نحو أنماط من التفكير أكثر كفاءة

منذ فجر الإسلام وحتى عصور ازدهار الحضارة الإسلامية، لعبت التربية الإسلامية دورًا فعالاً في إيجاد عقلية إسلامية منظمة، ناقدة، متفاعلة مع الحياة والثقافة العالمية السائدة في زمانها، بل ومضيفة إليها إبداعًا لم يكن موجودًا من قبل.

فالحضارة الإسلامية التي سادت العالم لم تتحقق لأن المسلمين أزالوا إحدى الحضارتين والقوتين العظميين المتسيدتين للعالم في ذلك الوقت (فارس)، وقلصوا نفوذ الحضارة والإمبراطورية الثانية (الروم)، وأقاموا الحضارة الإسلامية على أنقاضهما، وإنما أقيمت الحضارة الإسلامية على سواعد وعقول وقيم المسلمين.

فكلتا الحضارتين كان لهما إطار ثقافي ومعرفي وفكري بالإضافة إلى القوة العسكرية والتنظيمات الإدارية والمدنية.
والمسلمون كانوا واقعيين وهم يؤسسون لحضارتهم، فاستفادوا من التنظيمات الإدارية في الحضارات الأخرى، لكنهم هزموا هذه الحضارات على مستوى القيم ثم على مستوى الأفكار.

فالحضارة الفارسية سقطت بالكامل أمام قيم وعقائد وفكر المسلمين، ولم يتبق منها إلا الفكر الشاذ الذي أضر المجتمع الإسلامي ولم يطوره، مثل فكر المانوية والثنوية والمزدكية ... الخ.
بينما كان العكس هو الصحيح، فحركة الأفكار في الدولة الفارسية القديمة، صاحبة الحضارة والفك،ر سرعان ما أصبحت تابعة للفكر العربي الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية.

أما الفكر الروماني الإغريقي فقد اغتر به نفر من علماء المسلمين والمشتغلين بالثقافة، فأخذوا منه منطقهم وفلسفتهم، فكان لهما أسوأ الأثر على المسلمين، ولم يساعدا في إقامة الحضارة الإسلامية، بل على العكس كانا معولي هدم في هذا الصرح الإنساني الشامخ.
فعندما نشطت حركة الترجمة العربية للفكر الإغريقي، ترجم المسلمون هذا الفكر، واستفادوا من جانب المنهج العلمي فيه، لكن الفكر الفلسفي والمنطق أضر المسلمين تمامًا، وبهذا فلا مجال للقول إن المسلمين استفادوا من الإغريق في الجانب الفكري والعقلي لإقامة حضارتهم.

وكانت قمة الإبداع هي أن عالمًا مسلمًا مرموقًا تصدى لأسس علم المنطق الإغريقي ونقضها وفندها، سواء بأسس المناطقة أنفسهم ومنهجهم، أو بمنهج المسلمين المستقى من القرآن والسنة. هذا العالم المسلم هو "ابن تيمية" والجهد العلمي الرفيع المشار إليه هو كتابه القيم "نقض المنطق".
ولذلك فلم يكن غريبًا أن يدّرس الغرب كتاب ابن تيمية في جامعاته طيلة خمسة قرون كاملة، ليقينهم بما يحتويه الكتاب من منهج علمي رفيع.

والدليل أن منطق الإغريق كان فاشلاً في بلاد المسلمين، أن معظم من اشتغلوا به رفضتهم الأمة وجرحتهم وهمشتهم وقذفت بهم بعيدًا هم وما جاءوا به، وكثير منهم رجع عن هذا المنهج وتبرأ منه مثل حجة الإسلام الإمام الغزالي.

بل أكثر من ذلك يمكن قوله في هذا الإطار، وهو أن الغرب في نهضته الحديثة، حينما أراد أن يرجع إلى جذوره ويحييها ويقيم عليها حضارته بعد أن تخلص من سلطان الكنيسة، كان ذلك عن طريق عالم فذ من علماء المسلمين وأصولي وفقيه كبير هو ابن رشد، الذي شرح فلسفة الإغريق وأضاف إليه، فجاء الغرب وأخذها جاهزة منه، ولذلك يحتفي الغربيون كثيرًا بجهد هذا العالم في هذا الاتجاه.

