قواعد في فقه الفتن والملاحم (2)
7 جمادى الثانية 1429
انجوغو مبكي صمب

القاعدة الرابعة: الواقعية في تنزيل نصوص الفتن والملاحم.
وذلك بالتثبت في مدى مطابقة ما يشاهده المرء من الحوادث الكونية والظواهر الاجتماعية لمدلول تلك النصوص الشرعية، ولا يكلف نفسه باستنزالها على كل ما يسمعه أو يراه في الزمان أو المكان الذي يعيش فيه، كما يفعل كثير من المنتسبين إلى العلم والدعوة.
ومن الأمثلة على ذلك ما يحاوله بعض أهل العلم عبثا من تنزيل أحاديث الفرقة والاختلاف في حق الجماعات الدعوية المعاصرة، وتصنيفها في الفرق والنحل التي حذرها منها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر باعتزالها لمخالفتها للفرقة الناجية، ويجهل أو يتجاهل أن مجرد التجمع على علم في شكل مذهب، أو على عمل في صورة جماعة أو حزب، لا يخرج المتجمع أو المتحزب من دائرة الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة، قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: (إنما تصير هذه الفرق فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات، إذ الجزئي والفرعي الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعا).
وكذلك من عدم الواقعية في تنزيل نصوص الفتن والملاحم حمل النصوص الواردة في ظاهرة السفور والتبرج في آخر الزمان على من أخذت من النساء بمذهب من قال بجواز كشف المرأة لوجهها، أو اعتبار بعض الأزياء في بعض المجتمعات من لباس الكفار المنهي عنها شرعا دون تحقيق لمناط حكم ودون تمييز لضابط وصف.
فالواجب إذن في التعامل مع النصوص هو التأكد من الثبوت أولا، ثم النظر في الشواهد الأخرى، ثم البحث في أقوال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في بيان معنى النص، مع الرجوع إلى لسان العرب لضبط معاني مفردات النص الغريبة، ثم الاستئناس بحركة الحياة وتراكم الأحداث، وبعد ذلك يتوكل على الله فينطق بما توصل إليه من فهم، متجردا من التعصب والهوى، فيصيب الحق إن شاء الله، أو الأجر على كل حال.
القاعدة الخامسة: الفتن صغائر مكفرة، وكبائر مائجة.
ليست الفتن على درجة واحدة من الخطورة على حياة الأفراد والمجتمعات، فمن الفتن والبلايا ما هو من جنس الصغائر المكفرة بخصال الخير أو بالمصائب، مثل ما يبتلي الله به العباد من فتنة الأهل والمال والولد وغير ذالك من الخير والنعمة، قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14).
ولهذه الخيور كلها وجه آخر غير وجه النعمة وهو كونها فتنة أيضا لقول تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن: من الآية15).
وقوله سبحانه: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء: من الآية35).
قال ابن زيد: (نختبركم بما تحبون لننظر كيف شكركم، وبما تكرهون لننظر كيف صبركم).
وقد سبق أن سبق أن أوردنا حديث حذيفة رضي الله عنه في مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ذكر فيه هذا النوع من الفتن حيث يقول: (قلت فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي...).
ومن الفتن ما هو من جنس الكبائر الموبقة والمهلكة، ويحتاج إلى معالجة دقيقة للقلب من أجل الوقاية منها، أو من التخلص من آثارها، وهو الذي أقض مضجع عمر رضي الله عنه فرام فقهه، فحدثه عنها حذيفة رضي الله عنه، وهذا النوع من الفتن هو الذي يذهب بالدين والدنيا، حيث تراق الدماء، وتنتهك الأعراض، وتفترق الأمة، وتنتشر البدعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يتقارب الزمان وينقص العلم، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج).
وعنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
وعن جعفر بن علي عن أبيه رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أخوف ما أخاف على أمتي ثلاثة: الضلال بعد المعرفة، ومضلات الفتن، وشهوة البطن والفرج).
القاعدة السادسة: الفتن شبهات وشهوات.
إذا تأملنا في الفتن والبلايا التي وردت بها الأخبار نجد أنها على نوعين:
الأول: فتن الشبهات.
وهي ما يتعلق من الفتن بعقيدة الإنسان وتصوراته لأحكام الشريعة.
وأعظم فتن الشبهات الكفر أو الشرك بالله، ويدخل فيها كل ما يخرج المسلم من دينه من نواقض الإيمان الاعتقادية، كمن يعتقد اشتراك أحد مع الله في شيء من خصائص الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات، قال تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) (البقرة: من الآية191). قال مجاهد (ارتداد المؤمن إلى الوثن أشد عليه من أن يقتل محقا).
وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بعض المسلمين قد يفتنون في دينهم فيصبح أحدهم مسلما ويمسي كافرا، في فترة وجيزة أقل من أربع وعشرين ساعة ينتقل فيه المرء من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر ومن التوحيد إلى الشرك والعياذ بالله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، ومن وقف على جهود المنصرين في أفريقيا، وشاهد التضليل الذي يمارسونه ضد الشعوب الإسلامية، تحت ضغط الفقر والمرض والجهل، لرأى المئات بل الألوف يصبحون مؤمنين ويمسون كفارا يبيعون دينهم بكسرة خبز أو جرعة دواء، وهذه صورة بدائية من صور التحول عن الإسلام، وهناك صور أخرى من الردة الاختيارية لدى المخدوعين من المسلمين بالفلسفات الإلحادية الغربية، تتمثل في انسلاخ كلي أو جزئي من تعاليم الإسلام والله المستعان.
وأعظم من ذلك كله عودة طوائف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الأصنام والأوثان والعياذ بالله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة وكانت صنما تعبدها دوس في الجاهلية بتبالة).
ويندرج تحت فتن الشبهات البدع الاعتقادية التي هي دون الكفر بالله تعالى، وذلك مثل بدع الخوارج والمعتزلة والمرجئة والشيعة الرافضة وغيرهم من أهل البدع والأهواء. جاء رجل إلى مالك بن أنس رحمه الله تعالى فقال: من أين أحرم؟ فقال من الميقات الذي وقت رسول الله وأحرم منه، فقال الرجل فإن أحرمت من أبعد منه؟ فقال مالك: لا أرى ذلك؟ فقال ما تكره من ذلك؟ قال أكره عليك الفتنة، قال وأي فتنة في ازدياد الخير؟ فقال مالك: فإن الله يقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: من الآية63) وأي: فتنة أكبر من أنك خصصت بفضل لم يختص رسول الله.
فاعتقاد هذا الرجل امكان اختصاص أحد من الأمة بفضل لم يختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم داخل في الفتنة التي حذر الله منها كل مخالف لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهديه.
الثاني: فتن الشهوات.
وهي كل ما يفتن به المرء مما يهواه وتميل إليه نفسه من متع الحياة وزينتها، من النساء والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة... وغيرها.
وأعظم هذه الفتن فتنة النساء، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء).
وقال تعالى عن فتنة المال والولد (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن: من الآية15).
وقال صلى الله عليه عن فتنة المال: (تعس عبد الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض).