الشعوب بين ناري الديكتاتورية والامبريالية
28 جمادى الثانية 1429
عبد الباقي خليفة

 

محاولة لفهم ما يجري حول زيمبابوي ؟!

تقع الشعوب المستضعفة ومن بينها شعوب ما يعرف بالعالم الثالث ،بين قطبي رحى الاستبداد والحكم العضوض والديكتاتورية من جهة ،وقوى الهيمنة والاستخراب والاستدمارالامبريالي من جهة أخرى .وكثير من الشعوب تعاني الأمرين من تحالف الطرفين ضدها وضد مصالحها الاستراتيجية في الوحدة والتنمية والتقدم واللحاق بركب التصنيع والفعل الحضاري .وهي ترى بلادها مرتعا للفوضى وللفقر وعدم الاستقرار والصراعات الداخلية والاقليمية ،وحتى العنف . فدول العالم الثالث ولاسيما الإفريقية تواجه فيها الحكومات شعوبها ،وتواجه بعضها بعضا مواجهة الخصوم المدججين بالسلاح ( 1 ) الذين لا يأمن الواحد منهم الآخر ،فهي لا تلتزم بأي قاعدة للسلوك سوى مصلحتها الخاصة ،مع الكفيل الدولي ( 2 )

بيد أن بعض الأنظمة ولأسباب خاصة ( قد تكون وطنية ) تخرج عن القطيع وتعلن التمرد على الجلاد الدولي ، وعلى لعبة الكفيل الدولي،وهو نظام مكلف جدا ..عشرات المليارات تدفع له سنويا ..وأفضلية لسلعه ..ورهن لسيادة المكفول . فنظام الكفيل في دول الخليج ( قياس مع الفارق ) مأخوذ من هذا النظام الذي يحدد علاقة الاستبداد بالاستدمار .
 ويختل هذا النظام عندما يتجاوز مستبد الخطوط الحمراء المعروفة لدى الجميع ،فهناك حدود لا يمكن تجاوزها في العلاقات الدولية ،وهناك حدود لا يمكن تجاوزها في قضية الهوية ، وهناك تعليمات يجب تنفيذها فيما يتعلق بتقويض أركان المجتمع المبنية على الثقافة الذاتية والاسس والخصائص الحضارية .وخاصة في المجتمعات غير النصرانية وتحديدا مجتمعاتنا الإسلامية .ولكل قطر استراتجيته الخاصة فبعض الأقطار يقع التدمير فيها بشكل سافر ومن الداخل ،وبعضها ولظروف خاصة من الخارج عبر وسائط الاتصال والمعلوماتية ، مثل الفضائيات وما شابهها من وسائل التأثير في المجتمع .
 وإن كان هناك من أسئلة تفرزها هذه الضجة العالمية حول الانتخابات في زيمبابوي ، وكأنها المرة الأولى في العالم التي تجري فيها انتخابات غير نزيهة وغير شفافة وغير ديمقرطية !! فلتكن أنه لماذا كل هذا الحشد الاعلامي والسياسي على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي ؟ هل انتهت الديكتاتوريات في العالم ولم يبق سوى نظام موغابي ؟ لماذا لم نر حشدا مماثلا في جميع الانتخابات " الافريقية " ؟ هل كانت كل تلك الانتخابات نزيهة وشفافة، وهل أدان مجلس الامن لو مرة واحدة - قبل يوم الاثنين الماضي - أعمال العنف التي قامت بها الحكومات " المكفولة " ضد مواطنيها سواء أثناء  الانتخابات أو غير الانتخابات ؟! أما أن الاوضاع  كما قال عنها موغابي نفسه عشية الانتخابات التي جرت يوم الجمعة 27 يونيو "جميعها أسوأ مما حدث عندنا " وذلك في رده على " المكفولين " الافارقة الذين طالبوا منه تأجيل الانتخابات بايعاز دولي ، وسمحوا لانفسهم بالتدخل في شؤون زيمبابوي ناسين أنهم يرفضون التدخل ( في شؤونهم الداخلية ) !
