أنت هنا

دور العلماء في قيادة الأمة
25 جمادى الثانية 1429
الشيخ أ.د. ناصر بن سليمان العمر

مقدمة تتضمن الإشارة إلى منزلة العلماء في الإسلام:

الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله تعالى أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم.

ينفون عن كتاب الله تعالى تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله تعالى، وفي الله تعالى، وفي كتاب اللّه تعالى بغير علم. يتكلّمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون الجهال بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين.

هذا ما قاله الإمام أحمد في مطلع الرد على الزنادقة، وقد رواه بعض أهل العلم بنحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه[1].

ولاشك أن مصابيح الدجى وأئمة الهدى قد أعلى الله منزلتهم، ورفع شأنهم، (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) [المجادلة: من الآية11]، ومن يرفع الله فمن يخفض؟!

وقد قال صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، و يعرف لعالمنا حقه[2].

وأنشد يوسف بن هارون –رحمه الله- لنفسه:

وأَجَلَّه  في كُـلِ عيـنٍ علمُه   فـرأى له الإجلالَ كلُ جليلِ

وكذلك العلماءُ كالخلفاءِ عنـ   ـد الناسِ في التعظيمِ والتبجيلِ

والمجال لايتسع لذكر مكان أهل العلم، ولا لحشد النقول المأثورة في فضلهم، ولا يتسع لذكر ما لهم من حقوق، وقد صنف أهل الإسلام في ذلك المصنفات قديماً وحديثاً، وحسبي ههنا إشارات، قال الله تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب)، فانظر كيف سوت الشريعة بين الناس في العرق والجنس واللون ثم جعلت أصل التمييز مبنياً على العلم[3].

وهذا المعنى نظمه بعض أهل العلم -وينسب لعلي رضي الله عنه- فقال:

الناسُ من جهة  التمثال أكـفاءُ  أبوهـم  آدمٌ والأمّ  حــواءُ

فإنْ  يكن لهمُ  في أصلهم شرف  يفاخرون  به فالطين و الـماءُ

ما الفضل  إلاَّ  لأهل  العلم إنهم          على الهدى  لمن استهدى أدلاءُ

وإذا تأملت قول الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) [النمل: 15]، بدا لك فضل العلم على كثير من نعم الحياة، قال السبكي: "فإن الله تعالى آتى داود وسليمان من نعم الدنيا والآخرة ما لا ينحصر، ولم يذكر من ذلك في صدر هذه الآية إلا العلم ليبين أنه الأصل في النعم كلها, فلقد كان داود من أعبد البشر كما صح في صحيح مسلم[4]، وذلك من آثار علمه. وجمع الله له ولابنه سليمان ما لم يجمعه لأحد, وجعل العلم أصلاً لذلك كله, وأشارا هما أيضا إلى هذا المعنى بقولهما: (الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين)، عقيب قوله: (آتينا داود وسليمان علماً)، وما يفهم من ذلك أنهما شكرا ما آتاهما إياه وأن سبب التفضيل هو العلم.."[5]، وقال ابن كثير عند تفسير قول الله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها)، "هذا مقامٌ ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصه به من عِلم أسماء كلّ شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك، لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك، فأخبرهم الله تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر تعالى هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم، فقال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا)"[6]، فانظر كيف كان علم آدم عليه السلام من مقومات تكريمه ومن مؤهلات استخلافه.

والله تعالى إنما جعل الإنسان خليفة في هذه الأرض واستعمره فيها لعبادته وحده بإقامة أمره واجتناب نهيه، وذلك يتوجه في جميع شؤون الحياة، ولايملك جواباً صواباً يبين محل فعلٍ من الأمر أو النهي الإلهي إلاّ العلماء. فلا غرو أن يكونوا أهل الريادة وأولي الأمر وأصحاب السيادة، كما فسر بهم غير واحد من السلف قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد قال الأَئِمَّةُ: إنَّ أُولِي الأَمر صنفان العلماء والأمراء. وهذا يدخل فيه مشايخُ الدِّينِ وملوك المسلمين، كلٌّ منهم يطاع فيما إليه من الأَمر. كما يطاع هؤلاء بما يؤمرون به من العباداتِ ويُرجع إليهم في معاني القرآنِ والحديثِ، والإِخبارِ عن اللَّه، وكما يُطاع هؤلاءِ في الجهاد وإِقامةِ الحدِّ وغيرِ ذلِك"[7].

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذ أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء"[8]، وفي هذا المعنى قول من قال:

إن الملوك ليحكمون على الورى    وعلى الملـوك لتحكم  العلماءُ

من هم العلماء المعنيون بذلك الفضل وكيف هم في واقع الناس اليوم؟

يحسن أن ينبه هنا إلى أن العلم الذي ينبغي أن يجتمع في العالم علمان وكذلك العمل، أما العلم فعلم بواقعه الذي يعايشه وعلم بحكم الله الواجب فيه، وكذلك العمل ينبغي أن يكون عمل بمقتضى العلمين.

فمن تحصل له العلم لزمه العمل إذ التشريف يطرد معه التكليف، فإذا كان العلماء بتلك المثابة –التي أشير إليها- من التشريف فما أثقل تكليفهم! فإن قاموا بالتكليف سعدوا وسعد الناس وإلاّ لم يكن العلم شرفاً لهم ولا شافعاً.

فالمرضيون من العلماء هم العاملون المخلصون المتبعون للسنة، فذلك هو المقصود بالعلم، فالعمل الصالح –ومنه الدعوة- أجل ثمار العلم، ومن حرمه فقد حرم الثمرة وتعرض للوعيد الذي كان يهابه السلف، روى الترمذي في جامعه أن شفياً الأصبحي دخل مسجد المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس فقال: من هذا؟ قالوا: أبو هريرة. قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس. فلما سكت وخلا قلت له: أنشدك بحقي لما حدثتني حديثاً سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته. فقال أبو هريرة: أفعل لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته. ثم نشغ أبو هريرة نشغة فمكث قليلاً ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره. ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى فمكث كذلك ثم أفاق فمسح عن وجهه فقال: أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وهو في هذا البيت ما معه أحد غيري وغيره. ثم نشغ نشغة شديدة ثم مال خاراً على وجهه واشتد به طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل يقتل في سبيل الله، ورجل كثير المال فيقول الله تبارك وتعالى للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي صلى الله عليه وسلم؟

قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار.

فيقول الله تبارك وتعالى له: كذبت. وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله: بل أردت أن يقال : فلان قارئ فقد قيل ذاك" الحديث وفي آخره قال أبو هريرة: ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي فقال: "يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة"[9].

