من أخطأ في الحسابات: روسيا أم جورجيا؟
8 شعبان 1429
طلعت رميح
الأحداث التى تفجرت على نحو مباغت وخطير فوق الأراضي الجورجية، وباستخدام الوسائل القتالية على هذا النحو من قبل جورجيا ضد اوسيتيا الجنوبية وتدخل القوات الروسية ضد القوات الجورجية وإجبارها على اخلاء عاصمة اوسيتيا التى كانت قد احتلتها فى بداية المعارك، لاشك تمثل نقلة جديدة فى الصراع الجارى فى هذا البلد وفى الاقليم بل هى تتخطاها الى التاثير على توازنات الوضع الدولى بين اخطر قواه المتصارعة "بصفة مباشرة" الان، اى روسيا والولايات المتحدة.
وإذا كان هذا الصراع بين جورجيا واوسيتيا هو تكرار لسيناريو سابق، فان اندلاع تلك الأحداث فى ظل الظرف الراهن والتدخل الروسي على هذا النحو، والمواقف المعلنة من دول الاقليم –خاصة تلك التى كانت من قبل تحت السيطرة خلال زمن الاتحاد السوفيتى –والمواقف الأمريكية والأطلسية والأوروبية، لاشك تعبر عن انتقال وتغيير فى اساليب الصراع الدولى او فى نمط المواجهة الروسية لتمدد النفوذ الامريكى والاطلسى والاوروبى فى المحيط الحيوي الإقليمي لروسيا، إلى درجة تدفع إلى القول بان ما جرى ويجرى فى جورجيا، وضع أساسا جديدا لتغييرات في أساليب الصراع الدولي، بغض النظر عن النتائج التى ستحدث على ارض جورجيا خلال المعركة الجارية.
 
من بدأ؟
من المبكر الآن، الحكم على من بدأ التصعيد في داخل جورجيا، ونقله من السياسي إلى العسكري، بما يعنى أن ليس مدركا ولا متحققا من خطط لهذا التطور ليحقق أهداف محددة الآن.
هناك من المراقبين من يرى أن روسيا هى من حرض اوسيتيا الجنوبية لاستدراج جورجيا الى العمل العسكرى، لكى تتمكن هى من ادخال قواتها الى داخل الأراضى الجورجية -على هذا النحو الذى رأيناه - من أجل دفع الأوضاع فى هذا البلد الى نقطة تسمح لها بالتدخل بالوجود العسكرى الدائم على أراضيه، بما يجعل من جورجيا نقطة يصعب على الولايات المتحدة الاستمرار فى محاولة نصب الدرع الصاروخى على أرضها المضطربة والمتحاربة والتى توجد عليها قوات روسية تمثل امتدادا بريا مباشراً للجيش الروسى بحكم طبيعة الحدود المشتركة (وهو ما يوجه ضربة قاضية للمشروع بعد تردد بولندا فى مفاوضاتها لاستضافة بقية معدات هذا الدرع). لكن هناك من يرى أن الولايات المتحدة هى من حرض جورجيا على حسم المعركة الداخلية بينها وإقليم اوسيتيا عسكريا، لفرض وقائع على الأرض، تمكن من توحيد القرار الداخلى فى جورجيا وتضعف النفوذ الروس هناك، بما يمكنها من انجاز ارتباطها بحلف الأطلنطى ويسهل على الولايات المتحدة نصب رادارات الدرع الصاروخي على أرضها، دون مقاومة من فوق الأرض الجورجية.
وأياً كان من بدأ المعركة أو خطط لإشعالها، فإننا الآن أمام تغيير فى قواعد اللعبة التى كانت سارية أو لنقل "مجازة" من قبل الأطراف المتدخلة فى الأحداث الجارية في جورجيا. فمن ناحية روسيا، فنحن الآن أمام أول تحرك عسكرى للقوات الروسية خارج الاراضى الروسية –منذ نهاية الحرب الباردة او لنقل منذ انهيار الاتحاد السوفيتى السابق - لتحقيق اهداف سياسية فى دول الاتحاد السوفيتي السابق. وهو يعنى أن روسيا قد اعتمدت استراتيجية تنظيف المحيط بالقوة العسكرية، وانها جاهزة الى احداث تغييرات سياسية به وفق مفاعيل القوة العسكرية. كما نحن أمام رد روسى على التطويق المتسارع الخطى لحلف الاطلنطى لها وباستخدام القوة العسكرية، كما نحن امام رد روسى فى محيطها على التغييرات السياسية التى لحقت بحلفاء لروسيا فى داخل أوروبا وبشكل خاص لدولة صربيا، والأهم أننا أمام ممارسة روسيا لصراع عسكرى ضد أحد حلفاء الولايات المتحدة، المباشرين.
