العقل بين الإفراط والتفريط !!
17 جمادى الثانية 1429
موسى بن ذاكر الحربي

إن الشريعة الإسلامية لم تهضم العقل البشري حقه من التفكير والإبداع والإنتاج المعرفي وأيضا، لم تتركه هملا يهيم في أودية الضلال الفكري، بعكس الفلاسفة والمتكلمين الذين قدسوا العقل حتى جعلوه إله يعبد، والخرافيين الذين عطلوا عقولهم بل باعوها للدجالين والخرافيين. والقرآن ذم هؤلاء وهؤلاء.قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] في هذه الآية الكريمة ذم للذين يشرعون للناس ما ينبغي أن يفعلوه أو يتركوه بمجر العقل فإن هذا إعمال للعقل في غير محله فهذه الأنعام التي حرموها على أنفسهم حرموها بلا موجب إلا ما استحسنوه بعقولهم؛ ولذا قال الله عز وجل {وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}، وهذا ينطبق على الذين يسنون القوانين الوضعية لتحكم حياة البشر وليس مستغربا أن يكون هذا في دين ليس فيه تشريع وإنما هو عبارة عن مواعظ وأناشيد كالنصرانية مثلا لكن المستغرب حقا أن تطبق هذه القوانين الجائرة في بلاد يدين أهلها بشريعة لم تدع صغيرة ولا كبيرة إلا بينتها {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:86] أما الطرف الآخر في المعادلة فهم الخرافيون الذين يقدسون آراء الآباء والأجداد والشيوخ وإن كانت باطلة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] فهؤلاء اكتفوا بما عليه آباؤهم وأجدادهم ومنظروهم دون النظر إلى صحته من فساده.
وهذا أيضا ينطبق على المسخ من بني جلدتنا الذين خالط تقديس الغرب دماءهم وعظامهم فليس لديهم الاستعداد لنقد أي فكر غربي لأنهم ينظرون إليه نظرة تقديس وإجلال لأنه أتي من أناس متحضرين!! لكن النصوص الشرعية ليس لها الحصانة الكافية لدى هؤلاء لأنها أتت من بيئة صحراوية بدوية فممكن أن تفهم بما يناسب ذلك العصر. أما عصرنا الحاضر فلا تناسبه؛ ولذلك ممكن أن يتخلص منها بطريقة المعتزلة إن كانت متواترة فتأول وإن كانت من نصوص الآحاد فترد لأنها خالفت العقل!! والذي ينبغي على من وهبه الله نعم العقل ألا يقدسه تقدس الفلاسفة ولا يكون إمعة إن أحسن الناس أحسن وإن أساؤوا أساء.
ولكن ينبغي أن يعرف المساحة التي يعمل فيها العقل – وهو ما يمكن أن يعرف بالحس والتجربة – أما الغيبيات فلا يمكن الوصول إلى معرفتها عن طريق العقل وإنما عن طريق الوحي؛ فإجهاد العقل فيما يتعذر الوصول إليه نوع من أنواع العبث الفكري وصاحبه يعيش في حيرة واضطراب حتى قال الفخر الرازي بعدما هام في أودية الكلام والفلسفة:

نهاية إقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا