سلفيو لبنان.. السياسة في طور التشكيل
29 شعبان 1429
أمير سعيد

المتتبع للسياسة التي يتبعها سلفيو لبنان حيال المشكلات التي تمر بها بلادهم يتضح له أن ذلك التيار سيكون رقماً مهماً في المعادلة القادمة في السياسة اللبنانية المعقدة، والأزمة التي اشتعلت مؤخراً بشأن الوثيقة مع "حزب الله" تشي بأن شيئاً ما لم ينضج بعد في إطار التحالفات والتربيطات التي زجت بهذا التيار المعروف بعدم تعاطيه السياسة في أتونها ومراجلها.

الجسم الأكبر من التيار السلفي رفض الوثيقة التي وقعت مع "حزب الله" الذي اتخذ موقفاً سياسياً بالغ الدقة والاحترافية، وأراد أن يفيد منها على كل الأوجه والأصعدة؛ فيما خرج منها الموقعون من الجانب السلفي بخفي حنين على المستوى السياسي باستثناء أبرز شخصين وقعاها وهما الشيخ حسن الشهال والشيخ صفوان الزعبي؛ إذ نجحا في إبراز نفسيهما كلاعبين في الظل على الصعيد السلفي، بينما لم يتحقق ـ سياسياً ـ للجهتين اللتين يمثلوهما شيئاً يذكر.

الرابح الأكبر كان في الصفقة/الوثيقة كان "حزب الله"، وبحسب مؤسس التيار السلفي في لبنان ـ كما يسميه الإعلام اللبناني ـ؛ فإن الوثيقة كانت "هي محاولة لشق الصف السني عموماً، والسلفيين خصوصاً، وهي محاولة لتلميع صورة حزب الله بعد النكسة التي أصابته في الأحداث الأخيرة، إنها محاولة اختراق فاشلة بإذن الله".

لكن من بوسعه توكيد ذلك؟ أعني من يمكنه أن يقول إنها كانت محاولة اختراق فاشلة؟! فمن يرسم الخط السياسي لـ"حزب الله" على امتداده يمكنه أن يقرأ في الجانب المظلل الافتراضي لهذا الخط هدفاً مزدوجاً يطوق الموقف السلفي والسني بالتبعية؛ إذ لو فشلت الوثيقة في تحقيق غرضها فالرابح هو الحزب وإن نجحت فهو أيضاً كذلك! وبرأي خبير لبناني لم تشأ مجلة الوطن العربي الكشف عن اسمه؛ فإن "حزب الله" أراد من توقيع هذه الوثيقة أمرين:

1- 

" إضعاف تيار المستقبل وتصويره بمظهر العاجز عن حماية الطائفة السنية وهذا سيؤدي إن حصل إلى إعادة تفريخ للقوى السلفية، وخصوصًا في منطقة الشمال بحيث تضعف مرجعية تيار المستقبل، ويتم بشكل مواز تركيب لوائح انتخابية ضده قادرة على التغلغل من خلال هذه الثغرة.

2- 

ترجمة التخويف من الأصولية السنية إلى أقوى أداة انتخابية بيد العماد ميشيل عون لكي يستعملها في الوسط المسيحي كقوة قادرة على إعطائه إمكانية الفوز على اعتبار أن هذا التخويف من الدور السني الأصولي سيكون بمثابة تكرار لبروفة التحالف الرباعي الذي أدى إلى إعطاء العماد عون فوزًا مسيحيًا كاسحًا" [الوطن العربي 20/8/2008].

ويمكن إضافة أمر آخر، هو تفكيك التيار السلفي ذاته واختراقه من الخاصرة الرخوة فيه عبر التلويح ببعض المكتسبات البراقة له، ثم سحبها بعد التورط في توقيع الوثيقة أو القبول بقدر منها فيما بعد مثلما يحدث مع جبهة الدكتور فتحي يكن وغيره.

لابد ألا ننسى أن زعيمين شهيرين سنيين في الجانب الإسلامي السني ـ أعني بأنهما من التيار الإسلامي اللبناني بخلاف ممثلي السنة الآخرين ـ هما الشيخان بلال شعبان وهشام منقارة هما أيضاً قريبان من "حزب الله" بدرجة ما، ما يجعل من يزرع الريح في الصف السلفي يحصد عاصفة، وتلك مؤخراً تتمثل في عدد غير قليل من القوى السلفية الصغيرة والمحدودة لكنها ليست منعدمة أو غائبة.