ومن ناحية أخرى، فنحن أمام جورجيا أخرى غير التي كنا نعرفها؛ فجورجيا التي وصل الى قيادتها سكشفيلى وفق مفاعيل الثورة البرتقالية –المخطط لها امريكيا-التى كانت تحمل الورود وتمارس التظاهرات السلمية للوصول للحكم، باتت دولة قادرة على منازلة الجيش الروسى على نحو غير مسبوق -وهى الدولة الصغرى -بما جعل روسيا تتحدث مباشرة عن تسليح أمريكي و"إسرائيلي" (صهيوني) ومن أوكرانيا لجورجيا اوصل جيشها إلى تلك الحالة. ونحن أمام جورجيا قادرة على انفاذ مخططات وسياسات ابعد من اوضاعها الداخلية ومن الوضع الإقليمي إلى الوضع الدولي، فإذا كانت من قبل راجية لكى تقبل بالاطلنطى ولكى تكون ارضها نقطة من نقاط ارتكاز الدرع الصاروخي الأمريكي، فإنها بإعلان الحرب على اوسيتيا تدخل مجال تطوير اوضاعها بمعركة قتالية لتصبح عضوا في الأطلنطي، رغم المعارضة الروسية وبما يجعلها لاعبا اقليميا ومتماسا مع تغييرات دولية بشان القدرة والقوة لروسيا والولايات المتحدة، إذ الدرع الصاروخي نظام تسلح عالمي الطابع.
 
حسابات الطرفين؟
واقع الحال أن المعركة ما تزال جارية، وأن تطورات الأوضاع ما تزال فى بداية تفاعلاتها فى الإقليم وعلى المستوى الدولي. لكن ما ظهر حتى الآن، هو أن جورجيا قد دخلت المعركة على خلفية تقديرات بأن روسيا لن تجرؤ على التدخل العسكرى المباشر فى المعارك حين هجومها على اوسيتيا، وربما قدرت جورجيا أيضا، أنها قادرة على إنهاء وحسم المعركة عسكريا قبل أن تتمكن القوات الروسية من التدخل العسكري، وعلى اعتبار أن حسم المعركة على هذا النحو السريع سيمكنها من فرض وقائع على الأرض، تمكنها من التعامل مع التدخل الروسى سياسيا باعتباره عدوانا خارجيا على بلد مستقل.
كما يبدو أن جورجيا قرات الوضع الإقليمى على نحو دفعها لهذا التحرك، إذ هي رأت أن التغييرات التى جرت خلال المرحلة الماضية، قد وفرت لها حلفاء إقليميين، تؤثر مواقفهم على قدرة روسيا على التحرك عسكريا، إذ تصورت جورجيا أن مواقف حلفائها فى الإقليم سيجعل روسيا تخشى من أن تتدخل عسكريا فى القتال الجارى فى داخل جورجيا، حتى لا توفر لتلك الدول فرصة اتخاذ مواقف قوية ضد روسيا تساهم فى حصارها إقليميا، إن لم يكن تضامنا مع جورجيا، فلأن تلك الدول تخشى أن تتعرض لذات المصير لاعتبارات تاريخية وسياسية واستراتيجية، إذ يمكن لروسيا إذا نجحت فى غزوها العسكرى لجورجيا بالارتكان الى صراعات داخلية إن تكرر ذات الأمر وفق نفس السيناريو فى الدول الأخرى بحكم وجود تيارات موالية لموسكو فى معظم بلدان أوروبا الشرقية.
