لِم فشلت أمريكا في نزع سلاح كوريا؟
20 جمادى الثانية 1429
طلعت رميح

في تجارب النزاعات والصراعات والحروب، دروس وقواعد تستخلص؛ بما ينمي الخبرة الإنسانية في هذه الأنماط من التجارب؛ إذ النزاعات والصراعات والحروب ينطبق عليها ما ينطبق على كل التجارب الإنسانية الأخرى في السير وفق قواعد وأسس، كذا تلك التجارب هي الطريق المنهجي لاستخلاص القواعد العلمية أو تطويرها. وفي الحرب الكورية التي استمرت لثلاث سنوات (1950 – 1953)، ثمة دروس كثيرة وهامة وأساسية، لا تزال صالحة لكل الشعوب المعرضة للعدوان الخارجي، خاصة وأنها دروس ما يزال فعلها مستمرًا ومتطورًا باستمرار المواجهة الأمريكية مع كوريا الشمالية طوال ما يزيد على نصف قرن.

هي دروس لم تنته مفاعيلها بنهاية الحرب الباردة بعد سقوط وانهيار الاتحاد السوفيتي – حيث جرت الحرب في بواكير الحرب الباردة – بل هي ظلت صالحة في إطارها العام، باعتبار قواعد تلك التجربة ظلت حاكم للرؤية الكورية في العلاقات مع المحيط ومع الخارج، ليس فقط لأن آثار تلك الحرب ما تزال شاهد عيان وواقع ملموس – كما هو الحال في استمرار تقسيم كوريا – ولكن لأن كل ما جرى في كوريا منذ الحرب وحتى الآن هو امتداد لدروسها؛ ولأن نجاح كوريا في الصمود حتى الآن، هو راجع إلى استخلاص تلك الدروس وتطويرها؛ ولأننا للأسف لا نقيم تجاربنا ونفهم الدروس ونعمل على أساسها، كما حدث في تجربة كوريا الشمالية، بما يعزز أهمية إيضاح كيف جرت الاستفادة من التجربة في بلد آخر، وصراع آخر ممتد. في تلك الحرب – في الخمسينيات – أعادت كوريا اكتشاف نفسها، وموقعها، وأهميتها وإمكانياتها، كما اكتشفت طبيعة علاقاتها الاستراتيجية الخارجية، الثابت منها والمتغير؛ ولذا لم تكن مصادفة أن كوريا الشمالية ما تزال منذ تلك الحرب وحتى الآن على ذات العلاقات الاستراتيجية مع الصين وروسيا، وعلى ذات المواقف من اليابان والولايات المتحدة، رغم كل التغيرات التي جرت في النظم السياسية في الصين وروسيا، ورغم التغير في وضع اليابان من دولة إمبراطورية إلى دولة محتلة أمريكيًا!. خلال الحرب تحالفت كوريا الشمالية مع روسيا والصين وكان في حالة عداء مع الولايات المتحدة واليابان، وهي ظلت كذلك من بعد.

أربعة دروس لقد كان هذا الدرس في فهم العلاقات الاستراتيجية وأولوياتها، وفي توصيف المهددات الاستراتيجية للمصالح الوطنية الكورية، هو ما جعل كوريا الشمالية حتى الآن ترى في الولايات المتحدة عدوًا استراتيجيًا، وأن تظل ترى أن اليابان لم تتخل عن أطماعها في كوريا رغم احتلالها من قِبل الولايات المتحدة – لسابق تعرضها لغزو واحتلا ياباني بدأ قبل الحرب العالمية الأولى واستمر حتى الثانية –، كما كان هو دافعها للتأكيد على التحالف مع الصين وروسيا بصفة دائمة وكخط استراتيجي ثابت رغم تغير النظم السياسية في الصين، ورغم تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، ووراثة روسيا لدوره الدولي. وليتنا كنا كذلك على مستوى الإدراك لخصوم الأمة وأعدائها الاستراتيجيين، الذين يعادون الأمة منذ قرون طويلة، لا منذ 50 سنة فقط كما كان الحال بالنسبة لكوريا. وهذا التقدير للوضع الاستراتيجي لكوريا وطبيعة الصراع عليها وحولها، هو نفسه ما دفعها إلى تسخير كل قدراتها وإمكانياتها دون كلل ودون تردد من أجل بناء قوتها الاستراتيجية على أساس فكرة الدفاع عن النفس وتهديد كل من يهددها من خلال استراتيجية نقل المعركة إلى أرض الخصم. ففي الوقت الذي لم تستهدف كوريا الشمالية – ولا يمكن لها أن تستهدف – غزو أي بلد جار (الصين أو اليابان) هي ركزت قوتها على الدفاع عن النفس، وعلى حتمية الوحدة الكورية في أي مرحلة تسمح الظروف الدولية بإنجازها. كوريا تتربص بالوضع الدولي دومًا، وتنتظر لحظة ضعف للولايات المتحدة، ولحظة انشغال حاد لها بصراع في منطقة أخرى.. إلخ، لكي تنجز هي وحدتها، وفي الطريق إلى ذلك هي تعظم من قدرتها ومعالم قوتها. هي أدركت أبعاد الوضع الدولي وتأثيراته، وتعلمت أن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها، وأن تكون مستعدة – دون أي مغامرة – لإنجاز وحدتها، إذا لاحت في الأفق فرصة. وذلك هو الدرس الثاني. وهنا كان الدرس الثالث مهمًا للغاية، ألا وهو أن كوريا الشمالية عانت ما عانته من حرب وتدمير تحت غطاء الأمم المتحدة. لقد جرت وقائع الحرب والعدوان على كوريا بصدور قرار من مجلس الأمن بتشكيل قوة عسكرية "دولية" لمواجهة محاولة كوريا الشمالية توحيد الكوريتين.

