حقائق ينبغي أن تقال حول مذكرة الاعتقال
16 رجب 1429
إبراهيم الأزرق
بحمد الله تعالى فإن دولة السودان كانت من الوعي بمكان لم يأذن لها في المصادقة على ميثاق محكمة العدل الدولية.
وهذا طعن مسبق من قبل الحكومة السودانية فيها وإعلان لعدم الرضا بسيادة أجنبية عليها، وحسناً فعلت وإلاّ كان شأنها والمحكمة شأن هزيلة يوم قالت:
لعمري لقد حَكَمْتَ لا متورعاً = ولا فَهِمَاً عند الحكومةِ عَالِما
نَدِمتُ فلم أقدِر على مُتَزَحْزَحٍ = وأصبحَ زوجي عاثرَ الرأي نادما
وقصتها في تحكيم الطاغية عمليق مذكورة في كتب الأدب وعاقبتها السيئة مثبتة، ولكل دهر عمليق! والحق أن عدم رضا الحكومة السودانية بمحكمة العدل الدولية واجب شرعي، سواء تعلق ذلك برأس الدولة أو ببعض رعاياها.
قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا) [النساء: 60]، وقال سبحانه: (إن الحكم إلاّ لله) في ثلاثة مواضع من كتابه، ولا أدري لم يستح بعض المسلمين من الجهر برفض سلطان المحكمة الدولية عليهم ومعهم القرآن، بينما أعلنته أمريكا وليس معها شيء غير الطغيان!
وبمناسبة مذكرة أوكامبو المحرضة على اعتقال الرئيس فثمة حقائق ينبغي أن تقال وتوعى:
أولاً: للدول حقها في رفض قرار محكمة العدل الدولية ولاسيما تلك التي لم تصادق على ميثاقها، ورفض قرارات المحكمة ليس بدعاً من السودان، بل هو أمر مشاهد على الصعيد الدولي بالنسبة للدول الكبرى وكذا غيرها، ومن أشهر من لم يعترف بإلزام محكمة العدل الدولية لسيادة الدولة الولايات المتحدة الأمريكية فقد أدانت المحكمة أمريكا عام 1986م لأنها دعمت المعارضة المسلحة في الحرب ضد حكومة نيكاراغوا، وفي حينها حملت المحكمة أمريكا جريرة تفخيخ الموانئ ، وقد ذكر نعوم تشومسكي أن إدارة ريغان ضد نيكاراغوا أوقعت 75 ألف ضحية وخلفت دمار بلد لا رجاء لقيامته.
ولما صدر قرار المحكمة الدولية بإدانة أمريكا جاء رد الولايات المتحدة برفض الانصياع للحكم وتوقفها عن الاعتراف بشرعية محكمة العدل الدولية! وفي أثناء محاكمة الرئيس الصربي السابق سلوبودان مليوسوفيتش قال متياس هيلمان رئيس مكتب بلجراد التابع لمحكمة مجرمي الحرب في لاهاي: إن الشعب الصربي لا يبدو مباليا بالمحكمة، بسبب الصورة السلبية الراسخة في أذهان الناس عن المحكمة، وهو الأمر الذي يعيق أيضاً عمل المحكمة ويمنع القبض على العديد من القادة المتورطين في جرائم حرب.
 
ثانياً: لابد من الحذر في التعامل مع الواقع، وعدم الاغترار بأمان كثير من الدول التي قد عُلِمت سرعة استجابتها لما يسمى بالشرعية الدولية عند أول بادرة ضغط أو إغراء، وما حال الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور عنا ببعيد، فمع تنازل هذا بعد اضطراب بلاده، واستجدائه جورج بوش في كلمة تلفزيونية لأجل مساعدة ليبريا، ولجوئه إلى نيجيريا كانت عاقبته بعد بعض الضغط على نيجيريا القبوع أمام محكمة العدل الدولية.
 
ثالثاً: أخطأ من ظن أن الغرب رغم انقسامه في شأن مذكرة الاعتقال يصلح أن يكون حليفاً لتيار إسلامي، ومن الغلط أن نلقي بالثقل اعتماداً عليه، أو نركن إلى تصريحات بعضهم، فقد بين الحدث أن جمهورهم يجرم الرئاسة السودانية ممثلة في المؤتمر الوطني وحده دون شريكه النصراني-العلماني! وإن كانوا يختلفون هل تعجل أوكامبو إصدار مذكرته أم أنها جاءت في وقتها!
 
رابعاً: أوضح الحدث أن في الأمة السودانية خيراً، فقد ندد رجال من مختلف الاتجاهات بقرار أوكامبو، مع أن بعض هؤلاء لا يربطهم مع البشير كبير ود بل ربما كان بينهم نوع تنافس، وفي مقابل هذا الخير الكثير أكد الحدث وجود جم غفير من الحانقين على الرئاسة السودانية وقد أعمتهم الخصومة عن النظر في عواقب الأمور، فأبدوا الفرح والسرور وأظهروا الحبور بالمذكرة بل طالب بعضهم بما لم يطالب به أوكامبو! ومدونات هؤلاء ومواقع حوارهم على الإنترنت شاهدة على حنقهم وسوء طويتهم. ولهؤلاء نقول: اتقوا الله إن كنتم تعرفون الله، ولا تمالئوا أعداء الشريعة على منتسبيها، فإن هذا ذنب يوشك أن يخرج بصاحبه إلى حد الكفر كما قرر علماء الإسلام على اختلاف مذاهبهم. ومن لم يبال بهذا فليعلم أن عامة المسلمين من أهل السودان وغيره يبالون به، فليحذر من السقوط في أعينهم ومن خسارتهم بثمن بخس ألا وهو رضا جهات مشبوهة.
 
خامساً: لعل هذا الحدث يتطلب من الحكومات العربية أن تنظر مليّاً في كثير من المعاهدات والمواثيق الدولية، وأن تتريث كثيراً قبل المصادقة على ما يستجد في المستقبل، حتى لا تدين نفسها بيدها، أو تسلم في قضايا كبرى لا يحق لها التسليم فيها، فحري بالدول تكوين لجنان للنظر في هذه المواثيق والعقود، ومن الأهمية بمكان أن تتضمن اللجنة هيئة شرعية، وقد رأينا أن بعض المنظمات الحقوقية تدين بلاداً إسلامية وتطالب بأمور تخالف الشريعة فيما يتعلق بالمرأة والطفل وغيرهما وتحتج في مطالبها لتلك الدول بأنها قد وقعت على مواثيق تلزمها التزام ما قالته المنظمة، وحري بتلك الدول أن تعيد النظر في تلك المواثيق.
 
سادساً: إنكار إدعاء المحكمة الدولية واجب شرعي ووطني بل وسياسي مجرد، غير أنه لا ينبغي أن يجعل معياراً على الرضا أو الاتفاق التام مع المؤتمر الوطني الحاكم في غير هذه القضية الجلية، لامن قبل موافقي المؤتمر الوطني السوداني الحاكم ولا من قبل معارضيه، وعلى من كانت له ظلامة أو قعت عليه مظلمة أن لا يدع مجالا لاستخدامه في تأييد باطل من قبل أناس لا يبالون بالشرع والوطن والسياسة، ولا يلتفتون إلى غير أهوائهم ومآربهم الخاصة، فذلك أزكى لهم، والله المستعان.