وفي هذا المعنى قيل –وينسب إلى علي رضي الله عنه-:

وعالم بعلمه لـم يعـملن          مُعذب من قبل عباد الوثن

أما الذي يجتهد فيما يطيق من العمل الصالح عن علم فذاك المحمود وإن لم يكن من المتبحرين في علوم الشريعة أو الخائضين في لجتها العظمى، ولهذا لما ذكر معروفٌ الكرخيُ في مجلس الإمام أحمد "فقال بعض من حضر: هو قصير العلم! فقال له أحمد: أمسك عافاك الله! وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟ وقال عبد الله:  قلت لأبي هل كان مع معروف شيء من العلم؟ فقال لي: يا بني كان معه رأس العلم خشية الله تعالى"[10].

وأهل الخشية هم الذين يصدرون عما أداه إليه اجتهادهم لا ما قادته إليه أهواؤهم، العاملون الباذلون لعلومهم لا القاعدون الكاتمون ما أنزل الله من الهدى والكتاب، (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *  أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة: 174-175]، وأمثال هؤلاء قد خسروا الدنيا كما خسروا الآخرة، فهم في ذل دائم للعبيد من أجل قضاء مآربهم، وبلوغ حاجاتهم، فكانت عاقبتهم أن عاملهم الله بنقيض مقصودهم، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم وشحوا على دينهم وأعزوا العلم وصانوه وأنزلوه حيث أنزله الله تعالى لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقادت لهم الناس وكانوا لهم تبعاً وعز الإسلام وأهله, ولكنهم أذلوا أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهم وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك ما في أيديهم, فذلوا وهانوا على الناس"[11]. وهذا المعنى أخذه الفقيه الشافعي القاضي أبو الحسن الجرجاني في قصيدته الفائقة الذائعة:

يقولون لي فيك انقباض وإنـما    رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما

قال:

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم    ولو عظمـوه في النـفوس لعَظَّما

ولكن أهانوه فـهان ودنسـوا    محياه  بالأطمـاع  حتى تـجهما

قال ابن الحاج: "وإنما عز الفقيه بفهم المسائل وشرحها ومعرفتها، ومعرفة السنن والعمل عليها وتعظيمها وترفيعها وتعليم ما حصل من بركتها وخيرها، ومعرفة البدع وتجنبها وتبيين شؤمها ومقتها وظلامها وما يحصل من المقت لفاعلها أو المستهين للقليل منها وتبيين ما يحصل لفاعل هذا كله من الخير والبركة, ومن التواضع لله تعالى والمعرفة به وخشيته ومعرفة أحكامه والعمل بها قال الله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فجعل عز وجل خلعة العلماء الخشية، وجعل بعض هؤلاء خلعة العالم توسيع الثياب والأكمام وكبرها وحسنها وصقالتها"[12]اهـ، وتأمل حال بعض منتسبي العلم اليوم، هل ترى غير العباية أو العمامة أو الجبة والقفطان! فلا عجب إذاً أن صارت حال كثير منهم في كثير من أصقاع الأرض على ما ترى، تشعبت بهم السبل وفرقتهم الأهواء ففشلوا وذهبت ريحهم إلاّ قليلاً.

والمقصود هو أن تكريم بني آدم كان بالعلم، واستخلافهم كان للعمل بمقتضاه، والدعوة إليه، ومن لازم ذلك الثبات عليه والصبر على الأذى فيه.

خطر فقدان الأمة للمرجعية الشرعية:

وما مضى يبين أن المسؤولية على أهل العلم عظيمة وواجبهم تجاه الأمة كبير ولاسيما في هذه الأزمان التي قبض فيها كثير من العلم بموت أهله، وتصدر فيها رؤوس جهال ضلوا وأضلوا، وهؤلاء واجب على أولي الأمر من العلماء والأمراء التصدي لهم، قال الإمام ابن القيم: "من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً، قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس، بل هو أسوأ حالا من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين!

وكان شيخنا رضي الله عنه، شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء، أجُعلت محتسباً على الفتوى! فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب!"[13].

إننا لا ندعو إلى إضفاء هالة من الإلهية على أحد من البشر، (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ  يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 79-80].

بل لا ندعي العصمة من الخطأ لأحد من بني آدم فكلهم خطاء، ولعله ليس في أهل الإسلام من يدعي العصمة لأفراد العلماء، حتى الشيعة الإثني عشرية إنما يقولون بعصمة الأئمة ولا إمام لهم مذ غاب منتظرهم في السرداب، وقد يتوجه لديهم قول بعصمة الفقيه صاحب الولاية خاصة على قول من يرى ولاية الفقيه منهم.

وقد أبى الله العصمة إلاّ لكتابه –كما قال الشافعي- لكن لايعني ذلك أن يفتح المجال لكل جاهل ودعي حتى يجادل الربانيين الذين يعلمون الكتاب ويدرسونه، ولو قام في دنيا الناس اليوم صحفي يهدم أركان نظرية فيثاغورث في حساب المثلثات، أو ينتقد آينشتاين في النظرية النسبية، أو يقترح علاجاً لمرض عضال خلاف ما قالت الأطباء، أو يحذر مما نصح به المختصون أفلا ينبغي أن يضرب بيد من حديد على يده المفسدة؟ فكيف يسوغ إذاً أن يقبل تنظير جاهل ورده على المختصين من أهل الشريعة، أليس إفساد أديان الناس أشد خطراً من إفساد دنياهم؟

بلى وربي. دخل مالك –إمام المسلمين- على ربيعة فوجده يبكي فقال: ما يبكيك وارتاع لبكائه. فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ قال: لا ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم! قال ربيعة: وبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السُرَّاق.

إي والله: ظهر في الإسلام أمر عظيم، قال ابن الصلاح [ت: 643] في أدب المفتي بعد أن نقل هذا الخبر: "رحم الله ربيعة كيف لو أدرك زماننا؟"[14]، وأقول: رحمهم الله كيف لو رأوا صحافتنا وكم المتعالمين الوالغين في الدين.

