لماذا فشل الانقلاب القضائي على حزب العدالة والتنمية التركي
5 شعبان 1429
د. محمد مورو
المعروف في تاريخ الصراع السياسي أو الانقلابات عادة تكون انقلابات عسكرية، وبالنسبة للتاريخ التركي المعاصر فإن الانقلابات العسكرية كانت الأداة الرئيسية التي تستخدمها المؤسسة العلمانية " الكمالية " في الإطاحة بأي حكومة تمثل نوعاً من الخروج على المبادئ الكمالية كما يتصورها العسكر والأحزاب الكمالية والمؤسسة التركية الكمالية منذ إطاحة كمال أتاتورك بالخلافة العثمانية. وكانت آخر هذه الانقلابات عام 1967 حيث أجبر العسكر الأتراك حكومة حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أريكان على الاستقالة.
 
ولكن يبدو أن الواقع الأوروبي – باعتبار تركيا تسعى إلى دخول الاتحاد الأوروبي – والواقع العالمي، والواقع التركي فقد تجاوز إمكانية القبول بفكرة الانقلاب العسكري والذي حدث بعد انقلاب عام 1997، أن نفس القوى التي كانت تشكل حزب الرفاه – في معظمها – استطاعت أن تشكل حزباً جديداً مع خبرة أطول وانفتاح أكبر وقدرة على المناورة أعلى هو حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، واستطاع هذا الحزب أن يكسب انتخابات عام 2002 ويشكل حكومة منفرداً وهو أمر لا يتكرر كثيراً في تركيا، بل أكثر من هذا استطاع هذا الحزب وبقدر عال من المرونة والكفاءة أن يدخل العديد من المعارك السياسية والدستورية، وأن يكسبها في محاولة لتقليص دور العسكر عن طريق تقديم مجموعة من الإصلاحات التي يتطلبها إعادة هيكلة الواقع التركي وفقاً لطلبات الاتحاد الأوروبي، وكان هذا نوعاً من الذكاء السياسي المنقطع النظير لحزب العدالة الذي يعمل في ظرف صعب جداً نظراً لتركيبته السياسية الداخلية التركية المعقدة، كان العنوان هو تلبية المطالب الأوروبية في الإصلاح، وكان المضمون هو تقليص دور المؤسسة العسكرية، وكان هذا الأمر يحظى برضا الشعب التركي الذي يرغب في دخول تركيا للاتحاد الأوروبي، ورغم أن ذلك لا يزال صعباً جداً نظراً لأن هناك قوى أوروبية لا ترغب في دخول تركيا ذات الأغلبية المسلمة إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره اتحاداً مسيحياً، إلا أن حكومة حزب العدالة والتنمية أدارت المسألة بكفاءة فحققت قدراً من أهدافها، بل إن حزب العدالة والتنمية التركي أدار المعركة ليس بين الأفكار الإسلامية والأفكار العلمانية، لأن ذلك محظور في تركيا، بل بين الانفتاح والحرية وبين الأصولية العلمانية التركية، ومن ثم فإنه قلب المعادلة، فبدلاً من أن يكون حزب العدالة والتنمية متهماً بالأصولية، كانت القوى والأحزاب العلمانية والعسكر هم المتهمين بالأصولية العلمانية، بل وقام حزب العدالة والتنمية التركي ذو التوجهات الإسلامية التي نجح في إخفائها نظراً للواقع التركي المعقد بحشد كل القوى والشخصيات ومنظمات المجتمع المدني في تركيا ضد الأصولية العلمانية التركية، التي ظهرت بمظهر فج وغير قابل للمرور محلياً وعالمياً، وهو أمر يحسب لصالح رجب طيب أردوغان رئيس الحزب ورئيس الوزراء التركي وتيارات حزب العدالة والتنمية، بل ووجدنا حكومة الحزب عندما فازت في انتخابات 2007 تستخدم خبرات ووزراء ومسئولين من خارج الحزب لتأكيد هذا المعنى، معنى أن المعركة بين الحكم المدني، وبين الحكم الأصولي العسكري العلماني ! !. 
 
وحقق حزب العدالة والتنمية إنجازاً آخر حين نجح في تأكيد أغلبيته عام 2007 وهو أمر لم يتكرر كثيراً في تركيا أن يفوز نفس الحزب مرتين متتاليتين، وفي الإطار ذاته نجح في توصيل أحد رموزه إلى منصب رئاسة الجمهورية " عبد الله جول "، بل وتغيير الدستور ليكون انتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع المباشر وليس عن طريق نواب البرلمان، وهو أمر يقلص قدرة المؤسسات العلمانية التي تستخدم عدداً من الأحزاب.
 
ورغم كل العقبات التي كانت تضعها المؤسسة العلمانية ضد حزب العدالة والتنمية، فإن الحزب استطاع أن يحقق معدل تنمية غير مسبوق، وأن يقضي على الفساد الذي ضرب الحياة السياسية والاقتصادية التركية لفترة طويلة، وأن يقلل معدل التضخم، وأن يدعم الليرة التركية، وأن يضاعف الدخل القومي التركي ومستوى معيشة الفرد التركي، بل أكثر من هذا استطاع أن يقيم جسوراً من التواصل مع الأكراد الأتراك، وحصل الحزب على أصوات أكراد أكثر مما حصلت عليه الأحزاب الكردية ذاتها داخل مناطق الأكراد، وكان معنى هذا أننا أمام معسكرين معسكراً يضم أحزاباً فاسدة لا تملك الكفاءة تؤدي إلى الانهيار الاقتصادي، ولا تملك قدرة على التعاطي مع المشكلة الكردية إلا بالعصا وهذا معناه زيادة مساحة التمرد وسيادة فكرة الانفصال الكردي في مواجهة حزب غير فاسد شديد الكفاءة يمكن أن يحل المشاكل الاقتصادية بل والسياسية التركية، الأول مدعوم من العسكر والمؤسسات العلمانية في البلاد، والثاني مدعوم من الشعب التركي، وكانت المقارنة واضحة.
 