كان إقرار الأمم المتحدة الوليدة في مطلع الخمسينات بشن الحرب على كوريا "لعبة جديدة" في ذاك الوقت. فهمت كوريا الدرس جيدًا، أو هي فهمت أن مجلس الأمن ليس إلا ناديًا للكبار يعكس مصالحهم ويقسمها بينهم على حساب الدول الصغرى. كان الاتحاد السوفيتي غائبًا أو مقاطعًا اجتماعات مجلس الأمن بما سمح باتخاذ قرار العدوان تحت مظلة الأمم المتحدة، لكن بيونج يانج فهمت الدرس الأعم والأشمل. القوة ومصدرها هو في كوريا لا في أي بلد آخر، وتلك هي الحصانة من كل تقلبات ومطبات الظروف الدولية وعلاقات ومصالح الكبار. وهنا كان الدرس الرابع، إذ كوريا لم تنخدع في لعبة الديمقراطيين والجمهوريين والصراعات بينهم على السلطة في الولايات المتحدة، بل لم تنخدع في لعبة وآليات الديمقراطية الأمريكية ذاتها. وقتها كان هناك من لم يتوقع شن الحرب على اعتبار أن الرئيس الديمقراطي "ترومان" لم يكن قد حصل على تفويض من الكونجرس بالحرب. وأثبتت التجربة خطأ المراهنة على ألاعيب الديمقراطية الأمريكية إذ شنت الحرب دون تفويض من الكونجرس.

الدروس.. والتاريخ لكن الأهم من كل الدروس هو أن كوريا لم تستخلص تلك الدروس، لكي تدونها مكتوبة في كتب التلاميذ ولا في مدونات الخبراء الاستراتيجيين للتدريب عليها والإخبار بها، بل هي جعلت تلك الدروس "رؤية استراتيجية ثابتة"، بنيت عليها الدولة الكورية كلها، وتحددت على أساسها أولويات البناء السياسي والاقتصادي والعسكري.. إلخ. فهي باعتبارها أن الولايات المتحدة.. عدو، وأن اليابان لها مطامح استراتيجية في كوريا، بل ليس أمامها من مكان استراتيجي إلا كوريا للتمدد تجاهها – إذا هي عادت لحالتها الإمبراطورية – فقد وضعت الاستراتيجية الكورية على أساس أن يكون بناء الجيش والتسليح ضمن رؤية مجابهة هذان التهديدان تحديدًا. لقد انعكس هذا التقدير في تخطى الجيش الكوري الشمالي تعداد المليون، كما بسبب هذه الدروس أصبحت الصناعة الحربية ذات أولوية قصوى في بناء الدولة الكورية، وليست فقط قاطرة تطوير الصناعة والمجتمع. كما لذلك جرى اعتماد تطوير الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى لتشكيل تهديد استراتيجي لدى الخصوم ولنقل المعركة من كوريا إلى جغرافيا الخصوم، لردعهم عن ممارسة العدوان قبل بدءه. لكن الأهم.. الدرس الأهم.. الدرس الأكبر.. هو أن كل الدروس باتت ممثلة في نخبة للحكم لا تحيد عنها. إن إشكالية خطيرة جرت في كل البلدان التي لم تتطور ولم تتقدم ولم تتمكن من الدفاع عن نفسها، كان جوهرها عدم قيام وتشكل قلب ثابت للدولة والمجتمع، يتمثل الرؤية التي ثبتتها خبرة الشعوب تاريخيًا حول طبيعة مهددات الأمن القومي لكل بلد، ويحولها إلى قوانين – وليس قرارات – لخطة استراتيجية لا مجرد خطابات، وإلى بناء لكل معالم القوة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، بغض النظر عن طبيعة شكل وأسلوب الحكم ومن فيه اليوم أو غدًا.

وثلاثة قواعد في خلاصة التجربة الكورية توجد ثلاثة قواعد عامة صالحة لأن تكون قواعد لممارسة الصراع، أي صراع من قِبل أي دولة "ضعيفة":

القاعدة الأولى: أن بناء القدرة على أرض الدولة.. القدرة العسكرية والاقتصادية (بناء الدولة)، يرتبط في تطوره وتعاظمه بقدرة الحفاظ عليه من خلال ردع الخصم وشل قدرته على الاعتداء والتدمير، خاصة وأن الولايات المتحدة وفقًا لثقافتها في الحروب، تدمر وتبيد خصمها بصفة شاملة. ماذا نقصد بتلك القاعدة؟. الأمر باختصار أن "لا نبني إلا ما يمكن حمايته طالما هناك عدو متربص بالدولة". "لا يُبنى إلا ما يُحمى". وبطبيعة الحال لا يُقصد عدم بناء كوبري أو مدرسة أو مصنع للسلع الغذائية. لكن القصد هو أن وجود تقدير لدى دولة من الدول، أن دولة أخرى تمثل تهديدًا استراتيجيًا شاملاً لها، وأنها لنا تتركها تتقدم وتتطور وأنها ستلاحقها بالضربات الإجهاضية لقدراتها ومنجزاتها، يعني بالنسبة للدولة المهددة أن لا تبني من المشروعات الاستراتيجية إلا ما تستطيع قوتها حمايته فعليًا. وبقدر من التفصيل، لنتصور مثلاً أن بلدًا مُهددًا قرر بناء مفاعل نووي أو ما شابه من المشروعات الاستراتيجية الكبرى. الأصل أن تكون تلك الدولة قادرة على حماية هذا المشروع قبل أن تشرع في بناءه، وإلا تعرضت لدمار خطير للمفاعل وتكلفته الاقتصادية وآثاره الضارة. لقد أدرك الكوريين الشماليين ضرورة ردع الخصم، من خلال فهم العلاقة بين الصاروخ متوسط وبعيد المدى والمفاعل النووي مثلاً. طورت كوريا صواريخها وعززت قدرتها على نقل المعركة لأرض الخصم، ثم هي من بعد أعلنت عن مشروعها النووي بل عن وصولها إلى القدرة التصنيعية العسكرية للقنبلة النووية. لم يكن ذلك لأنها تفكر في الاعتداء على أحد، فكل من هم في جوارها هم قوى كبرى سواء الصين أو اليابان أو روسيا، إنما كان تطويرها العسكري أداة لحماية منجزاتها، وربطًا لنظرية أمنها القومي ومحدداتها، بطبيعة منجزاتها على الأرض. لا يجري البناء وفق الحاجات فقط، بل وفق خطة تضع في اعتبارها إمكانية أن يعتدي الخصم ويدمر. المهدد لأمن دولة "وحياة شعبها واستقرارها" يجب أن يجري التعامل معه بالجدية الكاملة في كل فقرة وحرف، في كل بناء أساس. لا غفلة عن خصم استراتيجي خلال فترات السلم أبدًا. وإذا كنا ضربنا مثلاً بحكاية الصاروخ والمفاعل، فإن الأمر ينطبق على كل القضايا السياسية والدبلوماسية والاقتصادية. عين الدولة المهددة هي دومًا على عدوها وليس فقط على أوضاعها الداخلية أو أصدقائها وحلفائها.

إن بناء القوة الاستراتيجية لأي بلد ضعيف، هو عملية استراتيجية معقدة، كما هي ليست قوة صماء تُبنى وبعدها تستريح الدولة، بل هي قوة متطورة وعملية مستمرة، لا يمكن الاعتماد على ما يتحقق منها، وإنما يتطلب الأمر متابعة للوضع الدولي في حال كون الخصوم على درجة من القوة والقدرة دوليًا. هنا نضرب مثلاً، كيف استفادت كوريا من تجربة العراق، وكيف هي استفادت من الظرف الدولي المواكب للعدوان على العراق، وكيف قرأت الوضع الدولي ما بعد نهاية الحرب الباردة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في آخر حكم "جورباتشوف" ومع مجيء "يلتسن" للسلطة هناك. أو كيف ردعت خصمها وهي دولة صغيرة الحجم.. تواجه دولة عظمى!. دعونا نقص القصة. في فترة من الفترات وفي ظل الانفراد الأمريكي الساحق بالوضع الدولي، وفي ضوء قراءة كوريا لتجربة الصراع ضد العراق في عام 1991 ، أخذت كوريا بخطة استراتيجية "متراجعة" – في الوقت الذي كان العراق يتقدم هجومًا – إذ هي أدركت أن ظرفًا دوليًا جديدًا بدأ يتشكل، خلاله أصبح خصمها الاستراتيجي أي الولايات المتحدة، منفلت العقال. لقد استفادت كوريا من تجربة العدوان على العراق لتسريع معدلات قوتها العسكرية الرادعة باستثمار انشغال الولايات المتحدة والغرب بالعدوان على العراق. هي قررت المناورة أيضًا دون المواجهة المباشرة، فدخلت في مفاوضات طويلة مع الولايات المتحدة خلال حكم "كلينتون"، وهكذا حين وصل "جورج بوش" الابن إلى السلطة في الولايات المتحدة، ووضع كوريا الشمالية ضمن ما سماه محور الشر، كانت كوريا قد استفادت من الوقت، دون أن تتخلى عن مناورتها السابقة، باعتبارها لم تكن قد انتهت من تطوير قدرتها الشاملة على الردع. ل

م تعلن كوريا الحرب على الولايات المتحدة، وإنما استمرت في المناورة، وضمن تلك المناورة وصل بها الحال أن سمحت للمفتشين الدوليين بإغلاق مفاعلها النووي الرئيسي، وختمه بالشمع الأحمر. وبات الحال وكأن الأمر انتهى إلى استسلام كوريا الشمالية للضغط الأمريكي. لكن، وما أن تأكدت كوريا أن الولايات المتحدة قررت غزو العراق بعد أفغانستان، وفي 16 ديسمبر 2002 ، وبعد أن تحولت القوة العسكرية الأمريكية إلى الخليج والمنطقة، انتفضت كوريا، وطردت المفتشين الدوليين، ثم بدأت تجارب على صواريخها بعيدة المدى، إلى أن وصلت حد الإعلان عن التفجير النووي العسكري. ذلك هو أهم مفهوم للخطة الاستراتيجية، التي تحدد الأهداف وتدرس الواقع وتغيراته جيدًا، وتتحرك حين لا يكون خصمها قادرًا على إجهاض قدرة الدولة صاحبة تلك الخطة الاستراتيجية في بناء قوتها وقدرتها. قرأت كوريا أن الولايات المتحدة لا يمكنها خوض حربين في وقت واحد، فوصلت في تصعيدها وقوتها للذروة. من بعدها بدأت المفاوضات من واقع مختلف. والقاعدة هنا هي أنها رأت أن بناء قدرتها هي خط متصل في الفعاليات لكن متوجه في السير، نحو الهدف.

والقاعدة الثالثة، التي يمكن استخلاصها من تجربة كوريا في ممارسة هذا الصراع المتواصل من الخمسينيات وحتى اليوم هو أنها رأت أن امتلاك الإرادة لا يعني الهجوم في أي وقت وفي أي ظرف، بل هو تحديدًا ما يُعطي إمكانيات المناورة أيضًأ، وأن المناورة "التراجعية" قد تكون في بعض الأحيان أفضل وأقوى تأثيرًا على الخصم من الهجوم المباشر عليه ودخول الحرب معه. ماذا نقصد؟. ثمة خطأ شائع هو أن الحرب هي ملاقاة العدو والصراع العسكري معه. لكن ذلك ليس إلا ذروة حالة الحرب، التي تحسمها كل التطورات السابقة عليها. الحروب تحسمها الوقائع التي تحققت قبل اندلاعها على الأرض، ولا تحسمها الجيوش في الميدان إلا لتحصيل حاصل لما جرى قبلها.

إذا راجعنا تجاربنا، سنجد أننا لم نحدد عدونا بصفة استراتيجية، ورحنا نمني أنفسنا بإمكانية "تحييد" أوروبا من علاقاتها الاستراتيجية مع الكيان الصهيوني، والأمر نفسه بالنسبة للولايات المتحدة، كما لم نبن القدرات الاستراتجيية لدولنا على أساس أن العدو "متربص" بنا بشكل استراتيجي، وأننا يجب أن نسير في خطوات البناء وأعيننا على خصمنا الاستراتيجي في السلم بأكثر مما في الحرب.. إلخ. فهل نتعلم من دروس كوريا؟.