لقد اجتهد ونظر في الدين طلاب علم مبتدئون فقاد بعضَهم التنظيرُ إلى تفجير في بلاد إسلامية وتكفير للمسلمين، فكان جزاؤهم أن ضربوا على أيديهم بيد من حديد، وكذلك ينبغي أن يضرب هؤلاء المبتدئون الذين شَطُّوا جهة اليسار كما ضرب من شط جهة اليمين فجميعهم مفسدون وإن قالوا: (إنما نحن مصلحون)! أولئك يبعثون أفكاراً خارجية فيقتلون ويدمرون، وهؤلاء يبعثون أفكاراً غربية فيروجون للإفساد بل يفسدون ويحاربون أحكام الله وشريعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى:  (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

وعوداً على ما سلف لقد علمت الدولُ والمجتمعات أهمية وجود مرجعية تعنى بنتاج التخصصات المختلفة، فلا دواء ينـزل الأسواق ما لم يجز من وزارة الصحة، ولابناء ينشأ ما لم تجز خرطه هيئة معمارية مختصة، فكيف يؤذن إذاً لشرذمة من الجهلة بالكتابة في أمور الدين، بل وفي الرد على من يفترض أن يكونوا نظاراً شرعيين حاكمين على أمثالهم من المتغولين على الشريعة.

نعم نحن لانقول بعصمة أحد لا وزارة الصحة ولا الشؤون الهندسية ولا الإسلامية ولا الأعلام والشخصيات العلمية الشرعية، ولكن ليس من يقرر خطأ أولئك هم الجهلة أو غير المختصين في العلوم المعنية، فلو اعترض طبيب متخصص على قرار لوزارة الصحة، أو مهندس استشاري على هيئة هندسية، لكان اعتراضه جديراً بالدراسة والنظر، طالما كانت حيثياته مقبولة عند أهل العلم المقصود، أما أن يجيء صحفي عامي ليس له مؤهل إلاّ القدرة على القراءة والكتابة فيعترض على دواء منعته الوزارة ويدعو الناس لتعاطيه فهذا ما لاينبغي أن يقبل بحال، بل يجب الأخذ على يد مثل هذا المروج حتى لا يجني على نفسه أولاً ومجتمعه ثانياً، ومثل هؤلاء المستطيلون على رأي ونظر العلماء من العامة والدهماء.

ومن نظر اليوم في واقع كثير من بلاد الإسلام لمس أثر غياب أهل العلم –أو تغييبهم- وتصدر الجهال أو تصديرهم، ولتدارك آثار ذلك فلابد من تفعيل دور العلماء وإظهار نجوم السماء لتستدل بهم الأمة في سيرها.

ولابد كذلك من أن يعي قادة السفينة مكان أولئك، فيتوجهون بتوجيههم ويلتزمون إشاراتهم، حتى يصل الناس إلى بر السلامة وشاطئ الأمان.

وهذا يتطلب من أهل العلم مبادرة وبذلاً وعملاً، وكذلك من العقلاء الراغبين في النجاة الحادبين على الأمم والمجتمعات المدركين لمحل أهل العلم من سائر الناس.

تفعيل دور العلماء في المواجهة الحضرية ولاسيما عند انكسار الأمة وضعفها:

إن الذي يتأمل عصور الإسلام وما نزل فيها من محن عظام يلحظ تدارك الله تعالى لها بمجددين مصلحين حادبين على الأمة يبادرون فيرجعون الأمة إلى مصدر عزها كتاب ربها سنة نبيها صلى الله عليه وسلم فما تلبث أن تظهر على الأمم، ولعل من أبز سمات الفئة التي تدير عجلة التجديد والإصلاح هي العلم والعمل بشقيهما؛ المتعلق بالشرع، والمتعلق بالواقع.

وتأمل حال شيخ الإسلام ابن تيمية تلمس أثره ظاهراً في التأصيل للمسائل العلمية والعملية، الدقيقة والجلية، وكذلك في تبني مشروعات عملية؛ منها التعبدي الخاص به، ومنها ما يتعلق بإنزال التأصيل العلمي الذي يقرره إلى أرض الواقع، فتراه مثلاً يقرر مسائل الاعتقاد ثم يدعو إليها ويناظر عليها، وتراه كذلك يؤصل للسياسة الشرعية، ثم لا يألُ جهداً في مناصحة الأمراء والولاة والقضاة، وأكثر من ذلك تراه يتولى زمام الدعوة إلى شن الحروب على العدو المتغلب، وينخرط في برامج تدريبية تؤهل الناس إلى ذلك، ثم يحرض الناس على اختلاف طباقتهم للمشاركة في وقعة شقحب، ثم يوجه الدولة نحو خطر أهل النفاق المظاهرين للعدو من رافضة جبل كسروان، مع جهوده وطلابه في إنكار المنكرات، وفي أثناء ذلك كله يبين قراءته للأحداث ويطرح رؤيته لتوقع سيرها، وقد كانت عنده من الوضوح بمكان يجعله يقسم على بعضها، على رغم اضطراب الأوضاع في عصره بما يشبه حال الناس اليوم فما أشبه  عصره بعصورنا في كثير من القضايا كشيوع الجهل، وانتشار المنكرات العقدية والعملية والأخلاقية، وضعف الأمة وانكسار شوكتها، وتغلب العدو المغولي المحتل عليها، وتنازع الملك بما يشبه الانقلابات العسكرية المعاصرة، وتغير الأمراء على الأقاليم.

فحري بأهل العلم في هذه الأزمنة التي انكسرت فيها شوكة أهل الحق، حتى أضحى الإسلام الحق المعروف في كثير من أصقاع المعمورة غريباً منكراً، أن يسلكوا سبيل المصلحين فيتولوا زمام المبادرة وينظروا في واقع الأمة، ويدعو الناس إلى سبيل الإصلاح الشرعي بدءاً بالكلمة والتوجيه العام، وانتهاء بوضع أهداف وسياسات ومحددات للمشاريع المختلفة والمؤسسات المتباينة التي تحتاجها الأمة لتنهض، وكذلك النظر فيما وضع منها وقام من أجل تقويمها وفقاً لمنهج مرضي لاشرقي ولا غربي.

وإلاّ فإن تأخر أهل العلم عن الركب وانفصالهم عن قضايا الأمة وانتظارهم من يوجههم أو يصنع لهم المشاريع ويبين لهم ما يفعلون يعني تأخر الأمة وتقهقرها، فإذا تأخر الجديرون بالمهمة وخملوا، فقد يقوم بها من ليس أهلاً لها، وإذا وسد الأمر إلى غير أهله تخبط الناس وضلوا.