ولأن العلمانية التركية الأتاتوركية كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، مما عده البعض أن تركيا قد انتقلت إلى مرحلة الجمهورية الثانية، فإن تلك العلمانية التقطت ما تصورته أخطاء وممارسات معادية للعلمانية من حزب العدالة التركي واستخدمت آخر معاقلها وهو المؤسسة القضائية أو المحكمة الدستورية العليا التركية، وقام النائب العام بطلب حل الحزب وحظر نشاط 71 من قياداته بمن فيهم رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، وحاولت قوى أخرى عفي عليها الزمن القيام بنوع من الانقلاب العسكري تم إحباطه لأنه خارج إطار التاريخ والسياق، بل إن كبار العسكريين أصلاً لم يشاركوا فيه، وكان يتكون من عسكريين سابقين وشخصيات فقدت اتزانها. والمحصلة أن تركيا باتت على مفترق طرق تاريخي، فإما أن تقود تركيا إلى الفوضى والفساد والانحطاط الاقتصادي وتفاقم المشاكل العرقية، وإما أن تستمر في صعودها، كان القرار بيد المحكمة، وبديهي أن حل الحزب وحظر قياداته لم يكن سيحقق نهاية للمعسكر الآخر، لأن حزب العدالة كان سيعود باسم جديد وتيارات جديدة، وهو أمر ليس جديداً على جمهور وكوادر حزب العدالة والتنمية فقد فعلوها من قبل عدة مرات، وكانت ستجرى انتخابات جديدة، سيظهر فيها ازدياد شعبية الحزب، وهكذا كان العقلاء يرون أن الأمر سيصبح نوعاً من جرح تركيا دون قتل حزب العدالة والتنمية، هذا من ناحية الداخل أما من ناحية الخارج، فإن أوروبا وأمريكا لا تستريحان لحزب العدالة، وكان من الممكن جداً قبول حل الحزب وحظر قياداته لولا أن ذلك لم يكن أولاً يحل المشكلة وكان نذيراً بتداعيات خطيرة على أوروبا وأمريكا وقد يقول البعض أن أوروبا مع الديمقراطية ولذلك ضغطت على العلمانيين الأتراك لعدم صدور قرار بحل حزب التنمية والعدالة، وهذا غير صحيح، فحتى المحكمة الأوروبية ذاتها قبلت بحل حزب الرفاه عندما طعن على قرار بذلك ! !.
 
أوروبا وأمريكا مزدوجتا المعايير ولكن هناك مصالح أخرى يجب البحث عنها في عدم تحمس أوروبا وأمريكا لحل حزب العدالة، فحل الحزب يعني تفكك تركيا أو نوع من الفوضى وهذا يعني إمكانية انتشار التيارات الإسلامية الراديكالية التي تشكل خطراً أكبر على أوروبا وأمريكا، بل إن وجود حزب – إسلامي معتدل – في تركيا هو ضمانة لعدم تحول تركيا إلى أفغانستان أخرى مثلاً ! !. وكذلك فإن قرب تركيا من البلاد الأوروبية وعدم وجود حواجز طبيعية في هذا الطريق يجعل من الممكن تسرب الراديكالية إلى أوروبا عن طريق تركيا، بالإضافة إلى أن التردي الاقتصادي المتوقع في تركيا بحل حزب العدالة والتنمية يعني طوفاناً من الهجرة البشرية غير الشرعية من تركيا إلى أوروبا سواء كان المهاجرون غير الشرعيين أتراك أم غير أتراك، وهي أمور لا تحتملها أوروبا بالطبع وهكذا فإن قرار المحكمة جاء ليراعي هذه المصالح الداخلية والخارجية، وبديهي أن الحماقة لا تصل إلى حد طعن تركيا وجرح أوروبا وتهديد أمريكا في مقابل إنهاء مشكوك فيه لحزب متهم بالإسلامية أو يمثل خطورة على العلمانية ومن الطبيعي أن نفهم أن ضغوطاً شديدة مورست على المحكمة لعدم التورط في قرار هو بمثابة الانتحار.
 
ولكن في نفس الوقت كان قرار المحكمة هو نوع من الرسالة لحزب العدالة حتى لا يتمادى في الضغط باتجاه تحقيق إصلاحات أكثر تنهي الوجود العلماني الأصولي في تركيا، لأن قرار المحكمة كان نوعاً من الإدانة للحزب دون الوصول إلى حد إغلاقه بل الاكتفاء بقطع نصف الدعم الحكومي له – وهو أمر رمزي طبعاً – وهو نوع من الإدانة والتحذير، والمعركة لا تزال مستمرة ولم تكتمل فصولاً بعد، ولكن أي مراقب للشأن التركي يعرف أن حزب العدالة وقياداته قد تمرسوا في اجتياز الحواجز والعقبات في ماراثون طويل، طويل جداً.