الدكتور مصطفى حاجي مفتي بلغاريا لـ"المسلم": نبذل جهودًا جبارة لمواجهة حملات الغزو الثقافي

تعرض مسلمو بلغاريا طوال تاريخهم لحملات عديدة من القتل والتهجير والتصفية الجسدية، حيث نظر المجتمع لهم نظرة دونية، باعتبارهم عملاء للدولة العثمانية، التي حكمت بلغاريا لأكثر من خمسة قرون قبل أن يجبرها الصراع مع روسيا القيصرية للتنازل عن حكم بلغاريا، وقد أوسع حكام بلغاريا المتعاقبين المسلمين حصارًا وتجويعًا وتشريدًا، حتى أن مليوني مسلم بلغاري أجبروا على مغادرتها.
ولم يختلف الأمر باختلاف نظم الحكم في بلغاريا حيث تبنت الحكومات المتعاقبة سياسات متشابهة بهدف سحق الهوية المسلمة لهم وفرض ما أطلقت عليه البلغرة في صفوفهم وهو الأمر الذي رفضه المسلمون وقاوموه بشكل واضح.
ومن أسف أن أوضاع مسلمي بلغاريا لم تتحسن كثيرًا بعد زوال الحقبة الشيوعية أو حتى بعد انضمام بلغاريا للاتحاد الأوروبي؛ حيث واصلت حكوماتها إتباع إجراءات تمييزية غير مسبوقة ضد المسلمين.
وفي محاولة منا لا ستجلاء الحقيقة، والوقفوف على أوضاع المسلمين هناك، التقينا  الدكتور مصطفى حاجي، مفتي بلغاريا للتحدث معه عن مختلف شئون المسلمين هناك، وتأثير حملة البلغرة على عقيدتهم وهويتهم الإسلامية، وكذلك تأثير الانضمام للاتحاد الأوروبي على أوضاعهم، ودرجة الوعي الديني للمسلمين هناك، والذين عاشوا سبعة عقود تحت ربقة العصابة الشيوعية.
مزيد من التفاصيل في نص الحوار:
* نرجو من فضيلتكم إلقاء الضوء على كيفية دخول الإسلام بلغاريا؟
** دخل الإسلام بلغاريا إبان فترة الفتح العثماني في عهد السلطان مراد الأول الذي فتح صوفيا عام 774هـ، واستمر الحكم الإسلامي لبلغاريا فترة تربو على خمسة قرون إلى أن بدأ أفول نجم الدولة العثمانية، وتصاعد الصراع مع روسيا القيصرية، والذي انتهى باستقلال بلغاريا عام 1908م.
وخلال فترة القرون الخمسة لم تحقق الدعوة الإسلامية في بلغاريا المأمول منها حيث افتقدت الجهود الدعوية التركية الطابع الجماعي واقتصرت على جهود فردية لم تفلح في نشر الإسلام في أغلب مناطق البلاد مثلاً بعكس ما حدث في دولة مثل ألبانيا.
وينتشر المسلمون في معظم مدن بلغاريا وينقسمون لعدة أقسام الأتراك الذين تقطن أغلبيتهم بالقرب من سواحل البحر الأسود، وكذلك التتر وهم أتراك أيضًا غير أنهم قدموا لبلغاريا من شبة جزيرة القرم بعد الاجتياح الروسي لها ويتمركزون على الحدود الرومانية بالإضافة إلى البوماق وهم شعب بلغاريا الأصلي الذي اعتنق الإسلام إبان الفتح العثماني ويصل عدد المسلمين حاليًا إلى ثلاثة ملايين مسلم.
 
* يتحدث الكثيرون عن أن مسلمي بلغاريا قد عانوا الويلات وبشكل مأساوي منذ نهاية الفتح العثماني؟
** مأساة مسلمي بلغاريا بالغة وتفوق نظيراتها من مآسي جميع مسلمي المنطقة حيث لاقى المسلمون البلغار طوال تاريخهم جميع صنوف العذاب بالتناوب بين عهدي القياصرة الذين حكموا بلغاريا منذ عام 1908م حتى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ حيث تبنوا سياسات القتل والاعتقال والتهجير متواكبة مع سياسات تحقير بوصفهم بالعملاء لتركيا والشيوعيين الذين كرروا نفس السياسات لكن بأساليب أبشع تفننت فيها العصابة الشيوعية التي حكمت بلغاريا حتى 1989م في تنفيذها في أوساطهم.
ومنها تجفيف منابع التدين وتحويل المساجد والمراكز الإسلامية إلى إسطبلات خيول ومتاحف ومخازن للغلال فضلاً عن تبني مخطط لتذويب هويتهم وإبعادهم عن الإسلام، وتمثل في العديد من الخطوات يأتي في مقدمتها هدم منظم وإغلاق تام للمساجد والمدارس الإسلامية لدرجة أن 81 مسجدًا أثريًا قد لحق بهم الدمار الكامل.
ولم يبق إلا مسجد واحد في العاصمة صوفيا يؤدى فيه زوار بلغاريا من رؤساء الدول الإسلامية والعربية شعائر الصلاة وإجبار المسلمين على التخلي عن عاداتهم وأسمائهم الإسلامية وعلى الزواج من مسيحيين ومنع المسلمات من ارتداء الحجاب واعتقال أي شخص يبدي اعتراضًا على هذا المخطط.
 
