عفوا ايتها البجعة !

كانت الساعة تتجاوز التاسعة صباحا وأنا أنتظر السيارة التي ستقلني إلى مدينة لوغانو والتي تقع على بحيرة لوغانو الخلابة وذلك لإعطاء محاضرة في المركز الإسلامي الرئيسي بالمدينة .

كان الجو رائعا إلى حد لا يمكن وصفه خاصة عندما سطعت الشمس الدافئة على جبال الثلج الشاهقة فتلألأ الكون كله بانعكاس الشمس على الثلج في خطوط ولمعان يأخذان بالألباب.

وبرغم أنني قطعت المسافة في ساعة أويزيد قليلاً لكنني لم أشعر بسفر أو ترحال ولا يمكن لي أن أشعر بذلك حيث الطريق كأنه ذرات متماسكة من حرير إلى جانب المناظر الطبيعية التي سلبتني كل هموم أو أي آثار للسفر.
مرت الساعة ونحن نقترب قليلاً من مدخل مدينة لوجانو الرائعة وقد فاض الماء على ضفاف بحيرتها الخلابة حتى كاد أن يعانق الطريق الرئيسي الموازي لها وبرغم هذا الفيضان إلا أن كل شيء كان على مايرام حتى وإن فاض الماء!.

سرنا بعدها على الطريق الموازي لضفاف البحيرة والتي انساق على جانبيها أجمل الأشجار التي بدت في حلل حمراء وصفراء وخضراء وزرقاء مشوبة بكل ألوان الطيف ودرجاته في شكل غريب وعجيب حتى شكلت كل واحدة منها تابلوها رائعاً لا يمكن وصفه.

عفواً أيتها البجعة!
في نفس اللحظة التي كنا نسير فيها على جانبي البحيرة خرجت بجعة من البحيرة التي تعج بمئات البجع الأبيض الشاهق البياض الذي إذا تأملت جزءا من عنقه ومنقاره وعيونه فستجد حمرة رائعة الجمال تبدو كأنها حِنة مقسمة بتناسق غريب وعجيب إضافة لرشات من سواد تأخذك إلى عالم الغموض والجمال.

أما عن البجعة التي قصدتها فقد أخذت طريقها من البحيرة إلى الشاطيء ومن ثم إلى الطريق الذي نسير عليه وهي تتلألأ وتتمايل بشكل لافت كأنها زينت للناظرين .

سارت البجعة بخطوات متأنية وقبل أن تقترب من الطريق بعدة أمتار حدث مالا أتصوره في عالم البشر! لقد وقفت كل السيارات في الاتجاهين حتى تعبر البجعة الطريق .

أما عن بطء البجعة ودلالها وتصرفها فحدث ولا حرج حيث نزلت البجعة من على الرصيف لتعبر الناحية الأخرى من الطريق دون خوف أو قلق كما لم تكلف نفسها عبء الالتفات لأي من السيارات التي وقفت لها ،وبدلا من أن تعبر الطريق بسرعة لأن مئات السيارات في انتظارها إلا أنها وقفت في منتصف الطريق !.

أما عن أصحاب السيارات فالكل كان ينتظر تحرك البجعة دون ضيق أو ضجر أو استعمال لآلة تنبيه واحدة، وتأملت أحدهم وهو ينظر إلى البجعة بحنو وإعجاب أما الآخر فقد أخرج جريدته ليتصفحها انتظارا لعبور البجعة البيضاء، أما الثالث فقد استرخى على كرسيه قليلا حتى تأخذ البجعة قرارها!.

أما عني فكدت أعض على أناملي من الغيظ وكدت أنزل من السيارة لأهشها حتى ألحق بميعاد المحاضرة ، وإن أضمرت في نفسي لو حال الناس بيني وبينها لربما فعلت أكثر لكنني تذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «بينا رجل بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا يا رسول الله:وإن لنا في البهائم لأجراً.فقال:في كل ذات كبد رطبة أجر».

بعد مرور بعض الوقت أخذت البجعة قرارها بعبور الطريق حتى صعدت الرصيف الذي يقع بين الطريقين فتوقف الطريق الآخر تماماً حتى عبرت البجعة في أمان وسلام !.

عفوا أيتها العجوز!

بعد رحلتي إلى سويسرا عدت إلى مصر وبعد أسبوع تقريباً كنت أنهي بعض الأوراق الخاصة بنفس السفر وأثناء عودتي وتحديدا في منطقة نصر الدين أول شارع الهرم وفي المكان المخصص لعبور المشاة رأيت عجوزا تتوكأ على عكازين من المعدن تحاول عبور الطريق كلما أرادت أن تتحرك خطوة إلى الأمام رجعت خطوتين إلى الخلف بسبب كثافة واقتراب السيارات منها.

حاولت بداية أن أعبر الطريق لآخد بيديها لكن كثافة السيارات ناحيتي منعتني من أن أعبر الطريق إليها بعدها توقف لها أحد السائقين وأشار إليها بعبور الطريق فمرت مسرعة من أمامه وهي تتحامل على نفسها بسبب المرض وكأنه أهداها بهدية !. وعندما عبرت السيارة وجدت نفسها أمام طوفان من السيارات التي رفض أصحابها الوقوف لها حتى وجدت نفسها في موج من فوقه موج من السيارات فلا هي عبرت الطريق ولا هي استطاعت الرجوع لمكانها الأصلي.

بدأ القلق على وجه المرأة لدرجة الرعب وهي تشير بكلتا عكازيها دون جدوى حتى سارعت أنا الخطى من الناحية الأخرى لألتقط إحدى يديها الضعيفتين وأعبر بها الطريق .

وصلت إليها بشيء من المجازفة محاولاً مساعدتها لكنني عجزت أن أعبر بها الطريق أو أن أعود بها لنقطة البداية حتى صرنا محاصرين بين السيارات وضجيجها وأصوات آلات التنبيه التي لم تنقطع فأصبحنا أقرب للموت أكثر من أي شيء لكن الله سلم واجتزنا الطريق على كل حال.
وأخيراً..
لقد حدثت قصة البجعة في سويسرا وبعد عودتي إلى مصر بأسبوع حدثت قصة العجوز المشلولة وبرغم الفارق الرهيب بين كليهما وبرغم أن المقارنة الطبيعية قد فرضت نفسها على تفكيري وداخلي إلا أنني لا أظن أنني قصدت المقارنة لأن لكل مجتمع سلبياته وإيجابياته لكن من المؤكد أننا وصلنا إلى مرحلة خطيرة من اللامبالاة وعدم احترام لآدمية البشر وافتقاد لقيم نحن أولى بها من كل البشر.
أما وقد تخلينا عن ذلك فلا نستغرب من أن يقال هناك لبجعة أكرمت : عفوا أيتها البجعة ونعجز هنا أن نقول لامرأة عجوز مشلولة قد أهينت : عذرا أيتها العجوز !.