وليست زيمبابوي هي الدولة الوحيدة التي تمردت على الكفيل الدولي أو "المعزب "بتعبير وزير الخارجية القطري السابق ،وليست الدولة الوحيدة التي أنتج تمردها " فوضى خلاقة " ( 4 ) حيث اصطفت جميع الدول الغربية ضد الرئيس موغابي ،ليس لانه ديكتاتور ،وليس لانه زور الانتخابات في بلده ،فكم من مستبد وديكتاتور يغدق عليه الغرب الالقاب ويمنحه النياشين وحتى صكوك الغفران ويتحول فجأة إلى شريك ،وتحول إلى مطارات بلده الطائرات الخاصة ،التي تحمل زعماء الدول الغربية في زيارات خاصة .ويوصف نظم بعض ،المكفولين ، بالديمقراطية ويشيد بوضع حقوق الانسان فيها ،حتى وإن كان العشرت بل المئات وحتى الآلاف من شعبها في معسكرات اعتقال نازية  ،مصر ، ،تونس ، وحتى نظام العقيد في ليبيا التي لا يجرى فيها أي نوع من أنواع الانتخابات بمفهومها الموضوعي .
وبالتالي فإن بكاء الدول الغربية على الديمقراطية المفقودة في زيمبابوي نفاق ورياء سياسي لم يعد ينطلي على أحد ،حيث أن ازدواجية المعايير لدى الدول الغربية أمر بات معلوما لدى القاصي والداني وهي مبنية على روح عنصرية ابتداء ، فقد برر بعض المسؤولين الأميركان ما يجري في غوانتانامو بأنه " يتم ضد غير أميركيين" (5) .
 لم نر الأمين العام للامم المتحدة يعرب عن قلقه حيال "انتخاباتنا " وتجشم عناء القول لنا بأنه لا يزال قلقا حيال الأوضاع في زيمبابوي . والرئيس الأميركي ، جورج بوش، الذي يستقبل رموز الديكتاتورية ومافيات تزوير الانتخابات في أكثر من بلد قد سارع لاعتبار الانتخابات في زيمبابوي " صورية " متهما حكومة موغابي بـ"الترويع" وحرض سفيره في هيراري الدول المجاورة لغلق حدودها مع زيمبابوي، وتوعد رئيس وزراء بريطانيا غوردن براون بعقوبات إضافية ضد الشعب في زيمباوي ، لأن العقوبات تطال الشعوب وليس الأنظمة؛ فهي تشمل حظرا ماليا وحظرا على التأشيرات ودعوة الشركات التي تتعامل مع نظامه إلى مراجعة موقفها. بل إنه دعا أيضا إلى منع فريق الكريكيت الزيمبابوي من المشاركة في كأس العالم المقررة في بريطانيا الصيف المقبل.وقالت فرنسا: إنها لن تعترف بشرعية السلطة التي ستفوز في جولة الإعادة. فرنسا التي تعترف بشرعية أنظمة ديكتاتورية في شمال أفريقيا ،تزور الانتخابات وتقمع شعوبها !
في حين أكدت البرتغال أنها لن تعترف بنتائج الانتخابات في دورتها الثانية لأنها خالية من الشرعية.ودعا النواب في البرلمان الأوروبي الاربعاء 24 يونيو ، دول الاتحاد الأوروبي إلى عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات. وكانت وزارة الخارجية البريطانية قد أعلنت الأربعاء أن الملكة إليزابيث الثانية جردت موغابي من لقب "سير "الشرفي الذي منح له عام 1994 م . وحثت وزارة الخارجية السويسرية في بيان لها حكومة زيمبابوى على اطلاق سراح السجناء. وقالت إن سويسرا تؤيد البيان الصادر عن مجلس الامن والذي يدين حملة العنف من قبل الحكومة كما تؤيد مطالبة (سكرتير عام الأمم المتحدة) بان كي مون بتأجيل الانتخابات الرئاسية.