وجهد علماء المسلمين كان بارزًا في كل ميادين المعرفة، وسيكون من قبيل التكرار ذكر أمثلة لهذا التألق العقلي الكبير الذي يؤكد أن هذه الأمة ليست أمة جاهلة أو ساذجة أو لا تحب التفكير أو تريد غيرها أن يفكر لها، كما يشيع أعداؤها والمنهزمون من أبنائها، وإنما تمتلك هذه الأمة عقول مفكرة ومبدعة، ولكنهم يفتقدون المنهج الإداري والتوجيه السياسي.
والدليل على ذلك أنهم يملئون الدنيًا علمًا، وتتخطفهم الجامعات والمراكز البحثية الغربية إذا سافروا إليها.

فكما امتلك علماء المسلمين من قبل ناصية العلم والتفكير والبحث والترجمة، مما جعلهم يؤسسون علومًا نقدية ومنهجية بالكامل، كعلوم الحديث، وعلم أصول الفقه، وعلم أصول التفسير ..الخ، بالإضافة إلى ريادتهم في تأسيس علم الاجتماع والعمران البشري (كما في جهود العالم والفقيه المسلم عبد الرحمن بن خلدون)، وكذلك ريادتهم في علم النفس وتهذيب السلوك وتطوير الذات (كما في جهود ثلة كبيرة من علماء المسلمين مثل الغزالي وابن القيم وغيرهما)، وكما فعل المسلمون كل ذلك، فإنهم قادرون بإذن الله، ويمتلكون آلة التفوق والتفكير المنهجي الناقد، مما يمكنهم من المنافسة في مجالات العقل والفكر والإبداع.

مناهج متميزة للتفكير والاجتهاد

والجهلاء الذين يقولون إن الحضارة الإسلامية هي حضارة حفظ النصوص وتلقينها، وليس ثقافة الفهم والنقد والمنهج، أولئك أكلت الكراهية عقولهم وقلوبهم، وأعمى الحقد والعداء بصيرتهم، ففاتهم أن الحضارة لا تبنى على تلقين، وإنما تحتاج إلى جهد علمي راق مثل ابن الهيثم، وابن النفيس، والزهراوي، وجابر بن حيان، والرازي، وعيرهم الكثير والكثير في مختلف مناحي العلم.

وحتى علماء الفقه والشريعة والحديث لم يكونوا مجموعة من الحفاظ، يحفظون ما يجدونه أمامهم بلا تمييز، وإنما كانت لهم مناهج علمية في قمة التميز والانضباط في التفكير والمنهجية والتعليل والقياس والاستنباط.

فقد كان الإمام مالك ومدرسته الفكرية نموذجًا للتفكير العملي الواقعي، وقد كان مفتاح تفكيره الفقهي هو "المصالح المرسلة"، فمصالح الناس عنده تلبيها الشريعة، وتجد مكانًا لها في فقه الإمام مالك.
وعقلية الأمام الفقهية الكبيرة، التي أسست لنفسها منهجًا مستقلاً تمام الاستقلال، ثريًا أشد الثراء في التعامل مع الواقع ومشكلاته بدقة شديدة، هي نفسها العقلية التي تهتم بمصدر التلقي، فتذهب إلى السنة النبوية لتجمع مما ورد فيها أصحه، وليكون كتاب "الموطأ" من أفضل الكتب، والذي كتب بمنهجية وتمحيص ونقد، لا يمكن أن يصل إليهم أي كاتب غربي الآن.

أما الإمام الشافعي فقد وجد أمامه نتاج فقهاء مجتهدين اتّبعوا قواعد معينة في اجتهادهم فكان له فضل السبق في استنباط هذه القواعد وضبطها، وأسس علمًا جديدًا على أمتن القواعد المنهجية والنقدية، وهو علم أصول الفقه.

