المحكمة الجنائية" .. "حلم الضعفاء" أصبح "سلاح الكبار" !
14 شعبان 1429
جمال عرفة
بعدما نفذ المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية تهديده بإصدار مذكرة اعتقال للرئيس السوداني عمر حسن البشير بتهمة "الإبادة الجماعية" و"جرائم حرب في دارفور" في سابقة هي الأولي من نوعها، أصبح حلم الضعفاء في أن تكون المحكمة سيفا مسلطا علي رقاب الدول الكبرى وقادتها سرابا، ويثبت تحولها لمجرد أداة من أدوات القوي العظمي لتركيع مخالفيها.
فالمحكمة الجنائية الدولية كان الأمل معقودا عليها غداه تشكيلها في يوليه 2002 كي تصبح وسيلة الضعفاء لتحقيق العدالة في مواجهة جرائم الدول الكبرى، فإذا بها تسقط بدورها – مثل باقي الأدوات الدولية كمجلس الأمن ومنظمات الأمم المتحدة – في قبضة القوي الكبرى وتتحول – مثل سابقيها - لأداه من أدوات السيطرة الدولية لإخضاع الدول الضعيفة.
فعندما جري تدشين عمل هذه المحكمة في الأول من يوليه 2002 في لاهاي بهولندا لممارسة أعمالها في محاكمة المتورطين في جرائم حرب أو ضد الإنسانية أو إبادة جماعية، كانت الآمال عريضة من جانب ضعفاء العالم ودول العالم النامي في أن تأخذ المحكمة حقوقهم من ظلمة العالم الكبار أمثال بوش وشارون ممن تورطوا في جرائم لا تخطئها العين.
ولكن آخرين تخوفوا حينئذ أن تتحول المحكمة لسيف مسلط علي رقابة هذه الدول النامية بسبب تقليصها (السيادة الوطنية) لصالح (العدالة الدولية)، وعجزها عن تطبيق أحكامها، وجاء تغاضي المحكمة عن محاكمة مجرمين كبار تورطوا في جرائم مثبتة وموثقة في فلسطين والعراق وأفغانستان وكذا في البوسنة وغيرها، بل وإعفاء مسئولي وجنود أمريكا من المسئولية أمامها، لتتحقق المخاوف سريعا بسبب فشل المحكمة في محاكمة مجرمي حرب مثل شارون أو الجرائم الأمريكية في العالم، وتتحول تدريجيا لأداة في يد الغرب.
من يجرؤ على التحرك ؟!
ومع أنه لم يثبت أن السودان متورط في جرائم حرب في دارفور وأن أعداد الضحايا نتيجة الصراع العرقي هناك لا تزيد عن خمسة ألاف قتيل، وليس 35 ألفا كما زعم أوكامبو في مذكرته، فقد تحقق ما حذر منه كبار المسئولين السودانيين بشأن التسريبات بشأن أوامر من ممثل الادعاء في المحكمة "لويس مورينو أوكامبو" للقبض على مسئولين سودانيين كبار بينهم البشير، وأنها "تسريبات واتهامات سياسية" لا علاقة لها بالقانون، وهدفها الضغط علي الخرطوم.
وأن "أوكامبو" ومن خلفه المحكمة الدولية – تحولت - بسبب عجزها عن تنفيذ دورها قبالة الشخصيات النافذة والدول العظمي التي تتحكم فيها- لأداة سياسية في هذا الضغط علي الخرطوم بدليل أن قرارات أوكامبو السابقة بشأن القبض على مسؤولين سودانيين ختمت بعبارة تقول إنه سيتم التجاوز عن هذه الخطوات القانونية (الاعتقالات) لو تم حل مشكلة دارفور!
لتصبح المحكمة الدولية "أداة" من الأدوات التي تستغل دوليا لتأجيج الصراع في دارفور وتعطيل السلام، وأداة من أدوات تركيع السودان والضغط عليه من قبل القوي الكبري لمنع تثبت حكم البشير وفريقه من "الإسلاميين" وإجهاض خطوات تسوية المشكلات السودانية الإقليمية ومنع انفصال أقاليمه، ومن ثم إجهاض الحلم السوداني في دولة عظمي تطعم العالم من سلتها الغذائية وتعلب دورا حيويا في القارة السمراء.
فما يجري في غزة من جرائم علي يد الاحتلال الصهيوني ليس أقل سواء مما يجري في دارفور ولكن لا أحد يجرؤ من هذه الهيئات كالمحكمة الجنائية أو مجلس الأمن أو غيره علي الدخول في هذه المنطقة، حسبما يقول كما حسن علي ممثل حزب المؤتمر الحاكم بالقاهرة، والأمر نفسه فيما يخص السلاح النووي الصهيوني الموجود والمعروف والمتغاضي عنه مقابل النوايا الإيرانية بإنتاج طاقة – لا سلاح - نووي.