ولعل مثل شيخ الإسلام في الزمان عزيز فهو ظاهرة علمية خارقة بحق، ومع ذلك فقد كان له إخوة من العلماء والعباد، وطلاب ومحبون من العامة والأمراء، بتعاضده معهم بعد توفيق الله تعالى أفلح في تحقيق مشاريع كثيرة بعضها متعلق بالدعوة وإظهار الحق، وبعضها متعلق بالجهاد، و أخرى متعلقة بإنكار المنكرات، وكثير منها لم يكن ليتأتى له –على الرغم من القدرات العلمية التي حباه الله- لو سلك نهج العمل الفردي، ولو تأملت حال مجددي الأمة على مر العصور تلمس طابع التفاعل مع المجتمع والتفعيل لقواه المختلفة أمراً مطرداً، وهذا أمر طبعي فكيف يتأتى لأمة خاملة منهكة أن تنهض دون أن تستجمع قواها، ولو كان أحد يستغني عن الآخرين في نشر الإسلام ونصره إذاً لاستغنى الأنبياء عليهم السلام، ولكن هذا لم يكن ومن تأمل سيرة أكثر الأنبياء تبعاً صلى الله عليه وسلم وجد ذلك جلياً.

ولذا فإن عقيدة الرجل الخارق البطل، أو المهدي المنتظر، أو المخلص القادم، أو المنقذ المرتقب، والتي يعتقدها بعضهم في بعض البشر، فيظل خاملاً ينتظر أن يبعث الله ذلك الذي يغير بمفرده وجه البسيطة بكل بساطة، عقيدة خيالية ساذجة فاسدة تخالف سنة الله في نهوض الأمم وتجديد الملل، وحسبك أن تتأمل معناة الأنبياء وأتباعهم مع أممهم.

وإذا تأملت نهوض الأمم في الغابر والحاضر تلحظ بجلاء الطابع الجماعي فحتى تنهض الأمة لابد أن تنهض بمجموعها، ولذا فإن نهضة الأمة الإسلامية مناطة بمجموع الأمة، وهذه قضية لابد أن نعيها ولاسيما في ظل تشعبات وتخصصات الواقع المعاصر، وإذا تبين هذا علم أن أمر الإصلاح أكبر من أن يحصر في عرش أوكرسي بل وخلافة، فضلاً عن رجل، فغاية الخلافة –على مكانتها- أن تكون وسيلة لاستنهاض الأمة من أجل إقامة الواجبات المناطة بدولة الإسلام، فإذا لم تكن المجتمعات مؤهلة لم يتأت لدولة الخلافة تسخيرها للقيام بواجباتها، فإن لم تتوجه نحو استصلاح الأمة وتأهيلها من أجل القيام بما أوجبه الله عليها، فسوف يكون مآلها التبعية أو الانهيار كما انهارت خلافات ودول وممالك، وإن كان بعض ولاتها أخياراً أبراراً.

إن واقع الأمة يتطلب تفعيلاً لها من قبل المبصرين لما يجب أن تكون عليه وفقاً لمنهج الله الذي ارتضى لعباده، وهذا يحتم على أهل العلم والفضل التقاء واتفاقاً على مشاريع مختلفة باختلاف المتفقين عليها وباختلاف أولويات واقعهم، فضلاً عن نبذ التناحر والتنافر الذي لا يخفى أثره، وينبغي أن نراعي في هذا الحشد من التيارات المتباينة والأطياف الإسلامية المتشابهة أموراً منها:

-        مهما أمكن الاجتماع على كلمة حق سواء فذلك مقصد ينبغي أن نسعى إليه كما ينبغي أن نجتهد في نبذ الفرقة والاختلاف، فإن من جملة أسباب ما تعيشه الأمة تفرق الناس شيعاً وأحزاباً متناقضة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها، وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها"[15]، وإذا كنا نعتقد أن اختلاف حكام الإسلام وتشرذمهم قد أضعف الأمة، وأغرى أعداءها بها، فكلمة شيخ الإسلام هذه تذكرنا بأن اختلاف المشايخ والعلماء مصيبة لا تقل عن تلك.

-        قد لا يتأتى الاتفاق على الفروع وبعض الأصول ومع ذلك فقد يتأتى الاجتماع على مشاريع مشتركة، وهذا الاتفاق على مشروع لا يعني إقرار المتفقين بعضهم بعضاً على التصورات والآراء غير التي يتبناها المجتمعون في مشروعهم. فلا ينبغي أن يحسب هذا على هذا أو يخلط بينهما على سبيل الإطلاق، ولاسيما إذا اقتضى الاجتماع في مشروع ما واقع معين كفتنة داهمة، أو نازلة عامة. ومن نظر إلى الشريعة السمحة وجد كثيراً من الواجبات مناطة بمجموع الأمة، تتطلب اجتماعاً ولو مع مخالف في أصل من الأصول، فالجمعة والجماعة مثلاً مأمور بها ولو مع مخالفين، بل قد تكون واجبة ولو خلف إمام مبتدع في بعض الأحوال، وكذلك الجهاد وكثير من التشريعات ذات الطابع الجماعي، فلا غرو إذاً إذا تعين واجب على مجموع الأمة، أو تكفل اجتماع بواجب كفائي أو عيني حالٍ على الأمة؛ من أن تلزم المشاركة فيه رغم الخلاف مع بعض المشتركين في أصول أو فروع أخرى.

-        مما سبق يعلم أن الاجتماع على مشاريع مع مخالفين في بعض الأصول أو الفروع قد يتأتى، بيد أن النصح للمسلم من حقوقه فلا ينبغي أن يغفل، ولاسيما المخالط القريب، ويتأكد ذلك عندما يكون الاختلاف معه على أصل ربما لم يكن المشروع المتفق عليه بأولى من دعوته إلى ذلك الأصل المختلف فيه. بل قد يكون من الغش لأنفسنا ولأخوتنا وللأمة اجتماعنا لعلاج داء يسير مع من يحملون داءاً عضالاً قتالاً كان البدء به أحرى.

-        ومما ينبغي أن يراعى كذلك النظر في أهداف المشروع المنشودة ومحلها من حيز الإمكان، فإن بعض المشاريع غير ممكنة ومع ذلك يوجد من يروج لها إما لبرامج عملية (أجندة) خفية أو لضعف في النظر وقصور في الرؤية، ولذا فلابد من النظر في مدى واقعية الأهداف في نفسها، وكذلك في الأدوات والوسائل التي يراد أن يتوصل بها إليها، وتشمل هذه المجتمعين أنفسهم، فقد لا أكون مناسباً للقيام بعمل ما يحسنه غيري، وكذلك العكس، بل قد يكون الاجتماع على بعض المشاريع مع بعض الناس من قبيل العبث وتضيع الجهود والأوقات، بل قد يفضي إلى نقيض الهدف المنشود، وعلى سبيل المثال لا يتوقع أن تكون ثمرة مشروع مشترك يهدف إلى إدخال إصلاحات على المقررات الشرعية مع علمانيين تحرريين (ليبراليين)، لايتوقع أن تكون ثمرته مفيدة، بل لن يزيد ذلك الناسَ من هدف الإصلاح المقصود إلاّ بعداً فإن طلب المقصود من غير طريقه يُبَعِّد من طريق المقصود، وقد لا تشفع النية الحسنة مجردة، وهذا المعنى أشير إليه في مواضع من القرآن، قال الله تعالى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)، وقال: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)، وقال: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)، فعاد الأمر على جميعهم بعداً عن مقصودهم إذ لم يسلكوا سبيله.