وفى الجانب الآخر، يبدو أن روسيا قد حددت اعتبارات تدخلها السريع والحاسم في جورجيا، بناءً على تقديرات بأن التأخر فى إنقاذ اوسيتيا الجنوبية سيؤدى إلى توترات فى الوضع الداخلى لروسيا بل وامتداد الدور الجورجى الى داخل روسيا بحكم ان اوسيتيا الجنوبية هى القسم المكمل لاوسيتيا الشمالية التى هى جزء من الاتحاد الفيدرالي الروسي، كما رأت روسيا أن تدخلها ضرورى للرد على الإضعاف الأمريكى والأوروبى لحليفتها فى قلب أوروبا أي صربيا خاصة بعد الاعتراف باستقلال كوسوفا دون اخذ الاعتراضات الروسية فى الاعتبار السياسي والاستراتيجي، وكذا رأت روسيا أن بإمكانها توجيه ضربة إجهاضية للقوة العسكرية الجورجية المتنامية من خلال التدخل الحاسم فى هذه المعركة أو لنقل أنها رأت أن الفرصة قد واتتها "لإضعاف التطلعات الجورجية المتنامية فى لعب دور إقليمى على حساب المصالح الروسية، وكذا هي رأت أن إضعاف الجيش الجورجى قد يمكن القوى السياسية الموالية لروسيا فى جورجيا من التحرك للسيطرة على الحكم وإسقاط سكشفيلى وتغيير التوجهات السياسية لجورجيا. وفى ذلك يبدو أن روسيا رأت أن الاتحاد الأوروبى يصعب عليه التدخل الفاعل لإنقاذ جورجيا بحكم الروابط الاقتصادية والسياسية مع روسيا، وأن الولايات المتحدة تعيش ظرفا داخليا وخارجيا يمنعها، من التحرك بشكل فاعل في الفناء الخلفي لروسيا.
 
من أخطأ؟
وأياً كانت الجهة التى بادرت باشعال فتيل العمل العسكرى ومن يقف خلفها وحساباتها، ورغم أن الأمور مرشحة للتطور بما قد يغير بعضا من التفاصيل، فإننا كنا في بداية الاحداث  امام اختبار قوة وبالوسائل العسكرية –هو الأول من نوعه بعد الحرب الباردة -بين طرفين أحدهما مرتبط بالولايات المتحدة والآخر بروسيا، تحول إلى معركة عسكرية في جورجيا من اجل تحقيق "هدف استراتيجى" هو نصب أو منع نصب الدرع الصاروخى الذى أن نجحت الولايات المتحدة فى نصبه تمكنت من حصار روسيا داخل حدودها وان فشلت خرجت روسيا الى محيطها الجغرافى "القديم" وصارت فاعلة فيه على نحو يعيد بناء تحالفاتها في الإقليم، بما يشير إلى تحولات هامة فى الوضع الدولي لروسيا لا الإقليمي فقط، بالنظر إلى أن المعركة الجارية تاتى بعد تغييرات من قبل روسيا، تمثلت في عودة الطيران الروسى الاستراتيجي للتحليق الدولي مجددا، وإلغاء التصديق على معاهدة الأسلحة التقليدية في أوروبا. .وغيرها.
لقد  احتلت جورجيا مكانا بارزا في هذا الصراع، منذ جرى فيها التغيير البرتقالى -الذى جاء بسكشفيلى إلى الحكم -تارة بسبب مناوشاته مع روسيا بهدف تعميد نفسه ضمن إطار حلف الأطلنطي، وتارة بسبب قرار الولايات المتحدة إشراك جورجيا فى منظومة الدرع الصاروخى الذى يغطى مساحة أوروبا كلها ويهدد روسيا وحلفائها.
وفى الأيام الأخيرة، يبدو أن جورجيا أصبحت أخطر نقطة فى الصراع الأمريكى الروسى فى هذه البقعة من العالم، إذ وصلت الأمور حد الصدام العسكري غير المباشر، من خلال العمليات الحربية التى جرت بين قوات جورجيا وقوات إقليم اوسيتيا الجنوبية، وباعتبار ان كلا منهما مرتبط بطرف من الطرفين الدوليين المتصارعين، حيث سكشفيلى مرتبط بالغرب عامة والولايات المتحدة بشكل خاص، بينما إقليم اوسيتيا يرتبط بروسيا ارتباطا عضويا، وهو ما تطور من بعد إلى صدام مباشر بين القوات الروسية والجورجية.
وفى ذلك يبدو أن روسيا مصممة على إنجاز أهدافها، وربما هي كانت في وضع الانتظار للقيام برد مكافئ على كل ما جرى ضد مصالحها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وحتى الآن، وأن جورجيا وضعت نفسها أمام الهجوم العسكرى الروسى وفق حسابات غير دقيقة للوضع الإقليمي والدولي، حيث الأوضاع الراهنة لتلك القوى المساندة لجورجيا لا تسمح لها الظروف الراهنة، بالتحرك الواسع والكبير وربما المناسب او المأمول من قبل جورجيا.