محاكمة أوكامبو!
بل أن السودان هو الذي طالب بمحاكمة اوكامبو لخروجه من الخط القانوني "حيث برهن تسلسل الأحداث أن محكمة الجنايات الدولية هي محكمة سياسية لا علاقة لها بالقانون والعدالة " فهو لم يقدم أي أدلة معتبره، كما أنه وجه اتهامات لمسئولين سياسيين ولم يتهم عسكري سوداني واحد من الجيش رغم أنه المتهم المفترض في جرائم دارفور المزعومة!.
والأخطر أنه تورط في محاولة خطف وزير سوداني عقب إصدار المحكمة الجنائية الدولية أمر اعتقال بحق اثنين من السودانيين المشتبه بهما العام الماضي، هما: الوزير أحمد هارون وقائد ميليشيات الجنجويد علي كشيب، لكن الخرطوم رفضت تسليمهما قائلة إن المحاكم السودانية تستطيع أن تحاكم أي مجرم حرب وأنها ليست موقعة علي معاهدة إنشاء هذه المحكمة.
حيث أقدم علي عمل خارج القانون هو الإعلان عن "خطف" الوزير السوداني أحمد هارون وهو علي متن طائرة بالتعاون مع دول لم يحددها، ما أثار تساؤلات حول حقيقة وإمكانية هذا وطرح توصيفا جديدا لـ "المدعي العام" هو "إرهابي" علي حد وصف المسؤولين السودانيين، ولماذا لم يفعل المثل مع قادة صهاينة متهمون بجرائم حرب وتفجير مقرات للأمم المتحدة في لبنان وقتل الآلاف من الضحايا مثل "قانا" وأخواتها ؟!.
لقد دخلت المسألة السودانية طوراً جديداً في التصعيد ومحاولات إقصاء الحكومة التي يقودها الرئيس البشير، وظهر أن المخاوف التي أطلقها حقوقيون عند تدشين هذه المحكمة الجنائية بشأن "ازدواجية" المعايير التي قد تحولها لأداة ظلم سياسية جديدة في يد القوي الكبرى، بدأت تتحقق، ما يثير التساؤل عمن يجلب العدالة للمظلومين في العالم، ويحقق المساواة بين القوي والضعيف!.
وهناك من يري في الخرطوم أنه حتى لو كانت الخرطوم وافقت على تسليم هارون وكوشيب للمحكمة الدولية، فإن المدعي العام كان سيعلن أسماء مسئولين آخرين – كما أعلن اليوم الاثنين – وأن الهدف هو إيداع كل رجالات الحركة الإسلامية السودانية - الذين يقودون الدولة- السجن، لتتقدم الكوادر التي ألفت الإنقاذ قلبها من مايويين وحزبيين سابقين، وتتولى قيادة المؤتمر الوطني التي خلت من أهلها، وليصبحوا هم المؤتمر الوطني الذي يقاسم الحركة الشعبية الحكم في الخرطوم، وهو غاية ما تتمناه أمريكا وأوروبا بحسب قراءة سابقة للدكتور حسن مكي محمد الخبير الاستراتيجي المعروف.. فهل كانت الخرطوم علي حق حين رفضت تسليم أي مسؤول كي تجهض هذه الخطط؟!
 
لصالح الكبار..نموذج أمريكا!
وما يؤكد هذا التحول في دور المحكمة الجنائية الدولية لتقع فريسة القوي الكبري المتنفذة، أن منذ بدء عمل هذه المحكمة ومجلس الأمن يجدد سنويا قرار يتعلق بإعطاء الحصانة الممنوحة للجنود الأمريكيين والتي تمنع محاكمتهم أمام أي المحاكمة الجنائية الدولية عن الجرائم التي يقومون بها (باعتبارهم من قوات حفظ السلام !؟).
 بل أن الولايات المتحدة تزعمت حملة (بلطجة) دولية لتأديب الدول الرافضة لهذا الاستثناء في القانون الدولي واستخدام سلاح المعونات والمساعدات لتحقيق هذا الغرض عبر سلاح المعونات.