الدور السياسي المطلوب للعلماء:

ولعل إغفال ما سبق من واجب التعاضد أو العمل المشترك أو معرفة سبله والتهيؤ له أو الدخول في مشاريع مشتركة غير مجدية، كان له أثره على دور أهل العلم والفضل في كثير من جوانب الحياة ولا سيما تلك التي سعت أيدي التغريب في كثير من بلاد الله لإقصائهم عنها، ومن تلك الجوانب الجوانب السياسية مع عظيم أثرها على الجوانب الاجتماعية عموماً، فإن النظام السياسي وإن كان جزءاً من النظام الاجتماعي، إلاّ أنه يظل من أكثر الأجزاء تأثيراً في المجتمع، ولهذا كان أثر علماء الإسلام في عصور عز الدولة الإسلامية ظاهراً في النظم السياسية إذ ذاك، فقد كان أهل الحل والعقد وأصحاب الشورى والرأي هم العلماء المرضيون الذين تصدر الأمة عن رأيهم، ولهذا تجد طابع السياسة الداخلي والخارجي للدولة مرتبطاً بقرارات السياسة الشرعية في التعاملات والعلاقات والمعاهدات، بل كانت الحروب تشن بمشورة العلماء ودعمهم، فضلاً عن النظم والتشريعات الداخلية فقد كان القول فيها قولهم، وفقاً لما يقرره فقهاء الشريعة، ويتولى تنفيذه قضاة المذاهب المختلفة. وقد كان هذا هو الحال في بعض بلاد الله إلى عهد قريب ومنها مصر فقد كان شيخ الأزهر يمثل منصب العضو الشرعي في الوزارة المصرية فلا يصدر حكم قبل مصادقته عليه، وقد استمر هذا إلى أن جاء الحكم البريطاني فألغى ذلك عام 1882م، بل أكثر من ذلك حتى المذاهب الاعتقادية التي يقررها العلماء كان الساسة يلتزمونها ويتبنون نشرها فتنتشر بانتشار الدولة وتتوسع بتوسعها، وذلك إلى أيام الخلافة العثمانية والتي كان لها أثرها في نشر المذهب الماتوريدي وتثبيته في بعض أرجاء العالم الإسلامي.

وقد كان منصب (شيخ الإسلام) في الدولة العثمانية أعظم مناصب الدولة، فهو مرجع الصدر الأعظم وعامة الوزراء، لاتجاز القوانين إلاّ بإجازته، ولاتنفذ القضايا الجنائية الكبرى إلاّ بعد مراجعته، بل لم يكن من حق السلطان أن يقدم على دخول حرب دون أن يستصدر فتوى من شيخ الإسلام، وقد بلغ من شأن شيخ الإسلام تخويله النظر في عزل السلطان، فله عزله إذا بدا منه انحراف عن تطبيق أحكام الشريعة، أو نزل به ما يقعده عن أداء أعباء الخلافة كمرض لا يرجى برؤه. ويذكر أن من السلاطين العثمانيين الذين صدرت فتاوى من شيخ الإسلام بعزلهم: إبراهيم خان الأول، وسليم الثالث، وعبد العزيز خان، ومراد الخامس، فتأمل.

ولاشك أن استعادة ما دون هذا الوضع كفيل بحل كثير من إشكالات الأمة.

أما واقع الناس فللناس في إنزال مشاريعهم السياسية إلى أرض الواقع مذاهب في العصر الحديث ولعله بالسبر يمكننا أن نقسم أبرز الاتجاهات المسلوكة في التغيير السياسي إلى ثلاثة اتجاهات عريضة:  الاتجاه التحريري، والقسري التغييري، وأخيراً الاتجاه الإصلاحي.

أما الاتجاه التحريري فيأخذ في الغالب الطابع الثوري على المحتل الخارجي سواء كان جهاداً شرعياً إسلامياً، أو مقاومة قومية أو ذات صبغة أخرى مناهضة للعدو المتغلب. وهذا المسلك مقبول إجمالاً بين الأمم لايستنكر فإن للشعوب حقها الظاهر في مقاومة المحتل. وقد كانت لأهل العلم جهودهم في هذا الاتجاه قديماً وحديثاً، وتأمل حال شيخ الإسلام والعز ابن السلام من قبله وجهودهما في صد التتار المنتسبين إلى الإسلام، وكذلك المنذر بن سعيد البلوطي وإخوانه من علماء الأندلس في حرب الصليبيين، ولما أخذت الفرنجة بيت المقدس قام العلماء بالتحريض على الجهاد فكان ممن خرج إلى الأمصار ابن عقيل رحمه الله وغير واحد من أعيان الفقهاء، وفي العصر الحديث لمعت أسماء في سماء ميادين الجهاد من أبرزها الإمام محمد بن سعود والإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله- في أرض الجزيرة، ومن بعده علماء الدعوة في الديار النجدية، وفي أفريقيا ظهر اسم عبدالحميد بن باديس بالجزائر مؤسس جمعية علماء المسلمين التي كان لها أثرها في الوقوف في وجه المستعمر الفرنسي، والشيخ عز الدين القسام في الأرض المباركة، وغيرهم من منتسبي العلم في السودان ونيجريا وأقصى أفريقيا، فاستحق صنيع أولئك أن يخلد ذكرهم، وقد قيل:

إن الزعامة والطريق مخوفة        غير الزعامة والطريق أمان

وأما اتجاه التغيير القسري فقد يكون بواسطة الانقلابات وهذا تتبناه بعض القوى على الأنظمة المستبدة الحاكمة من أبناء شعبها، وقد يقود هذا لفرض أنواع شتى من النظم، المتباينة تبايناً عريضاً، وقد كان هذا النمط من التغيير السياسي جالباً للديمقراطية الفرنسية إثر ثورتها المشهورة في الغرب مثلاً، وللشيوعية الماركسية في الشرق مثلاً، وربما جاء بحكومات إسلامية.