مقاومة شرسة
* هل جاءت هذه السياسات في إطار خطة إعادة ولادة الأمة التي تبناها حاكم بلغاريا الشيوعي السابق جيفكوف؟
** لقد تفنن الشيوعيون في تبني خطط لتذويب هوية المسلمين وأطلقوا على هذه الخطط أسماء براقة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب حيث أجبرت هذه الخطط المسلمين على تغيير أسمائهم من العربية والإسلامية إلى السلاقية ورفض تسجيل الأسماء الإسلامية في السجلات الرسمية.
ورغم ذلك فقد قاوم المسلمون هذه السياسات وبذلوا الغالي والنفيس من أجل عدم المساس بهويتهم، إلا أن هذه المقاومة قوبلت بحملات قتل وتعذيب وإبادة واعتقال وتهجير لحوالي 2 مليون مسلم بلغاري تركوا أرضهم إلى كل من تركيا ورومانيا وجمهوريات يوغوسلافيا السابقة هروبًا من حملات الإبادة الحمراء المستمرة لما يقرب من 50 عامًا.
 
جريمة جيفكوف
* في عام 1989م سقطت سطوة الشيوعيين على الحكم في بلغاريا فهل حملت السنوات التالية تحسنًا في أوضاع المسلمين؟
** لقد مثل الانهيار السريع لحكم الشيوعيين مفاجأة كبيرة تنفس معها مسلمو بلغاريا الصعداء آملين في تحسن الأوضاع غير أن الأمور استمرت على حالها حيث تبنت الحكومات المتعاقبة جريمة جيفكوف وإن كانت بصورة أقل شراسة مثل حرمانهم من القيام بدور سياسي.
وإشاعة البغضاء والفرقة بين قياداتهم وإغرائهم بالمال والسلطة لشق صفوف المسلمين وحرمان مناطقهم من أية خطط تنموية وممارسة أقصى درجات الضغوط الاقتصادية على مناطقهم بإبقائها أسيرة الفقر والجهل والبطالة التي تجاوزت نسبتها أكثر من 70% في أوساط مسلمي بلغاريا.
 
تحسن نسبي
* في عام 2005 انضمت بلغاريا إلى الاتحاد الأوروبي فهل حمل هذا التطور أشياء إيجابية لمسلمي بلغاريا؟
** لقد أسهم التزام بلغاريا بالحفاظ على حقوق الأقليات وسعيها لتحسين صورتها أمام الرأي العام العالمي واضعة في اعتبارها وجود دعوى قضائية من مواطنيها المسلمين أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية للحصول على حقوقهم ووقفهم حملة البلغرة في صفوفهم في تحسن أوضاع المسلمين لاسيما على الصعيد الاقتصادي فضلا عن تراجع الحكومة البلغارية عن الاستمرار في مسعى البلغرة.
ومع ذلك فإن المتاعب لازالت توضع في طريق المسلمين فحين توقف قطار البلغرة عن دهس الجسد المسلم أتى تحدٍ من نوع آخر ألا وهو ما يمكن أن يطلق عليه الغزو الثقافي والتغريبي المتمثل في وسائل نشر الانحلال الأخلاقي في أوساطهم عبر الأفلام الداعرة والمحلات المبتذلة ودور السينما الساقطة بهدف وأد أي إرهاصات بعودة الصحوة والوعي الإسلامي إلى صفوفهم.
وذلك مضيًا في طريق تذويب هويتهم والذهاب بعيدًا عن العودة إلى جذورهم وهو ما يؤكد أن العداء للإسلام مستقر في أذهان جميع الساسة البلغار سواء أكانوا شيوعيين أو يسيرون في إطار الديمقراطية حتى بعد عودة رموز الملكية للحك في بلغاريا.
 