ففي أعقاب التوقيع علي بدء عمل المحكمة الجنائية الدولية في يولية 2002 والتي تسمح بمحاكمة (الأفراد) وليس الدول بتهمة ارتكاب جرائم حرب، رفضت الولايات المتحدة ليس فقط التصديق عليها، ولكنها طالبت باستثناء جنودها وكبار المسؤولين فيها من المحاكمة أمام هذه المحاكم في حالة قررت هيئات أو مجموعات حقوقية المطالبة بمحاكمتهم عن جرائم حرب ارتكبوها في الصومال او العراق أو غيرها.
وبلغ التعسف الأمريكي حد مطالبة مجلس الأمن بإصدار قرار يستثني جنودها من المحاكمة وتوقيع اتفاقات ثنائية مع كل دول العالم تستثني جنودها، والتهديد بتعليق مشاركتها الفعالة في حلف الناتو ما لم تجري الموافقة علي هذا الاستثناء، وهو ما حصلت عليه بالفعل لمدة عام أصبح يتجدد سنويا، لتتحرك واشنطن في أعقاب ذلك لمعاقبة الدول التي رفضت مبدأ إعطاء أبناء العم سام حصانة دولية.
حيث قررت الولايات المتحدة الأمريكية بدء تعليق مساعدات عسكرية بقيمة 48 مليون دولار تحصل عليها 35 دولة من أول يوليو 2003 الجاري بدعوى عدم التزام تلك الدول بمهلة الأول من يوليو للتوقيع على اتفاقيات ثنائية مع واشنطن تضمن حماية الرعايا والجنود الأمريكيين من أى ملاحقة محتملة أمام المحكمة الجنائية الدولية.
 وكانت الولايات المتحدة قد رفضت التوقيع على تلك الاتفاقية التي تم التوصل اليها عام 1998 وبدء سرين مفعولها في 2002، وسعت لاستغلال المادة رقم (98) من الاتفاقية التي تسمح للدول بالدخول في اتفاقيات ثنائية تتفق الدول بمقتضاها على استثناء جنود دولة ما من العاملين على أراضيها من نصوص الاتفاقية !؟.
ومع أن نص المادة – التي سعت واشنطن لتضمينها في اتفاقية إنشاء المحكمة – يشترط لتوقيع الاتفاقات بين الدول لاستثناء جنود دولة أخري أن يكون الأمر برضا هذه الدول وليس عضبا عنها، وأن يتعلق بجنود دولة ما موجودين على أرض دولة أخرى، فقد سعت واشنطن للعب بعصا المساعدات والمعونات الأمريكية ضد الدول التي ترفض بما في ذلك المعونات الاقتصادية والعسكرية مما حدا بدول عديدة لتوقيع اتفاقيات ثنائية مع أمريكا قهرا !
وقد وقعت الولايات المتحدة بمقضتي هذا البند اتفاقيات ثنائية مع 50 دولة – وفق ما أعلنته الخارجية الأمريكية – وقررت تعليق هذه المساعدات عن 35 دولة أخري رفضت توقيع اتفاقيات ثنائية تحمي جنود وجنرالات أمريكا من المحاكمة!!.
ويثير السلوك الأمريكي من اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية تساؤلات عديدة حول انقلاب المعايير الطبيعية في عالم اليوم، فبدلا من أن يكون الاستثناء الأمريكي مرفوض، وتتكون محاكمة أي فرد أمام المحكمة الجنائية الدولية أمر غير خاضع للاستثناءات، أصبح الاستثناء الأمريكي هو الأصل الذي يعترف به مجلس الأمن، وتعترف به بقية دول العالم تحت حد سيف المعونات وغيرها.
ويلحق بهذا الاستثناء عيوب أخري تزيد الرقع في ثوب العدالة الدولية منها علي سبيل المثال رفض الإسرائيليين بدورهم لمحاكمة الإسرائيليين أمام هذه المحكمة، والسعي للاستظلال بظلال الاستثناء الأمريكي بطرق مختلفة، ورفض محاكمة الجنود والقادة الصهاينة أمام هذه المحكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب في الأراضي الفلسطينية وما أكثرها ( الضغوط الأمريكية والاسرئيلية أدت لإلغاء قانون بلجيكي يسمح بمحاكمة أجانب أمام محاكمها وتحويل المحاكمات لدول المتهمين !).
إن اللجوء إلي فكرة إنشاء هذه المحكمة الجنائية الدولية جاء للتغلب علي عيوب محكمة لاهاي الدولية التي تصطبغ بالصبغة السياسية الواضحة وتستخدمها الدول الكبرى لمحاكمة خصومها من الدول الأخرى التي لا تسير في ركاب أمريكا والغرب، ولكن الفكرة الجديدة انتهت إلي ذات الاستثناءات والخروقات التي تضيع أهدافها الأساسية عند التنفيذ، والدليل هو السودان !