وعدم انسحاقها وتراجعها على خلفية تراجع الوثيقة ذاتها يتجسد في قدرة الموقعين في الجانب السلفي على حشد أسماء وإن لم تكن بارزة ويمثل بعضها قوى سلفية كرتونية أو ضئيلة، ما يجعل البناء الحزبي ناجز وفعال، ومن الممكن أن يتحمل عدداً من الأدوار الخشبية عليه؛ فالذين حضروا توقيع الوثيقة كانوا، عن "التيار السلفي" ممثله الشيخ حسن الشهال وممثلون عن: معهد الدعوة والإرشاد، دعوة الإيمان والعدل والإحسان، وقف التراث الإسلامي، جمعية الأخوة للإنماء والتربية، جمعية التوعية للإنماء والتربية، وقف الخير الإسلامي (الضنية)، تجمع سنابل الخير (عكار)، رئيس مجلس أمناء وقف التراث الإسلامي الشيخ صفوان الزعبي، الدكتور محمد عبد الغني، الدكتور بشار العجل، الشيخ علي الشيخ، الشيخ أمين إبراهيم، الشيخ محمد الزعبي، الشيخ طارق بكراكي، الشيخ عامر الزاخوري، الشيخ محمد العويد، الشيخ جمال شحادة، الشيخ عبد الغفار الزعبي، الشيخ عبد المجيد المحمد، الشيخ سامر شحود، الشيخ عمر مشهور، الشيخ عمر حيدر، الدكتور خالد الخير، وهم بذلك رقم لا يمكن تجاهله لا عددياً وإنما تأثيرياً على المدى البعيد على الأقل.

وإذا كان القسم الأكبر من الجانب السلفي رفض هذه الوثيقة؛ فإن بعضهم وإن تراجعوا لاقوا من يصفونهم بالنواصب والتكفيريين بالأحضان والقبلات، ووقعوا معهم وثيقة حوت بنوداً ملغومة.

وإن كان بعض قادة السلفيين وشيوخهم قد نأوا بأنفسهم عن رفض مبدأ الحوار واعتبر بعضهم بنود الوثيقة في حد ذاتها لا تحمل ما يرفض من حيث الأصل، وإنما ما يترتب على ذلك من تبييض وجه "حزب الله" ومنحه الشرعية في الوسط الإسلامي السلفي؛ فإنه من المهم أن نلفت إلى أن بنود الوثيقة حملت ـ كما تقدم ـ بنوداً مفخخة، من بينها ذاك البند رقم 5 ، والذي ينص على أنه "في حال تعرض حزب الله أو السلفيون لأي ظلم ظاهر وجلي من أطراف داخلية أو خارجية على الطرف الآخر الوقوف معه بقوة وحزم ضمن المستطاع"، وهذا معناه تلقائياً أحد أمرين، إما أن السلفيين الذين وقعوا على الوثيقة يعتبرون أنفسهم هم أهل السنة وليسوا جزءًا من المنظومة السنية في لبنان، وبالتالي فإن من حقهم الحديث باسم جموع أهل السنة هناك، وهذا مستبعد لأنهم بالأساس لا يدعون أنهم يمثلون حتى الصف السلفي نفسه لأن القسم الأكبر من السلفيين لم يشاطروهم الرأي أو الموقف حيال الوثيقة والتوقيع عليها، وإما أنهم يشرعنون لأنفسهم الوقوف مع "حزب الله" في خندق واحد إذا ما تعرض لـ"ظلم ظاهر وجلي من أطراف داخلية أو خارجية" بما يشمل ذلك بالطبع إخوانهم السلفيين أو بقية أهل السنة إذا ما "ظلموا حزب الله"!!

 

على كل حال؛ فإننا الآن إزاء تشظي واضح في الموقف السني، لم تجره الوثيقة وحدها، وإنما عدم تمكن السنة في لبنان في إنضاج موقف ثابت ينبثق من توحيد أطر العمل السياسي السني هناك، وفي ظل رغبة من "حزب الله" في ممارسة خطة على عدة محاور لتغييب السنة عن المشهد السياسي اللبناني، يتمحور حول شراء بعض الزعامات السنية لاسيما تلك السياسية التاريخية من رؤساء الحكومات السابقة في ظل الحكم السوري للبنان، والتحالف مع قوى إسلامية سنية على نحو يفارق مساحة حسن الظن المفترضة لمثل هذه القوى، كالحال مع جماعة د.فتحي يكن أو هشام منقارة أو بلال شعبان، وإضعاف تيار المستقبل في المقابل، سواء عبر إبراز زعامات سلفية مناوئة له، أو عبر إشعال الجبهة في باب التبانة المطلة على جبل محسن بطرابلس، والتي تفعل عملية تجزئة المواقف السنية، وإشعار السنة بعجز تيار المستقبل في مقابل تيار سلفي قد يكون مضطراً إلى منازلة العلويين في جبل محسن الذين يرفدون بأسلحة يتوقع الشيخ داعي الإسلام الشهال أنها تأتي من "حزب الله" نفسه، لكنه إن اندحر أضعف الموقف السني بالجملة في طرابلس، وإن حقق انتصارات على العلويين فإنه سيخصم من رصيد تيار المستقبل، وفي الحالين "حزب الله" هو الرابح على خلفية كسر الإجماع السني حول التيار.

وبالأخير؛ فإن السلفيين مدعوون في الحقيقة إلى فهم الخريطة جيداً وعزل أي قوى كرتونية يمكنها أن تجسد "تيساً مستعاراً" لزواج محكوم بالفشل.