* ارتبطت بلغاريا بعلاقات وثيقة مع العديد من الدول العربية والإسلامية إلا أن هذا لم يؤثر بالإيجاب على أوضاع المسلمين هناك.. فلماذا؟
** في الماضي لم تفلح هذه العلاقات في تحسين أوضاع المسلمين حيث رفضت بلغاريا أي تدخل من جانب أي من الدول العربية والإسلامية باعتبار أن هذه المسألة شأنًا داخليًا بل أنها سعت لابتزاز تركيا على سياسات التمييز والقهر التي تمارس ضد مسلمي بلغاريا بدعم حزب العمال الكردستاني وتوفير معسكرات تدريب له.
إلا أنني اعتقد أن الأوضاع الاقتصادية المعقدة في بلغاريا وفشل الحكومات المتعاقبة في التوصل لحلول لها قد يجبر هذه الحكومة على وقف إجراءاتها التمييزية ضد المسلمين وبل تحسين أوضاعهم سعيًا لاجتذاب استثمارات عربية وإسلامية وذلك لضخ الدماء في عروق الاقتصاد البلغاري والذي لم يجن الشيء الكثير رغم انضمام بلغاريا منذ أعوام ثلاثة للاتحاد الأوروبي.
 
حصار ناعم
* حديثك يشير إلى تبني الحكومة لبعض الإجراءات لتحسين أوضاع المسلمين.. أليس كذلك؟
** حاولت الحكومة البلغارية التخفيف من حدة التوتر مع المسلمين والسعي لإقناعهم بسحب دعواهم القضائية من أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية ولهذا السبب فقد أسبغت الحكومة الشرعية على حركة الحقوق والحريات التي تتبنى قضايا مسلمي بلغاريا وذلك لتحقيق أكثر من هدف أهمها رفعها من قائمة الخطر التي تفرضها عليها منظمة المؤتمر الإسلامي كأكثر الدول ممارسة لإجراءات تمييزية ضد المسلمين إلا أن هذه الخطوة لم يكن لها نتائج كبيرة.
وقد استمرت الحكومة في تبني سياسات حصار ناعمة على الحركة وعلى الرابطة والمشيخة الإسلامية اللتين بذلتا جهودًا جبارة للدفاع عن حقوق المسلمين مستفيدين من بعض التشريعات التي أجبرت عضوية الاتحاد الأوروبي بلغاريا على إقرارها لاسيما الخاصة باستقلال المؤسسات الدينية ومع هذا فقد أصرت السلطة على تفريغ هذه الإجراءات من مضمونها بوضع العراقيل أمام أنشطة هذه المؤسسات.
 
تجفيف منابع
* لم نتطرق إلى مسألة مستوى الوعي الديني لمسلمي بلغاريا في ظل هذه الظروف المعقدة؟
** لا شك أن عقود الحصار والشيوعية قد لعبت دورًا في تجفيف المنابع الدينية لمسلمي بلغاريا وإضعاف ارتباطهم بالإسلام ورغم ذلك فإن مساعي الدولة البلغارية لم تنجح في قطع أواصر الصلة بين المسلمين ودينهم إلا أنها خلقت حالة من الجهل المطبق بتعاليم الإسلام لدى الغالبية العظمى من المسلمين.
وهي الحالة التي تحاول دار الإفتاء والمشيخة الإسلامية مواجهتها حاليًا عبر عقد دورات لتنمية وعي المسلمين لاسيما الشباب الذين ينظر الكثير منهم إلى الإسلام كدين مناسبات وأعياد واحتفالات وتتسم العبادات به بطابع اختياري وهو الأمر الذي ترفضه المؤسسات الإسلامية التي تستخدم العديد من المراكز الإسلامية، و6 مدارس ثانوية إسلامية في التصدي لهذا الأمر بكل قوة.
وهي الجهود التي لاقت نجاحًا تمثل في إقبال عدد كبير من الشباب على الصلاة لدرجة أن أحد المساجد الإسلامية قد سجل رقمًا قياسيًا في صلاة الجمعة التي حضرها أكثر من 1300 مصل فضلاً عن إقبال أكثر من 615 على حلقات تحفيظ القرآن الكريم التي نظمها العديد من المؤسسات الإسلامية وهو ما يعكس تصاعدًا في إقبال المسلمين هناك على الصلاة والذي يتكرر في عدد 300 مصلى تنتشر في أغلب مدن بلغاريا.
 
* معالم العودة للإسلام تدعوني لطرح تساؤل حول علاقات مسلمي بلغاريا بالعالمين العربي والإسلامي؟
** لقد تطورت هذه العلاقات في السنوات الأخيرة حيث تلقينا دعمًا لوجيستيًا وفنيًا تمثل في مراجع إسلامية ومصاحف مترجمة للغتين البلغارية والتركية فضلاً عن تقديم العديد من الجامعات الإسلامية منحًا لطلاب بلغار للدراسة بها وعلى رأسها الأزهر الشريف وجامعتي محمد بن سعود وأم القرى السعوديتين وجامعات أردنية وسورية وتركية ونأمل مضاعفة هذه المنح في السنوات القادمة للمساعدة في خلق كوادر قادرة على تنمية الوعي الديني لمسلمي بلغاريا وإعادتهم إلى دينهم الحنيف.