وقد يكون كذلك عن طريق إعانة عدو خارجي موالي والحرب معه أو عنه بالوكالة من أجل تغيير النظم القائمة، ولعل من أقرب الأمثلة في ذلك ما حصل في العراق وأفغانستان.

وهذا المسلك في التغيير داخل الدول الإسلامية مرفوض في الجملة، فقد استقر قول أهل السنة على منع الخروج على الحاكم المسلم بالقوة إن لم يمكن خلعه بواسطة أهل الحل والعقد نظراً لما يترتب عليه من مفاسد تغلب على مصالحه في الغالب بشهادة الواقع والتاريخ، والعجيب أن ما يسمى بالشرعية الدولية ترفض هذا المسلك كمسلك للتغيير، إلاّ أن الولايات المتحدة –وغيرها- تطبقه بأبشع صوره، كما يرى الناس في الواقع اليوم وسط إغضاء عالمي بل تواطؤ في كثير من الأحيان.

 

وكما أن النظام العالمي لايرفض المتحكم بالقوة بل قد يرى الانقلاب العسكري شأن داخلي وذلك إذا أصلح المتغلب شأنه مع شعبه ولو في الظاهر والتزم ما يرونه من قوانين، فإن من يقول بأن هذا المسلك مرفوض في الإسلام مالم يبدر من الحاكم كفر ظاهر عند الناس فيه من الله دليل واضح؛ لا يرفض نتيجة هذا التغيير إن استقر الأمر به لحاكم مسلم مصلح، بل يرون الطاعة للمتغلب ويعدون نظامه نظاماً شرعياً، فهم إنما رفضوا المسلك لمفاسده الظاهرة، فإن ارتفعت تلك المفاسد وجيء بالأصلح انتفى سبب المنع.

ويبقى النهج الإصلاحي من أوسع أبواب التغيير السياسي المتاحة إلاّ أن للناس فيه كذلك اتجاهات متباينة دخل كثير منها دخن.

وإجمالاً فإن الحركات والجماعات والمؤسسات والأفراد منهم من يتبنى العمل الحزبي السياسي، والحزب السياسي يهدف للتغيير السياسي عن طريق تشكيل كيان منظم يسعى للوصول إلى السلطة إما عن طريق وضع ممثليها في موضع الحكم، أو الهيئات التشريعية، أو المناصب الانتخابية المؤثرة.

ومنهم من يعمد للتغيير عن طريق جماعات الضغط، واتجاه جماعات الضغط أو ما يسمى بالمصلحة يرمي إلى التأثير على السلطة دون المشاركة فيها أو حيازتها.

ولعل من أبرز اتجاهات الإصلاح المعاصرة –وهو مسلك قديم عند المسلمين- اتجاه يرمي إلى تحقيق الإصلاحات السياسية –وغير السياسية- من خلال العمل الشعبي المتوجه إلى المجتمع أو الجمهور، كعمل مؤسسات المجتمع المدني المستقلة، ولا يعني ذلك بالضرورة إقصاء الحكومة أو أجهزتها المعنية بالإصلاح –والتي قد تكون مجمدة أو غير مفعلة كما ينبغي- من برنامج الإصلاح ولكنها لا تتجاوز كونها بعض الجمهور، ويعتمد أصحاب هذا المسلك على المؤسسات المختلفة التربوية والاحتسابية والدعوية المباشرة أو التي تزرع رؤيتها في المجتمعات وإن أخذت الطابع الخدمي أو التجاري المدعوم في الغالب. ومن يسلك هذا السبيل قد لا يعتني بالعمل النخبوي الذي يخدم أهدافاً حزبية سياسية ويؤهل أفراداً لمراكز قيادية في مراكز الدولة المؤثرة.

وربما لم ير بعضهم تعارضاً بين العمل الشعبي الجماهيري والعمل النخبوي الصفوي.

وبالجملة قد تسلك فئات ما أكثر من مسلك في التغيير السياسي، ولا يتأتى إجمال حكم على أصحاب هذه المسالك لاختلاف الواقع بل ينبغي أن ينظر في كل قضية بمفردها.

ولعل العرض السابق قد أشعر بأثر تنوع الظروف المتعلقة بالبيئة والمجتمع الذي يزمع فيه شأن الإصلاح، أو المتعلقة بالمصلحين أنفسهم، وبعبارة أعم أشعر بأثر اختلاف الواقع المكون من خصوصية البيئة وخصوصية المصلح.

فإذا علم أن كل أهل بلد لهم وضعهم الخاص بهم، ولهم ظروفهم المحيطة بهم، فلا مناص من أن تتباين الأولويات وتتنوع الوسائل باختلاف البلدان، وهذا الاختلاف من جملة اختلاف التنوع الذي لاينبغي أن يخرج بالمختلفين إلى حيز النقد السلبي أو التغليط ومن باب أولى التعارض أو التعارك، فالاستجابة لأمر الله في كل واقع تكون بحسب ذلك الواقع، وربما كانت الاستجابة الواجبة في مكان ما محرمة ممنوعة في مكان آخر لاختلاف الظروف واختلال الشروط، كمن يسلك المسلك الثوري أو الجهادي للتغير في بلد يحكم فيه بشرع الله تعالى، فبينما هو جهاد مشروع في واقع معين إذا به بغي وافتئات على أولي الأمر في محل آخر.

وكذلك اختلاف التكوين النفسي أو العلمي أو الخلقي وما حباه الله للقائمين على العمل من قدرات قد يحتم مناسبة طريق دون غيره في حقهم، وإن كانت البيئة واحدة والمجتمع واحداً. والمرجع في ذلك العلم بالشريعة، وفقه الواقع بمكوناته المختلفة والتي منها شخص المصلح نفسه.

ومن مجمل العرض الآنف يجد أهل العلم أمامهم مسالك مختلفة للتغيير السياسي ربما كان لكثير منهم دوراً فيها، ويبقى التعويل في زيادة فاعلية أثرهم السياسي على ما مضت الإشارة إليه من اتفاق أصحاب المسالك المختلفة على مشاريع مشتركة تتضافر عليها جموعهم.

فعلى سبيل المثال قد تجد بعض حركات المقاومة أو الجهاد الإسلامي لها أثر ملموس في انهاك المحتل، ولكن كثيراً منها ربما افتقر إلى رؤية سياسية واضحة، أو برنامج سياسي مصاحب لعمل المقاومة، وهذا الخلل قد يستغله غيرهم فيقطف ثمرتهم، كما قطف الشيوعيون ثمار الثورة على القيصرية في روسيا. ولعل مما يكفل نوعاً من الأمان لحركات المقاومة وجود رؤية سياسية واضحة لها، أو على الأقل وجود تعاون مشترك واتفاق على مشاريع سياسية مع القوى التي ارتضت مسالك أخرى في التغيير. وإلاّ فإنه لن تقوم دولة على وزارة دفاع فقط مالم تتكامل أجهزتها الوزارية الأخرى.