كل هذا ، لم يكف الجشع والنهم الغربي في تحطيم كل من يقف في وجه تغوله وأنانيته ولا انسانيته ، بقطع النظر عما إذا كان موغابي محقا أو مخطئا . فلا أحد يحب الاستبداد فضلا عن أن يدافع عنه .
كل هذه الضجة وكل هذا الحشد الاعلمي والسياسي الدولي ليس انتصارا للديمقرطية وحقوق الانسان وضد العنف فكل ذلك يمارسه الغرب و يشجع عليه . وإنما الحقيقة ، أنه في زيمبابوي ، جنوب شرق افريقيا ، هناك شعب، يبلغ تعداده 12،576،742 نسمة ، عمل الاحتلال البريطاني على نشر النصرانية بين سكانه كمخدر للاستيلاء على أراضيهم والهيمنة على بلدهم بشكل مستمر .فقد حاولت بريطانيا تكرار ما حصل في فلسطين التي سلمتها لليهود سنة 1948 م ،حيث سلمت البلاد للأقلية البيضاء ( 3 ) وتم الاعلان عن استقلال مزعوم سنة 1965 بقيادة إيان سميث ،والذي باشر سياسة فصل عنصري وايثار الأقلية البيضاء بكل مقدرات زيمباوبوي والتي كانت تسمى " روديسيا "مما دفع جبهة تحرير زيمبابوي بقيادة موجاني وجوشوا نكومو لخوض نضال طويل بدعم دول عدم الانحياز في الامم المتحدة حتى استعادت الاغلبية السوداء السيادة على بلدها ، ويعتبرالكثيرون أن لاستقلال الحقيقي لزيمبابوي كان في أبريل عام 1980 م.عندما قام روبرت موغابي بإعادة الحقوق لأصحابها الأفارقة عبرالإصلاح الزراعي وانتزاع 75 في المائة من الأراضي الخصبة من أيدي المستوطنين البيض والذين يمثلون 5 في المائة من عديد السكان وسلمها للفلاحين السود في زيمبابوي . تلك كانت الاسباب الحقيقية والوحيدة وراء الحملة ضد ديكتاتورية موغابي ،وليست الديكتاتورية بحد ذاتها، فهي ليست انتصارا ( للديمقراطية ) والتي حولها الغرب سلاحا للابتزاز والهمجية وليس آلية حضارية لصالح الشعوب . ولو عاد موغابي عن قراره لأصبح ديمقراطيا وصديقا وعائد ( للمجتمع الدولي ) كما قيل عن القذافي بعد تسليمه مشروع المفاعل النووي لواشنطن . و( لم يعد ديكتاتورا ) فالغرب تاجر ويتاجر بكل شيء ، حتى ما يسميه - تجاوزا - قيما . إذ إن نزعة النوع الغابية ، التي يسميها ( مصالح ) هي القيمة الوحيدة لديه فقط .
ــــــــــــــــــــــــ
 
( 1 ) والذي لا تبخل به الدول الغربية المهيمنة وفق مصلحتها طبعا والتي تقتضي أحيانا منعه أو تعديله
( 2 ) مصلحة من هم في السلطة وليس الدولة
( 3 ) حاولت ذلك في جنوب افريقيا أيضا
( 4 ) بتعبير نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني ،في حديثه عن كارثة العراق التي تسبب فيها الاحتلال الاميركي، فكل الجرائم بما فيها الطائفية مسؤول عنها الاحتلال لانها لم تكن قبل احتلاله للعراق موجودة بالشكل الذي عرفته بعد 2003 م .
( 5 ) لوكان الشهيدان اللذن اغتالتهما القوت الصهيونية في الضفة الغربية ،وحبر اتفاق التهدئة لم يجف ، يهوديان لرأينا التنديد والاستنكار والشجب وتشجيع الصهاينة على الرد .