الدكتور الغالي أحرشاو : القيم تلعب دورا حاسما في تكون هوية الإنسان ونضجه النفسي

يؤكد الخبير التربوي والنفسي المغربي الأستاذ الدكتور الغالي أحرشاو في حواره مع موقع المسلم أن المشاكل والمعوقات التي تحد من فعالية التربية الأسرية تتجلى في عوامل الجهل والتخلف والفقر والأمية التي ما تزال تستشري في مجتمعاتنا العربية، فضلا عن تراجع الأسرة في وظائفها وأدوارها التربوية والتثقيفية، مبرزا أهم أعراض صراع القيم الذي يعيشه الطفل او المراهق،ومظاهره في علاقته بالتحصيل الدراسي، وكذلك الطرق والأساليب التربوية الأسرية الملائمة لتفادي هذا الصراع أو توجيهه إلى ما يفيد الطفل والمراهق في حياته ومستقبله.
وفي الحوار قضايا تربوية ومعرفية هامة اخرى..لنتابع:
   المسلم:. كمتخصص تربوي تناولت في أحد كتبك "العلم والثقافة والتربية" مسألة تربية الطفل في السنوات المبكرة خاصة في رياض الأطفال، فهل يمكنك أن تصف لنا صفات هذه المرحلة الهامة في حياة الطفل؟
-  الواقع أن الاهتمام بالطفولة، بمعنى رعايتها وتربيتها وتعليمها، صار يمثل أحد الرهانات الأساسية الذي تضعه المجتمعات المتقدمة في مستهل انشغالاتها التنموية وذلك بفعل اقتناعها بأن الاستثمار في هذا المجال لابد وأن يفضي إلى نتائج اجتماعية واقتصادية هامة جدا، ويوفر على المجتمع أموالا ومجهودات كبيرة غالبا ما يضطر إلى إنفاقها مستقبلا في محاربة الجهل والأمية والفقر والانحراف. وهذا ما يبرهن على أن عهد النظر إلى هذا النوع من الرعاية والتربية والتعليم كضرب من الترف والضياع للوقت والجهد والمال قد ولّى وانتهى، بحيث أصبح يمثل مرحلة إعدادية ضرورية لولوج مراحل التعليم اللاحقة ثم الأرضية اللازمة لتنمية شخصية الطفل في مختلف أبعادها الوجدانية والمعرفية والاجتماعية والفنية.
          بالتأكيد أن التحولات التي شهدها المجتمع المغربي مؤخرا في مجالات الاقتصاد والثقافة والتكنولوجيا والإعلام، قد ساهمت إلى حد كبير في مضاعفة الاهتمام بالطفولة وبأساليب تربيتها وإعدادها للتمدرس المنظم. فإذا كانت الكتاتيب القرآنية قد تنامت واستمر وجودها كإرث ثقافي داخل مجتمعنا، فإن الإقبال على رياض الأطفال ومؤسسات التعليم الأولى بمفهومها العصري، جاء نتيجة تحولات عميقة شملت بالأساس بنيات الأسرة والمدرسة ووظائفهما. فظهور الأسرة النووية وخروج المرأة إلى ميدان العمل وتطور الوسائل السمعية البصرية ونهج سياسة تعميم التعليم ليشمل جميع الأطفال وينتشر بكامل أنحاء البلاد، كل هذا ساعد على ازدياد الحاجة إلى البرامج التربوية المبكرة وعلى وضع صغار الأطفال في مؤسسات وفضاءات تربوية تتوفر فيها شروط الأمن والسلامة والرعاية فضلا عن ظروف التثقيف والتكوين والتحضير للتمدرس الأساسي. فاغلب الأدبيات العلمية، وخاصة تلك التي تحكمها مرجعيات سيكولوجية وتربوية، تجمع على أهمية السنوات الخمس الأولى من الحياة وعلى دور أساليب الرعاية والتربية المتبعة خلالها في تشكيل ملامح شخصية الطفل المستقبلية وفي تفتق قدراته ومهاراته على التعلم والإكتشاف وحب العمل والنجاح. فالواضح من معظم نتائج هذه الأدبيات أن الأطفال الذين يستفيدون من تعليم أولي أثناء هذه المرحلة عادة ما يتميزون عن غيرهم ممن لم يستفيدوا من هذا النوع من التعليم بالتفوق الدراسي وبالحافزية العليا والأداء الماهر ثم التواصل الجيد.
 
المسلم. في مرحلة رياض الأطفال، تتحدد العديد من ملامح شخصية الطفل وتتمظهر العديد من المشاكل والصعوبات التي يمكن أن يتعرض إليهاالطفل. هل لكم أن توضحوا لنا كيف تتكون شخصية الطقل في هذه المرحلة؟؟
-    الحقيقة أن الطفولة كمرحلة نمائية تمتد من الميلاد إلى سن الرابعة عشرة، أصبحت تشكل ظاهرة سيكولوجية فريدة ومتميزة، يحكمها سياق زمني محدد وإطار موضعي معين. فهي ذات سيكولوجية مفردة ومرنة، تتعلم المعارف وتنشئ النظريات وتحل المشاكل منذ سن مبكر في إطار سياقات محددة تؤطرها علاقات التفاعل المختلفة وبالخصوص داخل مؤسسات الأسرة والتعليم الأولي (رياض الأطفال). إنها ليست لا بالذات السيكولوجية الراشدة ولا بالذات الإبستيمية الكونية، بل هي بالتحديد ذَاتٌ لها من الاستعدادات والطاقات والكفايات والاستراتيجيات ما يؤهلها لأن تشكل ظاهرة سيكولوجية قائمة الذات، تتميز بالفردانية والفرادة، بالفاعلية والتفاعلية، بالتحول والتغير، بالبنينة والتنظير، وتستحق كامل العناية على مستوى البحث والتقصي وكل الرعاية على مستوى التنشئة والتربية والتعليم. فإذا كان الطفل يتعلم باستمرار ويُبَنْيِنُ ما يكتسبه من معارف بانتظام، فإنه نادرا ما يبقى بعيدا عن مواجهة صعوبات في الاكتساب والتعلم ومشاكل في النمو والتكيف. فقد صار من المؤكد أنه لا يكفي أن يتمتع الطفل بقدرات ذهنية عالية وبكفايات معرفية بارزة لكي يتوفق في تحقيق كل المهام بسهولة ونجاعة، بل المفروض أن ينجح أيضا في التوظيف الجيد لهذه القدرات والكفايات في شتى مجالات الحياة. والواقع أن المشاكل والصعوبات التي يواجهها الطفل، وإن كانت تتميز بالتنوع الكبير، فهي تتحدد في صنفين اثنين:
* صنف عادي يرتبط بالفشل في التعلم والتواصل والتكيف وغيرها من الأنشطة. وهنا نجد الطفل يستخدم مجموعة من الاستراتيجيات من تلقاء ذاته ليتجاوز مثل هذه الصعوبات وفي مقدمتها استراتيجيات فكرية صريحة كالتخطيط والاستدلال وكل ما يرافقهما من إجراءات توقعية واستنباطية واستقرائية وقياسية، ثم استراتجيات طبيعية ضمنية كالتوجيه والانتباه وتغيير تمثل الوضعية.
* وصنف مضطرب يرتبط بالفشل الناجم عن خلل في النمو كما يتجلى ذلك في التأخر الذهني وعسر القراءة وصعوبة الاندماج. وتوجد لدى الطفل الذي يعاني من مثل هذا الخلل، وبالخصوص إذا كان خللا خفيفا أو متوسطا، ليونة في قدراته المعرفية وقابلية لتعلم الاستراتيجيات الملائمة لتجاوز مثل هذه الصعوبات. فقد أصبح من المسلم به أن كثيرا من المتعلمين الذين هم في وضعية تعثر دراسي مثلا يعانون في الواقع من نقص واضح في مراقبة اشتغالهم المعرفي وتضبيطه. ويعني هذا أن سبب فشل هؤلاء يرتبط بالعجز في الاشتغال وليس بالنقص في القدرة. وهنا تكمن أهمية طرق التشخيص المعرفي وفعالية برامج التربية المعرفية، وخاصة على مستوى تعليم الطفل صاحب الصعوبات في النمو والتعلم والتكيف، الاستراتيجيات اللازمة لتحسين تعلماته وإثراء أداءاته عبر توعيته بأهمية تعلم هذه الاستراتيجيات وإيجابيات استعمالها في حالات الفشل الذي يعود في الغالب إلى المجهود الشخصي الضعيف أو الإحساس بالعجز المكتسب.
 
المسلم :. لك أيضا كتاب بعنوان :"التربية الوالدية في العالم الإسلامي" صدر عن المنظمة الإسلاميةالإيسيسكو، عالجت فيه  حاجة الأبوين إلى  التوعية بدورهما التربوي. فما هي مقومات ودعائم هذا الدور في نظرك؟ وماهي أبرز معوقاته وأنجع الحلول لتجاوز هذه الأخيرة؟
-  فعلا لقد حاولت في تلك الدراسة أن أوضح أن كل تربية كيفما كان نوعها أو شكلها لها من المقومات والخصائص ما يجعلها قادرة على أداء رسالتها. وهذه المقومات والخصائص عادة ما تنبني على أسس ومبادئ تحكمها وعلى غايات وأهداف توجهها وعلى محددات وعوامل تؤطرها وعلى آليات وأساليب تسيرها ثم على مشاكل ومعوقات تحد من فعاليتها. وإذا كانت التربية الوالدية كما تمارس عندنا لا تشذ عن هذا التحديد فإن أهم مظاهرها تتلخص من وجهة نظري في العناصر التالية:
 * فبخصوص المبادئ، فهي تتحدد في أسسالثقة في الطفل وتأطيره وفق أساليب مرنة ودقيقة ومراقبته قصد حمايته من المعاشرة السيئة وتخليق سلوكاته وفق معايير الحياة الاجتماعية الصحيحة المتمثلة أساسا في العدل والصدق والاستقامة والنزاهة والتمييز بين الضار والنافع، بين القبيح والجيد، بين الحرام والحلال...إلخ، ثم تعليمه طقوس وتقاليد التفاعل الاجتماعي وخاصة تقنيات التواصل مع الآخر ومهارة الحياة وآدابها، فضلا عن تمكينه من تمثل الذات وبناء هويته على أسس صلبة.
 * وبخصوص الغايات والأهداف، فهي تكمن من جهة في تحقيق تفتق الطفل الشخصي من خلال إشباع رغباته البيولوجية والعاطفية وحاجاته الأمنية والذاتية. ومن جهة أخرى في تحقيق تكيف الطفل واندماجه الاجتماعي من خلال تضبيطه وجعله قادرا على تحديد غاياته والتلاؤم مع القوانين والأعراف ثم التعاون مع الآخرين وذلك بناء على مراقبته وتوجيهه.      
 * أما بخصوص العوامل والمحددات، فالأكيد أن الممارسة التربوية للوالدين تجاه أطفالهم، تشكل حصيلة اتجاهاتهم وتمثلاتهم في مجال التربية. وهذه الاتجاهات والتمثلات تكون بدورها متأثرة بالانتماء الاجتماعي والثقافي إلى حد أن شخصية الأبوين وذكائهما يتوقفان على التاريخ العائلي وتغيراته الاجتماعية. فالنسبة الكبيرة من العلاقات ذات التأثير على نمو الطفل وتوافقه النفسي والاجتماعي والدراسي تعود إلى المحيط الاجتماعي والوقائع الأسروية وخاصة فيما يتعلق بخصائص شخصية الوالدين وتكيفهما الاجتماعي واتجاهاتهما التربوية.
 * وفيما يرجع إلى الأساليب والممارسات التربوية المتبعة فهي ما تزال تفتقر إلى أبسط الإجراءات واللوازم، بحيث أن هذه الأخيرة لا تتجاوز في كثير من الأوساط العربية حدود التسلط والقمع والتخويف والترهيب أحيانا ومظاهر التسيب والانحلال والإهمال واللامبالاة أحيانا ثانية ثم تصرفات الإفراط في الدلل  التباهي وحب الظهور أحيانا ثالثة.
 * وفيما يعود إلى المشاكل والمعوقات التي تحد من فعالية التربية الوالدية عندنا، فهي تتجلى في مظهرين. أولهما يتحدد في تحديات كبرى تترجمها عوامل الفقر والتخلف والجهل والأمية التي ما تزال تستشري في مجتمعاتنا العربية، فضلا عن تراجع الأسرة في وظائفها وأدوارها التربوية والتثقيفية. وثانيهما يتجلى في نواقص وقصورات بارزة تعوق فعالية هذه الممارسات، ويتحمل فيها الوالدان النصيب الأوفر نظرا لاعتبارات عديدة أهمها:
  الافتقار إلى بيداغوجيا تربوية، بحيث أن التربية الوالدية الحقيقية هي التي تؤطرها بيداغوجيا تربوية فعلية. فبدون هذا التأطير البيداغوجي لا يمكن لأية تربية والدية أن تحقق أهدافها ومراميها على مستوى الممارسة بل ستبقى، كما هو حال جل الممارسات التربوية الوالدية عندنا نحن العرب، مجرد مواقف مزاجية متذبذبة وسلوكات عشوائية متناقضة، تحكمها في الغالب مظاهر التأرجح بين التسلط والتساهل وبين النبذ والحماية المفرطة.
 الافتقار إلى مرجعية سيكولوجية، بحيث أن جل الممارسات التربوية الوالدية عندنا ما تزال تفتقر إلى مرجعية عن سيكولوجية الطفل. فعلى أساس أن النظرية التي يحملها كل أب أو كل أم عن سيكولوجية أبنائه، هي التي تكون المرجعية الأساسية المحددة لأساليب معاملاته وممارساته التربوية تجاه هؤلاء، فإن طبيعة هذه الأساليب والممارسات قد تتوزع بين الصحيح والخاطئ، بين الفعال وغير الفعال وبين السلبي والإيجابي تبعا لنوعية هذه النظرية. فكلما كانت علمية تحكمها معطيات ومعارف سيكولوجية وتربوية دقيقة، كلما أدت بصاحبها إلى أن يسلك في ممارساته تجاه أطفاله أساليب كلها مضمونة النتائج ومحمودة العواقب نظرا لمرونتها وعقلانيتها ودفئها وتأطيرها الجيد. وكلما كانت خرافية أو ساذجة، كما هو الحال مع الأسف لدى الكثير من الآباء والأمهات في مجتمعاتنا، حيث تنبني على أفكار ووقائع إما وهمية غير صحيحة وإما ناقصة غير دقيقة، كلما دفعت بصاحبها نحو أساليب تربوية عديمة الجدوى ومحدودة الفائدة بفعل تذبذبها وعشوائيتها وتناقضها.
  الافتقار إلى استراتيجية تربوية مضبوطة الأهداف ومحكمة الإجراءات، بحيث أن التربية الوالدية الممارسة عندنا ما تزال بعيدة كل البعد عن هذه الاستراتيجية نتيجة محدودية كفاءة الوالدين في تربية أبنائهم وتوجيههم والإشراف عليهم بالإضافة إلى ترجيح كفة التربية الوجدانية على التربية المعرفية. فإذا كان كل من غياب عطف الأم وسلطة الأب يمثل كارثة حقيقية بالنسبة لتربية الطفل وتحقيق تكامله النفسي والاجتماعي، فإن درجة معرفة الطفل لوالديه وتعلقه بهما لا تتوقف كما يتوهم الكثيرون على عدد الساعات التي يقضيانها معه، بل تتوقف أساسا على نوع هذه الأبوة بكل ما توظفه من أساليب معاملة وطرق تربوية. فالأبوة أو الأمومة الحكيمة لا تقاس بعدد الساعات داخل البيت بل ترتكز من جهة على ما يمنح للطفل من حب ومودة وعناية، ومن جهة أخرى على ما يقدم له من أشكال التحفيز والحث البيداغوجي المتمثل خاصة في مراقبة تصرفاته وتحريض أنشطته وتخليق سلوكاته وتطوير علاقاته وذلك من خلال إمداده بالقيم الأخلاقية وعادات التفاعل والتواصل وإكسابه المعارف والتمثلات الخاصة بالهوية.
  * وأخيرا فمن ضمن الحلول التي يمكن التأكيد عليها بهذا الخصوصهي أن "حرفة الوالدية" لا يتم تعلمها في أي مكان عندنا. فهي عبارة عن مسؤولية يتحملها كل أب وكل أم، بل الأدهى من كل هذا هو أن الدروس والبرامج التي تعالج حياة الأسرة ونمو الطفل وتربيته كثيرا ما تبعث في مجتمعاتنا على التهكم والسخرية إما لعدم وجودها بالمرة وإما لضعف مستواها وهزالة مقابلاتها المادية إن وجدت. هذا مع العلم أن الأهلية الوالدية الجيدة تشكل المهمة الأساسية التي ستواجهها في تقديرنا هذه المجتمعات. فإذا كانت المدارس الثانوية الأمريكية تقدم دروسا حول سيكولوجية الطفل ويشارك فيها أطفال صغار ليتعلموا كيف سيصبحون آباء في المستقبل فإن بلداننا خالية من هذه التجارب التي تدخل في إطار استراتيجية تربوية هادفة، قوامها توعية آباء المستقبل بأدوارهم التربوية ومسؤولياتهم البيداغوجية. فنحن لا نشك حاليا في أن نسبة الآباء الواعين عندنا بأهمية دورهم التربوي ماتزال ضئيلة وضئيلة جدا. وهذا ما يؤكد على أن تربية هؤلاء عن طريق التوعية والتحسيس أصبحت من الأمور الملحة بحيث صار من الضروري تفادي خطاب الوعض والنصائح والتشبث بالخطاب العلمي المبني على كيفيات إنتاج استراتيجيات جديدة، قوامها التوفير الجيد للمحيط الذي سيحفز الطفل من الناحية المادية والثقافية والسلوكية والمعرفية على صناعة نموه الشخصي وعلى تحقيق تكيفه الاجتماعي. وأحسن ما يمكن القيام به في هذا النطاق هو توفير مختلف المواد والوسائل التثقيفية المتنوعة للوالدين قصد توعيتهم بأهمية وخطورة دورهم التربوي.
 
المسلم :. قد يعيش الطفلوالمراهق ما يمكن تسميته "صراع القيم "،  ماهي برأيك أهم أعراض هذا الصراعومظاهره في علاقته بالتحصيل الدراسي؟
·   القيم تلعب دورا حاسما في تكون هوية الإنسان ونضجه النفسي واندماجه الاجتماعي لكونها هي التي توجه سلوكات الأشخاص وتصرفاتهم، فإنها بالتالي هي التي تُكوِّن مصدر الدوافع اللازمة للمجهود الذي يتطلبه كل نجاح في الحياة. وهذا معناه أن القيم وبفعل تدخلها كمثير وكمعزز لسيرورة هذا النجاح، هي التي تسهل عملية نمو الطفل وتكيفه وتعلمه وتوافقه عبر السماح له بتجنيد مختلف طاقاته وقدراته ومؤهلاته. فإذا كان دورها هذا يبدو رئيسيا في توجيه سلوك الطفل وتصرفاته وذلك عبر جملة من الأحكام والمواقف المتعارضة أحيانا من قبيل: جيد- قبيح، مسموح-ممنوع، صحيح-خاطئ...الخ، فإننا لا نستبعد ما تمثله من تأثير إيجابي أو سلبي في مظاهر نجاحه أو فشله في شتى مجالات الحياة. إننا لا نشك في أهميتها ومفعولها البين في سيرورات التعلم والتكيف والتواصل والاندماج. فهي التي تضطلع في كثير من الحالات بالوظيفة التدعيمية المسهلة لظاهرة النجاح أو الفشل في شتى مناحي الحياة الأسرية والمدرسية والمهنية...إلخ.
لتوضيح هذه المسألة، نشير إلى أن معاينة سريعة لمضامين الثقافة الشعبية المغربية على سبيل المثال، بكل ما تنطوي عليه من قيم ومواقف واتجاهات قوامها: الصرامة أحيانا والمرونة أحيانا واللامبالاة أحيانا أخرى، تكشف لنا عن حقيقة مثيرة وهي أن فشل أبناء الفئات الاجتماعية المحرومة، يرجع إلى الصراع الذي يعيشونه على مستوى القيم التي باطنوها داخل أوساطهم الأسروية (وهي في مجملها قيم تقليدية عتيقة) والقيم الجديدة التي تفرضها عليهم الأوساط المدرسية ( وهي في مجملها قيم حديثة عصرية). ففشلهم الدراسي هذا يعود في اعتقادنا إلى عدة عوامل أهمها: اللانضباط، رفض القيم المدرسية، الفقر اللساني ورفض السيرورات المعرفية التي تحث على التحليل والمسؤولية والاستقلالية والمبادرة. وقد يلاحظ من الربط بين هذه المواقف التي تتوزع بين الخمول واللامبالاة ورفض التمدرس وبين المحيط السوسيوثقافي لهؤلاء، أن مظاهر القصور الذهني لا تمثل العوامل الحقيقية لفشلهم الدراسي، بل إن عوامل موضوعية أخرى، وفي مقدمتها عامل "اللإستمرارية" بين قيمهم الأسروية التقليدية والقيم المدرسية الحديثة هي المسؤولة عن هذا الفشل. وفي إطار التأكيد على أهمية هذا العامل نشير في المقابل إلى أن انسجام قيم الأسرة مع قيم المدرسة، كما هو الحال عند أبناء الفئات المحظوظة، يفضي بكل تأكيد إلى نتائج ممتازة على مستوى التحصيل والاكتساب والتوافق. في حين أن التباين بين قيم الأسرة وقيم المدرسة، كما هو الحال لدى أبناء الفئات غير المحظوظة، يؤدي حتما إلى نتائج سلبية قوامها الفشل وعدم التوافق الدراسي. وإن هذا التباين أو الصراع في القيم هو الذي يُولِّد لدى أبناء هذه الفئات الأخيرة أشكالا متعددة من المقاومة لسيرورات الاكتساب وقيم الحداثة وحالات متنوعة من الخمول والكسل واللامبالاة وعدم الانتباه، فضلا عن الرفض والعصيان والتمرد.
 
    لابد من التأكيد أولا على أن الممارسات التربوية لا تنبني على بعد واحد للأسلوب الوالدي في التعامل مع الطفل، بل هناك إقرار بوجود أشكال متنوعة من الأساليب التربوية تحكمها مجموعة من الأبعاد المتمثلة خاصة في: المراقبة الناجعة، التواصل الفعال والدفء الوالدي. لكن رغم كثرة هذه الأساليب وتنوعها يمكن مع ذلك التركيز على ثلاثة نماذج منها، هي التي نلمس فيها الأصناف الملائمة للتعبيرمن جهة عن مختلف أشكال الممارسات التربوية الوالدية عندنا ومن جهة أخرى عن مظاهر وإمكانيات تجاوز إشكالية صراع القيم السابقة الذكر:
* نموذج الممارسة الضعيفة الذي يعبر عن الممارسات التربوية التي لا يحكمها أي سلوك ثابت أو قواعد عامة وقارة توجه تصرفات الطفل وأفعاله. فهذا الأخير لا يعرف مثلا متى سينام، ولا شيء يعوقه عندما يريد مشاهدة التلفاز أو ممارسة أي نشاط يريده. فلديه كامل الحرية ليفعل ما يشاء ومتى يشاء. والحقيقة أن هذا النموذج الذي يعتبر الأقل ملاءمة أو الأكثر ضررا على تربية الأبناء بحيث أنه يشكل مصدر اللاتوازن بالنسبة لنمو الطفل وتكوينه وتكيفه، هو الذي تندرج ضمنه في الغالب الممارسات التربوية للآباء المنتمين إلى الفئات الاجتماعية الضعيفة من حيث المستوى السوسيواقتصادي والثقافي. فالأمر يتعلق هنا بالآباء الذين وبفعل ظروفهم المادية المزرية والإمكانيات الثقافية المحدودة أو المنعدمة نجدهم يعاملون أطفالهم إما بنوع من التذبذب الذي يصل أحيانا إلى درجة من التناقض في المواقف وبالنسبة لنفس الوضعية، وإما بنوع من المزاجية المتقلبة التي تلعب فيها الحالة النفسية للوالدين الدور الحاسم، وإما بنوع من الإهمال التام لواقع الطفل، وحاجاته البدنية والعاطفية والمعرفية. وإن نشأة الطفل في ظل ممارسة تربوية تهمله ولا تعيره أدنى اهتمام على مستوى الدفء العاطفي والإشباع البيولوجي والتأطير التربوي لابد وأن يفتقر إلى مقومات الشخصية السوية القادرة على التكيف الجيد وعلى مواجهة مشاكل الحياة بشتى مظاهرها ومختلف تحدياتها.
* نموذج الممارسة الصارمة الذي يُقصد به السلوك القار المحكوم بقواعد ثابتة لا تتغير مهما كانت الظروف والأوضاع، بحيث على الطفل أن ينام في وقت محدد ولا يشاهد التلفاز إلا بإذن من الوالدين ولا يزاول إلا الأنشطة التي يحددانها له. وتندرج ضمن هذا النموذج الممارسات التربوية للآباء من الفئات الاجتماعية ذات المستوى الاقتصادي والثقافي المنخفض أو المنعدم تماما. بمعنى أن الأمر يتعلق هنا بالأساليب التربوية التي يمارسها الآباء الذين عادة ما لا يتناسب مستواهم المادي والثقافي مع إشباع رغبات الطفل وتحقيق تكيفه ونموه. وهي الممارسات التي تتميز إما بالتسلط والسيطرة وكل ما يواكب ذلك من أساليب الحرمان والصرامة والقسوة والعقاب وتقييد لحركته وحريته، وإما بالمبالغة في الرعاية والحماية وكل ما يرافق ذلك من أساليب العناية الزائدة بصحة الطفل وتعليمه والخوف عليه من أقرانه. والواقع أن معايشة الطفل لنموذج يتميز بهذه المواصفات لابد وأن يخلق لديه شخصية ضعيفة من أبرز سماتها الشعور بالدونية وفقدان الثقة والخوف والعجز وبالتالي الفشل في التكيف والاندماج والتحصيل ومواجهة مشاكل الحياة. وهو الذي يؤدي به إلى ممارسة سلوكات عدوانية على شكل ردود أفعال منحرفة كالسرقة والتخريب والاعتداء والتشرد.
* نموذج الممارسة المرنة الذي يشير إلى تلك السلوكات الثابتة أو القواعد العامة لبعض الآباء والتي يمكنها أن تتعدل حسب الظروف، بحيث لابد للطفل أن ينام مثلا في وقت محدد ولكن إذا كان يوم الغد عطلة يمكنه أن يسهر، ويشاهد التلفاز حينما يرغب لكن باحترام بعض الشروط ومنها نوع البرامج ثم زمن ومدة الإرسال. وبإمكانه أن يزاول الأنشطة التي يرغبها ولكن بشروط. وهذا يعني أن القواعد ليست هنا جامدة بل تتقولب تبعا للظروف والأحداث. وإذا كانت هذه الممارسة تمثل في آن واحد خاصيات الممارستين الصارمة والضعيفة، فإنها تعتبر أكثر ملاءمة للتربية الهادفة وتوجد في الغالب لدى الآباء من الفئات الاجتماعية المثقفة الميسورة. فضمن هذا النموذج تدخل الممارسات التربوية للأباء المنتمين إلى الأوساط السوسيواقتصادية والثقافية المرتفعة أو المتوسطة على أكثر تقدير. ومادام أن هذه الأوساط هي القادرة في الغالب على تلبية جميع رغبات أبنائها فإن حظوظ هؤلاء عادة ما تكون وافرة لكي يتربوا بطريقة أفضل ويتعلموا بصورة أجود.
      والحقيقة أن نموذج الممارسة المرنة هذا هو الذي يعكس مواصفات الممارسات التربوية الوالدية الصحيحة التي توفر الإشباع المنتظم لحاجيات الطفـل والمتمثلـة في: المرونة، الحرية، التقبل، التسامح، العدل، الحوار، الالتزام، العقلانية، التأطير والدفء الوالدي. فالطفل الذي يترعرع في كنف هذه الممارسة التربوية المرنة عادة ما يتميز بسمات الشخصية السوية المتمثلة أساسا في الثقة في النفس والتقدير العالي للذات وتحمل المسؤولية والشعور بالأمن والكفاءة في التحصيل وفي التواصل والمهارة في حل المشاكل ومواجهة مواقف الحياة المختلفة.
 
المسلم :   في نظركم ماهي المعوقات الذاتية والموضوعية التي تقف حاجزا أمام مشروع تحديث المنظوماتالتربوية والتعليمية العربية؟ وماهي الحلول التي تقترحونها لتجاوز تلكالمعوقات؟
- هذا سؤال هام يستدعي مساحة أوفر ضمن هذا الحوار. فإشكالية التعليم ووظيفته التنموية أضحت تمثل واحدة من التحديات الكبرى التي تواجه المجتمعات العربية. فهذه حقيقة لا نقاش فيها لأنها تحظى بإجماع الجميع وتدعمها قرائن ووقائع تصب كلها في الاتجاه القائل إن مصير مختلف الشعوب والأمم في هذا القرن الجديد وسبيلها إلى النهضة المرتقبة يتوقفان إلى حد بعيد على مدى نجاعة نظمها التعليمية وفعالية سياساتها التربوية في مجال تحديث المجتمع وتأهيل الإنسان لمواكبة تطورات العصر الجديد وتحدياته المهولة وخاصة في مجال الثورة الرقمية وتكنولوجية المعرفة والإعلام.
فالأكيد أن المنظومة التربوية التي تمثل الأداة الناجعة لتنمية المجتمع وتحديث بنياته عبر تحسين أحوال الناس وتطوير السلوكات والممارسات ما تزال تتخبط عندنا نحن العرب في متاهات ودوائر لامتناهية من المشاكل والصعوبات التي غالبا ما تحكم على خططها وسياساتها بالتعثر وعلى جهودها ووعودها باليأس وعلى توجهاتها وآفاقها بالانطفاء والانسداد. فرغم اختلاف الرؤى والتصورات وتباين الوسائل والطرق وتناقض المنطلقات والمرجعيات فإن محددات هذه المنظومة وبإجماع الكثيرين ماتزال تقليدية في محتوياتها ومضامينها، محافظة في أسسها ومبادئها، جامدة في توجهاتها وآفاقها ورافضة لمنطق التجديد والتحديث. وأكثر من ذلك فإن هذه المنظومة وفي سعيها المتتالي نحو الابتكار للرقي إلى ما هو أفضل، تجد نفسها أمام جملة من قيود الواقع ومعوقاته. فهي أمام واقع اقتصادي يحبس انطلاقتها وتركيب اجتماعي يشل حركتها ووضع ثقافي يشد مسيرتها إلى الوراء ويحوّل جهودها ووعودها أقاويل وأحلام خادعة. فبالإضافة إلى تذبذبها بين التشبث بأصالة الماضي ومجده الخالد وبين الانفتاح على حداثة الآخر ومستقبله الزاهر، فهي تتحرك داخل بنية مجتمعية تقليدية في عمقها، توجّهها سلطة الأسس والمبادئ المحافظة ويحكمها منطق المحدّدات والأساليب العتيقة وتسيّرها ذهنية الحلول والشعارات الفضفاضة. فهذا واقع يدركه ويشعر به كل مهتمّ بالمنظومة التربوية العربية، بل هو واقع فكري يعبّر عن مفهومنا للفعل التربوي ضمن نظرتنا إلى الحاضر والمستقبل وكل ما يرتبط بهما من رهانات وتحدّيات استراتيجية.
والمؤكد أن واقعا من هذا القبيل لابد وأن تتولّد عنه نتائج شتّى وفي مقدمتها الإقرار بحاجتنا إلى فكر تربوي جديد يؤسّس نظرته إلى الذّات والواقع والمستقبل والآخر على مفاهيم وتصورات مغايرة، قوامها تعريّة الذات التربوية أمام عيوبها وكشف مكوّناتها وحدودها قصد صيّاغة عناصرها التّنويريّة وبلورة سيروراتها وآلياتها الفاعلة التي تستبدل مظاهر النقل والتّبعيّة والاستهلاك بمظاهر الإبداع والاستقلالية والإنتاج. فالأمر يتعلق برهان إعادة النظر في هذا الفكر من خلال وعي مصادر انحطاطه وشقائه، وبالتالي تأسيسه من جديد على مبادئ وأهداف يؤطّرها مناخ اجتماعي تسوده عناصر الحريّة والعقلانية والانفتاح التي تشكّل الأدوات اللازمة لكل تنوير أو تجديد في هذا المضمار.
     يبدو إذن أن الصياغة الجديدة لعناصر منظومتنا التربوية أصبحت تشكّل إحدى القضايا الجوهرية التي من المفروض أن تستقطب بالغ اهتمام الدول العربية المختلفة. فرغم كل ما قطعته هذه المنظومة من خطوات إيجابية على امتداد العقود والسنوات الفارطة، فإنها لم ترق إلى المستوى المطلوب ولم تبلغ كل المطامح المرغوبة، ناهيك عما أصبحت تتّسم به من عجز في الاستجابة لمتطلبات القرن الجديد القائم على اقتصاد المعرفة وتداول المعلومات في شتى مناحي الحياة العملية. وحرصا على إقرار الإطار الملائم لبلورة هذه المنظومة على أسس جديدة تتجنّب كل السلبيات السابقة وترمي إلى تحقيق الأهداف المستجدّة المطابقة لروح العصر وسماته البارزة المتمثلة في عولمة الاقتصاد وشمولية التبادل وثورة الإعلام والمعرفة، لا نرى محيدا عن الإجابة على السؤال المحوري الذي قوامه: أية منظومة تعليمية يمكنها حقا أن تسهم في مسيرة تنمية المجتمع العربي وتحديثه بشرا وعمرانا؟ وذلك من خلال استحضار جملة من الركائز الأساسية وفي مقدمتها ما يلي:
 * الحسم النهائي في مسألة اتخاذ المعرفة المتعلقة بالمحيط الطبيعي للإنسان العربي كهدف أول لكل تخطيط تربوي يسكنه ويؤطره هاجس الحداثة. فالمهم والأساسي هو التحول بالمنظومة التربوية العربية إلى نمط فكري يتمركز حول الإنسان الذي يشكل موضوع وغاية هذا النمط وذلك بفعل أن الإنسان بذكائه الهائل ومهارته العالية هو المرشح الأكبر لإعادة هندسة النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في القرن الجديد أو كما يحلو للبعض أن يسميه بقرن الثورة الرقمية وتكنولوجية المعرفة والإعلام.
 * الاهتمام الجدي بإنشاء منظومة تعليمية حقيقية يعترف بها العرب وغير العرب، وتكون قادرة على تكوين الناشئة وإعدادها وعلى تحقيق توازنها واندماجها فضلا عن استثمار مختلف طاقاتها وكفاءاتها ومهاراتها في مجال العمل المعرفي الذي أصبح يمثل في القرن الجديد الرهان الأساسي للتفوق والنجاح.
 * العمل على تجديد المنظومة التربوية العربية لتصبح من جهة في مستوى مواكبة ومسايرة متغيرات ومستلزمات عصر العولمة وكل ما أصبح يزخر به من تراث هائل وخاصة في مجالات التكنولوجيا والمعلوميات والإعلام، ومن جهة أخرى في مستوى الدور الصعب الذي من المفروض أن تلعبه في نطاق تحديث المجتمع وتطوير بنياته المتنوعة وذلك باعتماد خطط وبامج تعليمية تؤطرها طرق وأساليب التربية النقدية والإبداعية والتكنولوجية.
 * توفير فرص متكافئة وحدّ أدنى من التعليم لكل فرد بانتشاله من الجهل والأمية وتمكينه بالتالي من تربية أساسية تؤهله لممارسة واجباته الدينية والدنيوية وتجعله مواطنا متّزنا شغوفا بالعلم والمعرفة، يتّسم يروح المبادرة الإيجابية والتنافس الشريف.
 * جعل المتعلم محور منظومتنا التربوية وذلك بتمكينه من المعارف والمهارات التي تساعده من جهة على تحصين شخصيته وهويته الثقافية وتسعفه من جهة أخرى على التعامل مع روح الحداثة أو ما أصبح ينعت بالعولمة لاستيعاب مبتكراتها العلمية المذهلة وتسخيرها لفائدة مجتمعه.
 * ربط الغاية القصوى للمنظومة التعليمية المنشودة بطرق وأساليب تربية الكفاءات العالية وتنمية المهارات الخلاقة القادرة على النهوض بأعباء التدبير والتأطير والإسهام الفعّال في مسيرة الإنتاج العلمي والتطور التكنولوجي العالمي.
 * تحقيق مبدإ المساواة من خلال تعميم التمدرس وتشجيع العلم في المجالات الاستراتيجية وتحسيس مختلف الشركاء والفاعلين بأن التربية ليست وقفا على المدرسة وحدها بل هي من مسؤولية باقي المؤسسات الاجتماعية الأخرى. فإلى جانب الاهتمام بالنظام التربوي في بعده المدرسي لابد من تحقيق نوع من التلاؤم بينه وبين المحيط السوسيواقتصادي وذلك بالتركيز على بيئة المتعلم المنزلية وعلاقات المدرسة بكل من الأسرة ومؤسسات الصناعة والخدمات والإنتاج.
 * اعتبار أن الارتقاء بالذهنية التربوية العربية من طابعها الساذج إلى طابعها العلمي هو الذي سيشكل أساس كل رهان تربوي هادف، وبالتالي لابد من العمل على تحسين الوسائل البيداغوجية والموارد البشرية لتطويرها وجعلها أكثر نجاعةً وتحفيزاً على روح المبادرة والابتكار وأكثر قدرة على إنتاج المعرفة عوض استهلاكها فقط.
 * الوعي بأهمية الثورة التكنولوجية بمختلف مظاهرها المعلومياتية والتواصلية ودورها الاستراتيجي في الرقي بالفكر التربوي العربي إلى مستوى تحديات القرن الجديد ومستحقاته الكبرى.
 
المسلم : أقدم المغرب مؤخرا على إصلاح منظومة التربيةوالتكوين ( المبلورة في الميثاق الوطني للتربية والتكوين)، في نظركم، ومن وجهة نظرعلمية متخصصة، ماهي نقط القوة والضعف لهذا الإصلاح؟
وكيف تتوقعون مستقبل التربيةوالتكوين في المغرب خاصة وفي عالمنا العربي عامة؟
-    إذا كنت ترغب في أن أقدم لك أمثلة حول وضعية هذا الإصلاح وأحواله على أرض الواقع، فيمكن الإقرار بأ ن من ضمن السلبيات التي أصبحت تهدد سيره الطبيعي بالتعثر وربما بالفشل، ما تواجهه المدرسة والجامعة المغربية الحالية من خصاص في الوسائل اللوجستيكية المطلوبة (بنيات بيداغوجية، تجهيزات ومعدات علمية وديداكتيكية، كفاءات ومؤهلات بشرية...) لممارسة مقتضياته الجديدة وتحقيق أهدافه وغاياته المرتقبة. وكمثال واحد على هذه السلبيات أشير إلى مشكل الأعداد الكبيرة بدل المجموعات القليلة من الطلبة التي نص عليها ميثاق التربية والتكوين والذي تعاني منه كثير من المسالك وبالخصوص في المؤسسات التعليمية ذات الاستقطاب المفتوح. وهو مشكل تصاحبه صعوبات ومشاكل على مستوى التدريس والتأطير والتقويم.
 أما من حيث الإيجابيات فهي تكمن أساسا في واقعة أنه لو تمكننا من الممارسة الفعلية ل50%  فقط من مضامين ومرتكزات وغايات هذا الإصلاح لكان النجاح حليفنا بنسبة هائلة. وهي المضامين التي زرعت في واقعنا التعليمي دينامية جديدة، قوامها الرقي بالمدرسة والجامعة المغربية إلى مصاف المؤسسة التربوية المنفتحة على محيطها، الناجعة في مناهجها وبرامجها، المتميزة في أهدافها وقيمها والضامنة لشروط التعلم والتحصيل وروح المبادرة والتنافس وفرص التميز والنجاح وعناصر النجاعة والجودة. وهي كلها نعوت ومواصفات تتماشى ومتطلبات المدرسة النموذجية التي أصبحت تفرض نفسها في مستهل هذا القرن الجديد كقاطرة لولوج المعرفة ونقلها وإنتاجها ونشرها وتوظيفها في ممارسة البحث العلمي وربح معركة التنمية.
 
    هذا بخصوص الشطر الأول من سؤالك، أما فيما يتعلق بشطره الثاني الذي يبدو في نظري هو الأهم لأنه يركزعلى واقع ومستقبل التعليم في المغرب والعلم العربي عامة، فيمكن التأكيد على أن منظومة التعليم التي نتداولها قد تقادمت وربما أفلست من حيث فلسفتها السياسية ومردوديتها التنموية إلى الحد الذي أصبح معه الأمر يستلزم تغيير المسعى لصياغتها على أسس وأهداف جديدة تستجيب من جهة لانتظارات وتطلعات الإنسان العربي ومن جهة أخرى لمقاييس المنظومات التعليمية النموذجيةالتي تعاضد القول بالعمل وتتوج التخطيط بالتنفيذ وتترجم المبادئ والأهداف إلى حقائق وإنجازات. فكم هي كثيرة الوعود التي قدمت والشعارات التي رفعت باسم هذه السياسة من أجل إصلاح منظومة التعليم، سواء في المغرب أو في غيره من الدول العربية، وجعلها رافعة أساسية لخدمة التنمية، لكنها بقيت في أغلبها إما وعودا كاذبة وإما شعارات فضفاضة لا تدل سوى على شيئ واحد ألا وهو استمرار هذه السياسة في مسلسلها الحافل بالإخفاقات والتراجعات. فرغم ضخامة الجهود المبذولة في مجال تعميم التعليم وتوسيع انتشاره وتوفير البنيات التحتية والموارد المادية والبشرية الضرورية لممارسته، فالمؤكد أن الإجماع حول إخفاق السياسة العربية في هذا المضمار حاصل بامتياز؛ إذ يقر به كافة العرب، ساسة وأصحاب قرار وحتى عامة الناس بما في ذلك الأشخاص البسطاء. فالجميع مقتنع بمحدودية حصيلة هذه السياسة تربويا وتنمويا، يكفينا أن نستشهد عليها بالوقائع التالية:.        
* التذبذب بين نظامين تعليميين متعارضين:واحد تقليدي يراهن على الماضي والآخر عصري يراهن على الغرب، وبالتالي التعرض باستمرارللإصلاحات الترقيعية العديمة الجدوى والفائدة، تكوينا وتربية وتنمية.
* التخبط في متاهات ودوائر من المشاكل والصعوبات التي تحكم على خططها وبرامجها بالتعثر وعلى جهودها ووعودها باليأس وعلى توجهاتها وآفاقها بالانسداد.
 * التقليدية في البرامج والمضامين، والنمطية في الطرق والأساليب، والجمود في المناهج والتخصصات فضلا عن الضعف في الجودة والمردودية.
* الانفصام والابتعاد عن المحيط الاجتماعي والاقتصادي وقطاعاته التنموية.
* التراجع الواضح لمكانة التعليم وقيمته في سلم أولويات المواطن العربي وذلك بفعل تدني مستواه وشساعة الفجوة التي تفصل السياسات عن الأهداف المعلنة والشعارات عن الإنجازات المحققة.
     إذن على الرغم من تطلعها المستمر نحو تحقيق التنمية المأمولة فإن السياسة التعليمية العربية غالبا ما تجد نفسها أمام جملة من القيود والصعوبات التي يمكن إجمالها في العناصر الأربعة التالية:
 عجائبية وغرائبية الواقع التعليمي العربي الذي يشكل حلبة تتعايش وتتصارع بداخلها ثلاثة عوالم تربوية مختلفة تتوزع بين الماضي البعيد والحاضر الغامض والمستقبل المفقود.
 هشاشة وجمود الأنظمة التعليمية العربية وبرامجها التكوينية ورفضها لأي تجديد أوتخطيط تنموي هادف.
 تحرك هذه السياسة التعليمية داخل بنية مجتمعية متخلفة توجهها سلطة المبادئ والأسس المحافظة وتسيرها ذهنية الحلول الترقيعية.
 الافتقار إلى مشروع مجتمعي تنبني عليه سياسة تعليمية واضحة المبادئ والأهداف ومضمونة النتائج والإنجازات. فالملاحظ أن التباين بين هذه السياسة وخطط التنمية هو تباين صارخ تقف وراءه عوامل كثيرة أهمها:أ)غياب الرؤية الإستراتيجية التي تلائم بين سياسة التكوين وسياسة التشغيل.ب)                                                  اعتماد سياسة التخبط واللإستمرارالتي تحكمها مزاجية شخص أو أشخاص معدودين بدلسياسة التخطيط الممنهج في إطار مؤسسات ذات مصداقية. ج) احتكار علماء الاقتصاد لبرامج التخطيط التنموي وبتجاهل تام لوجهات نظر الفاعلين والشركاء الآخرين وفي مقدمتهم علماء التربية والنفس والاجتماع. د) اعتماد السياسة التعليمية التي تمليها إما المنظمات الدولية وإما الضغوط الاجتماعية التي تؤدي في الغالب إلى نتائج كارثية.   على أساس هذا التسخيص المقتضب لواقع السياسة التعليمية في المغرب والعالم العربي عامة، يهمنا في ختام هذا الحوار التنبيه إلى إمكانية إعادة صياغة التوجهات المستقبلية لهذه السياسة على أسس وأهداف جديدة وفي مقدمتها الرهانات الثلاثة التالية:
* بلورة سياسة تعليمية جديدة قوامها تأسيس نظرتنا إلى الذات والواقع والآخر والمستقبل على مفاهيم وتصورات مغايرة، وبالتالي تعرية ذاتنا التربوية أمام عيوبها ومظاهر قبحها وفشلها. بمعنى السياسة التي يوجهها منطق التغيرات المحلية والتحولات العالمية بمستجداتها التربوية والعلمية والتكنولوجية المذهلة، ويؤطرها هاجس الحسم في كثير من التحديات الضرورية لكل إقلاع تعليمي ناجع على المستوى التنموي، وفي مقدمتها رهانات التحديث والحكامة الجيدة والنجاعة العلمية والجودة التربوية والانخراط في مجتمع الإعلام والمعرفة.
* اعتماد سياسة تعليمية هادفة تؤطرها رؤية استراتيجية دقيقة المنطلقات والغايات، توجهها أهداف تنموية واضحة وتحكمها معرفة عميقة بواقع الإنسان والمجتمع العربي. بمعنى السياسة المبنية على مقاييس التخطيط العلمي والتدبير العقلاني لربح أولا رهان سد منابع الأمية والجهل والفقروالبطالة بتحقيق العدل التربوي وتعميم التمدرس وتعليم الكبار وهيكلة البحث العلمي وملاءمة التكوين مع سوق الشغل، وثانيا توفير شروط الاندماج في مجتمع العلم واقتصاد المعرفة من خلال تجديد وظيفة المدرسة حتى تصبح فضاء لتربية كفاءات النقد والإبداع ولزرع قيم المواطنة والتسامح ولضمان الرقي والتطور الاجتماعيين. أي المدرسة المندمجة في بيئتها ، الخادمة لمحيطها والقادرة على ربح رهان الجودة ومعركة التنمية.
* العمل بالسياسة التعليمية القائمة على التخطيط الاستراتيجي المشبع بروح التفكير العلمي المنتج والمؤطر بمنطق التدبير التربوي الممنهج. بمعنى المنظومة التي يتقوى فيها دور المجتمع بامتلاك مقومات التربية المطابقة التي تتفاعل مع محيطها الإنساني المحلي دون أن تنعزل عما هو سائد في العالم أو تفقد في الآن نفسه خصائصها الذاتية. إنها المنظومة التي يجب أن تكون ملكا للجميع وللإنسانية جمعاء، قادرة على صياغة وجداننا وتطوير معارفنا وصقل مهاراتنا، منفتحة على العصر الجديد ومستجداته المعرفية والتكنولوجية. فهي حتى وإن كانت تتخذ من خصوصياتنا العربية إطارها المرجعي للتأكيد على هويتها، فإن مستقبلها يبقى رهين مدى استعدادها للانخراط والمساهمة في بناء المعرفة الإنسانية ومظاهرها الكونية.
===================================================
***خبير تربوي , * أستاذ بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، فاس، المغرب , * متخصص في السيكولوجيا المعرفية ويهتم حاليا بسيكولوجيا الكفاءات والتربية المعرفية, * عضو مركز الأبحاث والدراسات النفسية والاجتماعية ورئيس مجموعة البحث "المعرفية واللغة والتربية", * عضو الهيئة الاستشارية لعدد من الجمعيات والمنظمات والمجلات العربية المتخصصة في العلوم النفسية والتربوية
 
                                                                                  
     إذا كنت تسعى من وراء الجزء الأوللهذا السؤال إلى معرفة حقيقة هذا الإصلاح على أرض الواقع، فلا أخفيك، وبغض النظرعما صدر مؤخرا في حق مآل هذا الإصلاح من تقارير وأحكام وطنية ودولية، كلها إقراربفشله، بأن أجرأة مقتضياته وخاصة في بعده البيداغوجي قد استدعى من المدرسة والجامعةالمغربية بمختلف طواقمها الإدارية والتربوية الانخراط في سيرورة تحقيق غاياتهوأهدافه وذلك بقبولهم الانتقال من وضعية النظام البيداغوجي القديم المبني علىالتعلمات والتكوينات المنظمة في برامج ومواد تدرس على امتداد سنة بأكملها إلى وضعيةالنظام البيداغوجي الجديد المبني على أسلاك ومسالك ووحدات ومجزوءات وأفواج محصورةفي 25 تلميذ/طالب لكل مؤطر ومراقبة مستمرة...إلخ. وليس في الأمر إفشاء لأي سر إنصارحتك بصفتي واحدا من الفاعلين المباشرين الذين يعايشون يوميا مراحل وخطوات أجرأةهذا الإصلاح، بأن هذا الانتقال قد واكبته بالفعل كثير من المشاكل والصعوبات تمثلتبالخصوص في تواضع الوسائل اللوجستيكية وفي محدودية الإمكانيات المختلفة. فكما سبقلي أن أكدت على ذلك سنة 2005 في حوار صحفي كهذا، فالموارد البشرية والبنياتالبيداغوجية والتجهيزات العلمية والمعدات الديداكتيكية الموضوعة رهن ربح رهان هذاالانتقال تبدو جد متواضعة وغير كافية من الناحيتين الكمية والكيفية. وهذه مسألةأضحت تمثل في نظري إحدى التحديات الكبرى التي واجهت مسار تطبيق روح هذا الإصلاحوحكمت على مآله ومردوديته بالمحدودية لكي لا نقول الفشل الذريع. فقد صار من المؤكداستحالة تحقيق غايات هذا الإصلاح وأهدافه المأمولة بوسائل وإمكانيات متواضعةوبكفاءات وطاقات قديمة ومتقادمة. بعد الحديث عن المظاهر والأعراض، هل يمكن أنتحدد لنا الطرق والأساليب التربوية الأسرية الملائمة لتفادي هذا الصراع أو توجيهه إلى ما يفيد الطفل والمراهق في حياتهومستقبله؟