ومما يحسن التنبيه إليه أنه في بعض الأحوال نظراً لملابسات واقع ما، ليس بالضرورة أن يكون دور العلماء أكثر من التوجيه والإرشاد والتقويم وفقاً لأحكام الشريعة وقواعدها مع السعي إلى جمع الكلمة مهما أمكن من أجل تكامل الجهود. بيد أنه لابد لجمهورهم من مباشرة العمل وإلاّ سيكون ثمَّ نوع قصور في التصور فضلاً عن الإصلاح وقد قيل:

لا يعرف الشوقَ إلاّ من يكابدُه   ولا الصـبابَةَ إلاّ من يُعانِيـها

أدوار مهمة أخرى:

ويظل المطلوب من أولي الأمر من العلماء كثيراً، والمهمة الملقاة على عاتقهم عظيمة، سواء تجاه جماهير ما يعرف بالصحوة أو دعاتها ورجالاتها، فقد يرغب كثير من الناس في عمل الخير والبذل، لكن تشتبه عليهم السبل، فيخطئون الصواب، أو يقدمون ما من شأنه التأخير، إما جهلاً منهم بمقاصد الشريعة وغايتها الكبرى، أو أحكامها، أو لرأي قاصر وفقاً لما يسر لهم من وسائل الملاحظة والإدراك، فتتكرر الجهود وتتبعثر الاجتهادات، وربما سلكت بعضها مسالك آثمة جهلاً، فيأتي توجيه أهل العلم وأصحاب النظر مقوماً لما اعوج منها، ململماً ما تبعثر منها، موجهاً إلى حيث تعظم الحاجة. كما كان شأن أهل العلم والنظر قديماً.

ومع أن المطلوب من الشباب والدعاة عدم إغفال رأي أهل العلم، والحرص على استنباط الصواب بمشورتهم، إما عن طريق ضم نخبة منهم في مجالس استشارية، وإن تعذر فلا مناص لهم من وصولهم. مع ذلك فإن الواقع يقتضي كذلك نزول جماعات من أهل العلم إلى حيز العمل الدعوي فيتبنون المشاريع التي توجه الشباب، وترشد سير الدعوة.

ويتأكد هذا عند حلول النوازل التي أمر الله تعالى بالرد إلى أهل العلم فيها، كما قال سبحانه: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)، فالأمة أحوج ما تكون عند النازلة إلى أهل العلم الراسخين والعلماء الربانيين، ولعل مما يتوجب على أهل العلم أن يكون دورهم حال النوازل أكثر من مجرد إصدار بيان –مهما وسعهم ذلك- على أهمية البيان للأمة.

ومما يسعهم غير بيان الحكم الشرعي والواجب تجاهه:

-     اقتراح المشاريع والبرامج العملية التي يرونها كفيلة بمعالجة النازلة أو احتواء آثارها.

-    المشاركة في تلك البرامج والمشاريع ولاسيما إذا وجهت لهم الدعوات بالمشاركة.

-        مراقبة خط سير الأمة على المنهج الأقوم، حتى لاتدفع النوازل الطارئة إلى خروج عن الصراط المستقيم بردود فعل غير محسوبة، تدفع إليها الحماسة المجردة والعاطفة غير المنضبطة بعقال العقل الشرعي.

-    الاستعداد لكل منافق قد يطل بقرنه أثناء النازلة، فكثير من المرجفين والمنافقين يغتنمون النوازل فيروجون لفكر منحرف يحاولون استبدال منهج الله به، فإن كان المصلحون لهم بالمرصاد أمكنهم الاستفادة من إفرازات أهل النفاق الضارة ومخالفاتهم في تأجيج الحق وإظهاره.

-    رؤية ما تنطوي عليه النوازل من خير، ثم تبصير الناس به، والعمل على الاستفادة منه حتى لا يدب في نفوس الناس اليأس أو يستحكم القنوط.

-   وأخيراً تثبيت الأمة وتصبيرها حتى لاتنقلب على عقبها أو تجزع مما ألم بها.

وقد مضى ذكر بعض ما يفعل به دور أهل العلم فلا حاجة إلى إعادته، وأهمية الحرص على وسائل تفعيل أهل العلم حال النوازل ظاهرة، ولعل من ذلك تفعيل المؤسسات ذات الطابع العلمي والدعوي الرسمية في الدول دون حصر المسؤولية فيها فقد أناطها الله بعموم العلماء.

استقلال العلماء:

من شرط كل عمل ليكون صالحاً الإخلاص والمتابعة وإلاّ فهو مردود منزوع البركة.

والإخلاص كما يقتضي أن لا يتفوه العبد بحكم شرعي يبتغي به وجه غير الله تعالى، يقتضي منه أيضاً أن يتحدث في الأنفع والأجدى الذي يحب الله الدعوة إليه.

وقد يحقق بعضهم الإخلاص ولكن يحول دونه ودون وجه الصواب كلياً أو جزئياً حائل فيقصر العالم نفسه بسببه في عمل محدود لا يتوافق مع ما حباه الله له، وربما باشر عملاً باجتهاد يظنه مشروعاً أو مندوباً وليس الأمر كذلك، ويكون حينها قد أُتي المُخلص من جهة تحقيق المتابعة.

ولذا فإن من حقق الإخلاص والمتابعة حقق الاستقلال الذي نريد ونعني.

فالاستقلال الذي ندعو إليه ليس محصوراً في الاستقلال عن مؤسسات الدول الرسمية، بل لعل هذا ليس استقلالاً مراداً على إطلاقه ولو كانت الدولة كافرة فكيف إذا كانت مسلمة، بل الاستقلال الذي نعني استقلال عن كافة الأهواء البشرية والتجرد لرب البرية سبحانه وتعالى، والقيام له بالقسط ولو على حساب النفس وحظوظها أو الوالدين أو الأقربين.

ولئن كان بعض محسوبي العلم تبعاً لأهواء الدولة والسلاطين، فإن بعضهم تبع لأهواء العامة والجماهير، ومع ذلك ربما تحذلق أحد أذناب الجماهير بذم أحد أذناب السلاطين!

والمطلوب أن لاتكون الرؤوس أذناباً لا للجماهير ولا للسلاطين.

ولاشك أن واقع بعض الدول الإسلامية هو الذي أضطر بعض الدعاة للدعوة إلى الاستقلال والانفصال التام عن الدولة، وقد يكون لهذا وجهه على نطاق ضيق لظروف تتعلق بمكونات الواقع المختلفة ابتداء من نفس العالم وانتهاء بالبيئة، وإلاّ فالأصل أن من واجبات الدولة المسلمة ومهامها ما يفتقر إلى وجود العلماء، فلا يجب أن تخلى تلك الأعباء، وليس من الحكمة الدعوة إلى انزواء كافة العلماء عنها، بل الواجب أن لايترك المجال لعلماء السوء فيسدوا ذلك المسد وفقاً لأهوائهم فيفسدوا.

ثم إن تحقيق الاستقلال يكون بتقدم العالم الرباني والكفء الذي يلتزم منهج الله ولا يميل مع الهوى حيث مال، فلزم أن يدعى إلى تحقيق ذلك من جهة، ومن جهة أخرى إلى استقلال الأجهزة الشرعية، ورفع يد الساسة عنها، فإن المؤسسات الدينية الرسمية في كثير من بلاد الله فقدت مصداقيتها عند العامة يوم غدت أداة لتأييد خطوات الساسة، ولساناً للثناء على مواقفهم.

وقد يرى بعض الحادبين على العمل الإسلامي أن هذه الدعوة ما هي إلاّ صيحة في واد أو نفخة في رماد، لأن واقع بعض الحكام يأبى ترك تسييس الفتاوى والتدخل فيها، ولن يأذن في تنصيب أهل الشأن الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاّ الله.

والحق أن هذه الرؤية قد يكون لها وجه بيد أن نفس الإشكال يتوجه تجاه المؤسسات الشعبية والمستقلة التي ينادون بها، ولا ينبغي أن يتصور منع حاكم استصلاح مؤسسة رسمية قائمة، ثم إذنه في إنشاء مؤسسات مستقلة مؤثرة تنازع تلك المؤسسات الرسمية ما خُوِّلته أو ما لايُرضى، فإن قيل ليس هذا بالمستحيل يقال فكذلك الاستصلاح القائمة في الجملة.

وإن قيل قيام المؤسسات الشعبية واستقلال العلماء مطلب لابد منه فلا بد من المدافعة والاجتهاد في تحصيله قيل هذا حق، ويتوجه كذلك في المؤسسات الرسمية.

 

بيد أن بعض المصلحين قد يتحتم عليه سلوك أحد المسلكين فيختار العمل من خلال مؤسسات شعبية لاتربطها بالدولة كبير علاقة، أو يختار سلوك المسلك الآخر فيحاول أن يكون مستقلاً ضمن مؤسسة رسمية، ويكون اختياره ذلك ناجما عما تأتى له وفقاً لحاله وملابساتها الخاصة، أو لأن ما ارتضاه من منهج في الإصلاح يحتم عليه ذلك، وقد مضت الإشارة إلى الاتجاهات الناس في ذلك.

ولعله من الجدير بالتنبيه هنا هو أن العالم أو المؤسسة الشرعية: دعوية كانت أو علمية أو غيرهما؛ المستقلة عن أهواء الدول والجماهير، ينبغي أن تكون محل ثقة من الدولة والجمهور وإلاّ فسوف تواجه معوقات أو صدوداً. ولئن كان الهدف هو الإصلاح فينبغي أن يكون موجهاً للجميع، وهذا يقتضي أن تكون محل ثقة الجميع؛ الجماهير والخاصة ومنهم الحكومات، وليس من لازم ذلك أن يشتغل جميع المعنيين بالشأنين بل لابد من تسلك فئة مسلك الإصلاح عن طريق الدولة، وفئة أخرى مسلك الإصلاح عن طريق المؤسسات الشعبية المختلفة، ولكن الذي يلزم هو التسليم بعدم تناقض المسلكين في الجملة ما دام السالكون لهما من أهل العلم المخلصين المتبعين. وهذا لاينفي أن يكون لكل مسلك شروط لابد أن تتوافر في سالكه، ينبغي لمن لم تتحقق فيه أن يحجم عنه ومثل هذا ينبغي أن لايخفى.

والخلاصة هي أن المسلمين بحاجة إلى علماء ربانيين مستقلين سواء كانوا في مؤسسات رسمية أو في غيرها من المؤسسات الشعبية المكملة لها أو السادة لما لم يسعه جهد المؤسسات الرسمية.

هذا ولايزال الحديث عن دور العلماء ذو شجون، وقد مضت من ذلك جُمَلٌ اللهَ أسألُ أن يجعل فيها نفعاً، كما أسأله أن يجعلنا من زمرة العلماء العاملين، وأن يستعملنا في نصر الملة والدين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

---------------------------------

[1] كما في البدع لابن وضاح، ص32، ولم يثبت.

[2] رواه الإمام أحمد في المسند 5/323، والحاكم في المستدرك 1/211 (421)، وابن أبي الدنيا في العيال 1/347 (185)، وهو حديث حسن، رجاله ثقات غير أبي قبيل والأقرب أنه صدوق حسن الحديث وقد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، وفيه أيضاً مالك ابن الخير الزيادي والأقرب أنه ثقة، وله طريق آخر من حديث ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عبادة أخرجها الشاشي في مسنده والطبراني في مكارم الأخلاق، وقد جود إسناد أحمد الإمام محمد بن عبدالوهاب، وحسنه العلامة ابن مفلح وغيرهما.

[3] وسوف يأتي بيان أن العلم المحمود هو ما أثمر عملاً صالحاً، فلا يعارض هذا ما تقرر في كتاب الله تعالى من قوله سبحانه: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

[4]  يريد حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: "إن أحب الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوماً"، وفي بعض طرقه عند مسلم: "فصم صوم داود نبي الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أعبد الناس"، رواه مسلم 2/812 (1159).

[5] فتاوى السبكي 1/73.

[6] تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير 1/109.

[7] ينظر مجموع الفتاوى 3/250، وينظر كلام الإمام في الفتاوى الكبرى 1/90-91.

[8] إعلام الموقعين 1/10.

[9] ينظر جامع الترمذي 4/591 (2382)، وقد رواه ابن خزيمة في صحيحه 4/115 (2482)، وكذا ابن حبان 2/135 (408)، والحاكم في مستدركه 1/579 (1527)، وغيرهم.

[10] الآدب الشرعية لابن مفلح 2/235-236.

[11] المدخل لابن الحاج 1/138-139.

[12] السابق 1/139.

[13] إعلام الموقعين 4/217.

[14] ينظر أدب المفتي ص20.

[15] ينظر مجموع الفتاوى 3/421.