيr: (يا بلال أرحنا بالصلاة) فأعلم بذلك أن راحته في الصلاة كما أخبر أن قرة عينه فيها، فأين هذا من قول القائل: نصلي ونستريح من الصلاة، فالمحب راحته وقرة عينه في الصلاة، والغافل المعرض ليس له نصيب من ذلك، بل الصلاة كبيرة شاقة عليه، إذا قام فيها كأنه على الجمر حتى يتخلص منها، وأحب الصلاة إليه أعجلها وأسرعها، فإنه ليس له قرة عين فيها ولا لقلبه راحة بها، والعبد إذا قرت عينه بشيء واستراح قلبه به فأشق ما عليه مفارقته، والمتكلف الفارغ القلب من الله والدار الآخرة المبتلى بمحبة الدنيا أشق ما عليه الصلاة، وأكره ما إليه طولها مع تفرغه وصحته وعدم اشتغاله، ومما ينبغي أن يعلم أن الصلاة التي تقر بها العين ويستريح بها القلب هي التي تجمع ستة مشاهد، المشهد الأول:

الإخلاص: وهو أن يكون الحامل عليها والداعي إليها رغبة العبد في الله، ومحبته له وطلب مرضاته، والقرب منه والتودد إليه وامتثال أمره، بحيث لا يكون الباعث له عليها حظا من حظوظ الدنيا ألبتة، بل يأتي بها ابتغاء وجه ربه الأعلى محبة له وخوفا من عذابه ورجاء لمغفرته وثوابه،

المشهد الثاني: مشهد الصدق والنصح، وهو أن يفرغ قلبه لله فيها، ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله، وجمع قلبه عليها، وإيقاعها على أحسن الوجوه وأكملها ظاهرا وباطنا، فإن الصلاة لها ظاهر وباطن، فظاهرها الأفعال المشاهدة والأقوال المسموعة، وباطنها الخشوع والمراقبة وتفريغ القلب لله والإقبال بكليته على الله فيها بحيث لا يلتفت قلبه عنه إلى غيره... المشهد الثالث: مشهد المتابعة والاقتداء وهو أن يحرص كل الحرص على الاقتداء في صلاته بالنبيr ويصلي كما كان يصلي، ويعرض عما أحدث الناس في الصلاة من الزيادة والنقصان، والأوضاع التي لم ينقل عن رسول الله شيء منها ولا عن أحد من أصحابة...،

المشهد الرابع: مشهد الإحسان وهو مشهد المراقبة وهو أن يعبد الله كأنه يراه، وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته... فحظ العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان، وبحسبه تتفاوت الصلاة حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض، وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد، المشهد الخامس: مشهد المنة وهو أن يشهد أن المنة لله سبحانه كونه أقامه في هذا المقام، وأهله له، ووفقه لقيام قلبه وبدنه في خدمته فلولا الله سبحانه لم يكن شيء من ذلك... وهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد وكلما كان العبد أعظم توحيدا كان حظه من هذا المشهد أتم............( يتبع )

==============================