حماس التي فاوضت
18 جمادى الثانية 1429
أمير سعيد

سارعوا إلى انتقادها على الفور حينما قبلت بالانخراط في العمل السياسي البرلماني؛ فحماس قد رضيت بالانتخابات تحت سقف أوسلو، وهي الآن على خطى فتح، وتمضي في طريق مفاوضاتها وما تخلف عنها.. لا، بل هي جاوزت فصارت على مسافة قصيرة تفصلها عن مبادرة الرئيس المصري الراحل أنور السادات حينما فاجأ الجميع بالسفر إلى تل أبيب وخطب داعياً للسلام، ثم وقّع على اتفاقية كامب ديفيد التي كاد العرب أن يجمعوا على رفضها قبل ثلاثين عاماً.
السادات كما عرفات نعتوا بالخيانة بعد القبول بكامب ديفيد التي عارضها عرفات، وأوسلو التي وقعها عرفات، على الترتيب؛ فلماذا إذن على الناس أن يقبلوا باتفاقية وقعتها حماس عبر وسيط ـ أو بدون ـ مع "إسرائيل" من غير أن يصفوها بالخيانة والتفريط؟!
الواقع أن ترجمة كل تفاوض أو اتفاق مع الأعداء والمحتلين على أنه خيانة وتنازل وسقوط في طريق الاستسلام هو درب من دروب تسطيح المفاهيم وتغييب الحقائق ومجافاة الإنصاف، وتلك الصور التي قد تجمع أحياناً بين طرفي صراع أمام طاولة مفاوضات لا تنبئ بالضرورة عن استحقاق لازم معين قد لا يكون موجوداً إلا في ذهن حديي النظرة.
لكي يكون الحديث واضحاً، ولئلا يكون مصادماً؛ فإنه من الجدير ذكره التثنية بأمر تالٍ هو أهم كثيراً مما تقدم، وهو أن ما ينتج عن هذه اللقاءات دائماً هو ما ينبغي أن يلتفت إليه المنصفون، وإذ نرى أن معظم هذه المفاوضات لا تفضي ـ لاسيما عند الأطراف الخانعة والذليلة والضعيفة ـ إلا إلى مزيد من التنازل والتراجع والانسحاق القيمي والأخلاقي والمبدئي؛ فإن ذلك لا يمنع أبداً أن أصل التفاوض هو أمر مشروع أخلاقياً وسياسياً ومبدئياً، ولا غضاضة مطلقاً فيه ما لم يكن انعكاساً لروح هزيمة أو تغليفاً مقصوداً للخيانة والتفريط والاستسلام، وإنما لفرط ما استخدم في تلكم الأمور؛ فقد صار عنواناً لها وشارة على الركوع والانسياق للمحتل.
حالة حماس، نراها مغايرة تماماً لهذا الشائع عن صور الاستسلام والانسحاق، وإنما هي تتويج مرحلي لمقاومة عتيدة، ومن الظلم كثيراً أن نسوي بين مباحثاتها واتفاقاتها وتولي الآخرين يوم الزحف حينما تأتي ساعة الحقيقة والمقاومة، وليس في تلك النظرة انحيازاً أعمى لتلك الحركة التي قادها شيخ المقاومين أحمد ياسين لسنوات طوال؛ فكل ما في الأمر أن النظرة الموضوعية تقضي بأن الرجال والساسة والهيئات والأنظمة والحكومات مواقف في النهاية، وتلك المواقف إما أن تكون مفضية إلى صالح أمتها ومبادئها وقيمها وشعوبها وأوطانها، وإما تعاكس كل هذا، والأمر لم يكن إلا في الجانب الأول من المقارنة.
ومن الغبن البين أن نقارن بين حركة تشكل حكومة لقطعة أرض صغيرة محاصرة من جهاتها الأربع ولا تستطيع أن تتنفس دون معابر فوق الأرض أو أنفاق تحتها، وبين دول ذات أوراق كثيرة وأدوار إقليمية ودولية مؤثرة تدخل ذاتها بذاتها في زنازين الأسر والارتهان للمحتل، وتلف بنفسها القيود حول معاصمها.
ومن التجاهل المشين أن ينسى التاريخ النضالي الطويل والممتد وآلاف الشهداء الذين خطوا الطريق نحو مراغمة أنوف الصهاينة، وفواتير الدم التي دفعها قادة الحركة الإسلامية من أجل فلسطين، طمعاً في تشويه تلك المسافة التي قطعتها حماس في طريق الاستقلال عن "إسرائيل"، ورغبة في تصويرها كحركة منافقة أو جاهلة سياسياً تصادم في موقع المعارضة ما تقبله في موقع الحكم؛ فحركة حماس كل ما فعلته في هذا الاتفاق هو هدنة عسكرية، تسمح بالتعامل الضروري مع الكيان الصهيوني ولا تتعدى ذلك إلى ما هو أبعد من ذلك.
وفارق هائل بين لقاء العدو ـ برغم أنه لم يحدث مع حالة حماس ـ على طاولة المفاوضات، والتقائه على الطاولة أو في أي مكان لا كعدو، وإنما كصديق مثلما يفعل بعض الساسة العرب، وإنما العبرة في النهاية بالمواقف والسياسات المتبعة ومدى المقاربة والمباعدة عن الأصول والثوابت؛ وفي تلك الأخيرة، لا أعتقد أن حماس قد جاوزتها أو ناقضتها؛ فإبرامها هدنة لالتقاط الأنفاس ولانتزاع مزيد من "الشرعية" بين الدول المحيطة والقوى الدولية، وتخفيف الحصار الخانق على أهل غزة وتوفير الغذاء والدواء والوقود الضروري، وتثبيت سلطة المناضلين، وتحجيم العملاء والجواسيس، وتنظيم صفوف المقاومة من جديد، وتقوية شوكتها، وتطوير قدراتها.. كل هذه مكتسبات راجحة تتضاءل دونها كل السلبيات المتوقعة لهذه الهدنة، لا بل، حتى هشاشة هذه الهدنة التي لا يمكن فصلها عن كل الاتفاقات الصهيونية أو اليهودية التي نقضها اليهود على مر العصور، لا تتجاسر لتقف حيال توقيع تلك الهدنة بغرض إيقافها أو التراجع عنها من قبل حركة حماس أو سلطة غزة المنتخبة، إذ إن تلك الهشاشة التي تحدث عنها إيهود باراك وزير "الدفاع" وحاييم رامون نائب رئيس الحكومة الصهيونية ، والتي حاول من خلالها التقليل من وقع الصدمة على "الإسرائيليين" حين أرغموا على إبرام هدنة مع "حركة إرهابية" (طبقاً للمفهوم الصهيوني عن حماس)، لا تعني عند انهيار الاتفاق نقيصة للموقعين الفلسطينيين، لأنهم ـ بطبيعة الحال ـ لن يكونوا أول ناقض، ولا أول متضرر كذلك؛ فدون مواربة لا تعدو هذه الهدنة لدى الغزاويين أكثر من استراحة محارب لا ضير كبير إن انتهت مدتها مبكراً أو لاحقاً، لأن العودة عنها لا يعود بالقضية إلى المربع الأول الذي كانت غزة عليه قبل سيطرة حماس عليها في هذا الشهر من العام الماضي، وإنما يعود إلى الحالة التي سبقت الاتفاق، وهي حالة ليست الأسوأ فيما يخص مسيرة الحركة المتقدمة.
كل ما هنالك أن ثمة خسارة إعلامية ستمنى بها الحركة عندما يسارع الناقمون عليها ابتداءً إلى محاولة التشكيك في مصداقية الحركة، عبر الادعاء بأنها إذ تقبل التفاوض مع الكيان الصهيوني فإنها تمنحه اعترافاً بالشرعية في احتلال بقية أراضي فلسطين، وهو من باب الإلزام بما لا يلزم من قبل هؤلاء الناقمين.
وبعيداً عن الناقمين أو المؤيدين للحركة؛ فإن الاتفاق يمكن تجييره في أي اتجاه كان، إن في صالح الدبلوماسية المصرية أو الواقعية السياسية لحماس أو استقلاليتها عن الفلك الإقليمي غير العربي، ومن الممكن إرجاع هذه الهدنة إلى تأثيرات خارجية على حماس أو استقلالية ذاتية لها، كلٌ وارد في هذا التحليل. فلا يمكن فصل التهدئة في غزة عن تلك الحاصلة في بيروت، وكلاهما قد جرى بإرادة خارج تلك المدينتين، بمعنى أن التهدئة مطلب إقليمي قبل أن تكون مطلباً داخلياً في بيروت وغزة.
وثمة سيناريوهان يمكنهما تفسير إبرام الاتفاقات بغية تبريد الملفات في المنطقة، الأول يتعلق برغبة "إسرائيل" وربما الولايات المتحدة معها في تسكين بعض البؤر الملتهبة ريثما تقوم بضربة ـ أو الولايات المتحدة ـ ضد إيران. (وهذا الاحتمال قد يكون أبعد من تاليه بعض الشيء).
والثاني أن محور إيران ـ سوريا، هو ذاته من يريد التهدئة للتمهيد لصفقة لا يمكن فصلها عن المشاركة التركية والقطرية في القيام بأدوار تكميلية فيما يسمى بـ"الصفقة الكبرى" والتي هي بالأساس ـ افتراضاً ـ بين إيران و"إسرائيل" تحديداً، ويمكن إدراج المباحثات السورية الصهيونية من جهة، وصفقة "حزب الله" الأخيرة مع الكيان الصهيوني والتي تم بموجبها إطلاق سراح أسير من الحزب في مقابل تسليم الجانب الصهيوني رفات بعض قتلاه لدى "حزب الله" ضمن هذه الصفقة أو ضمن مقدماتها التمهيدية.
بيد أن كلا السيناريوهين، لا ينفي الإرادة والرغبة الحمساوية في إبرام هدنة لم يكن الشيخ أحمد ياسين ـ رحمه الله ـ بعيداً عن عرضها من قبل منذ سنوات، وهدفها لا يختلف كثيراً عن هذه، وهو منح المقاتلين والساسة فرصة لالتقاط الأنفاس، إضافة لما تقدم ذكره آنفاً من أهداف وأغراض مستجدة تتعلق بحماس الدولة لا "الثورة" فقط، وهو ما ترغب فيه حماس دون أي تدخل خارجي قد يكون مساعداً لكنه ليس مؤسساً لتوجهها هذا.
وإن من المنطقي جداً أن يكون أحد السيناريوهين صحيحاً أو لا يكون، وتكون الحركة قد وجدت نفسها في حاجة إلى الإفادة من أي من الرغبتين كلتيهما لدى الأطراف في المحيط، في تنفيذ رغبة ذاتية لديها،
وذاك الأخير، هو ما يعطي انطباعاً بأن حركة حماس ذات أجندة خاصة تحتم عليها النظر في صالح أهل غزة وفي تطوير المقاومة قبل أن تنظر إلى حسابات أخرى إقليمية ودولية، أو على الأقل هو ما يمكن أن تطرحه حماس كدليل على مرونتها وواقعيتها وسعيها لتحقيق آمال شعب فلسطين في المنطقة التي تسيطر عليها.
في النهاية يبدو الاتفاق خطوة جيدة في اتجاه تثبيت الاستقرار في غزة وفي تقريب المسافة مع الآخرين في الداخل الفلسطيني، وفي الجانب المعنوي من المسألة يبدو كذلك أقوى رد على من قال إن حماس قد أخطأت بقبولها الانخراط في اللعبة السياسية الداخلية، ثم بسيطرتها على غزة، سواء من أولئك الذين هم في أقصى اليسار العلماني أو أقصى اليمين الذين رحبوا بهدنة مع أوروبا رفضتها الأخيرة، ودانوا أخرى طرحت على "إسرائيل" فقبلتها!!
[email protected]