وإذا أتينا للإمام أبو حنيفة ومدرسته العقلية والفقهية والمنهجية، سنجد أنه يستحق أعلى درجة في مقياس التفكير وافتراض المشكلة من كل جوانبها ووضع الحلول لها، بعقلية إبداعية مبتكره. وقد انصب تفكيره على تشخيص الداء، فإذا تمت عملية التشخيص بنجاح، طلب الأحاديث الصحيحة التي جمعها أهل الحديث، حيث كان أبو حنيفة يرى أن الفقهاء هم أطباء الأمة، أما المحدثين فهم صيادلتها.
وقد تبنى أبو حنيفة نمطين من أنماط التفكير العقلي وهما جناحا التفكير (التحليل والتركيب)، فالقياس لعلة كان يعبر عن النمط التركيبي عنده، كما أن اجتماع الجانبين التحليلي والتركيبي عند أبي حنيفة، شكلا له عقلاً نقديًّا.

كان أبو حنيفة عبقريًا يسبق عصره؛ فقد رأى كيف تطورت الأُمة تطورا مذهلا في عصره؛ فعزم على إنتاج فقه يتعامل كل مشاكل الأمة المتجددة، فبدأ يؤسس الفقه التقديري؛ وهو تخيُّل إلى أين ستذهب الأُمة؟ وما الذي ستحتاجه مستقبلاً؟ حتى لا تحدث فجوة بين الإسلام وبين احتياجات العصر، فعمل على تقديم فقه متقدم يكون له علاقة باحتياجات العصر، ويكون السابق ثم تلحق به العلوم.

ثلاثة مناهج أساسية

كما سادت في الثقافة الإسلامية ثلاثة مناهج من التفكير هي المنهج العقلي، والمنهج النصي، والمنهج الذوقي.
فأصحاب منهج النص يهتمون بجمع النصوص وتوثيقها، وهذا المنهج له أهميته حينما نبحث في قضية معينة، فنستخدم كل وسائل النص، خصوصا إذا كان النص صحيحا. والحمد لله أن توافر وسائل التقنية الحديثة مثل الكمبيوتر، ساعد في هذا التوثيق، فاستدعاء الحديث ومعرفة درجة صحته أصبح أمرًا ميسورًا، ولم يكن ذلك ممكنًا لولا الجهد النصي.
ويكفي أن نذكر في هذا السياق جهود البخاري ومسلم في جمع السنة النبوية الشريفة، والمناهج العلمية الصارمة التي طبقاها، سواء في السند أو المتن، حتى جاء كتابهما على هذه الدرجة الرفيعة من الدقة وعدم الشبهة.

أما المنهج الثاني فهو المنهج العقلي، لكنه ليس العقل المنفلت من أية ضوابط، ولا العقل الحاكم على الشرع، كما يريد الغربيون وأتباعهم العلمانيون العرب، إنما هو العقل المنضبط بهدي الوحي.
فقد كان الإمام أبو حنيفة رائدًا في استخدام العقل والقياس، ومع ذلك أنتج فقهًا قيمًا، لأن عقله كان مرتبطًا بالشرع وخادمًا له.
وأهمية هذا المنهج أنه يجنبنا الانغلاق والجهل والعزلة والتكرار والتقليد، وليس منغلقا.

والمنهج الثالث هو منهج الذوقيين الذين يستخدمون منهج الخواطر والإشارات الإيمانية لبعض النصوص. وفي تاريخ المسلمين كان لهذا المنهج فوائد كبيرة، عملت على ترقيق القلب، ومحاربة الانغماس في ملذات الدنيا، حينما اعتنى به نفر من علماء المسلمين الثقات، المعتنين بجانب السلوك وأعمال القلوب، قبل أن ينفلت الأمر على أيدي غير المنضبطين منهجين أمثال ابن عربي والحلاج.
فالمنهج الذوقي مقبول إذا كان محكوما بالشرع، ويعمل على ترقيق القلوب، لكن الخطر في أن يتحلل هذا المنهج من الضوابط الشرعية.

وهذه المناهج المختلفة من التفكير كانت سائدة مع بعضها في جنبات المجتمع الإسلامي، ولا تصطدم ببعضها، لأن المجتمع كان في حاجة إليها جميعا، خاصة وأنها قامت على أسس شرعية راسخة.

شروط الإبداع

وإذا كان العلماء في تقييمهم لأي عمل إبداعي أو شخصية مبدعة يقولون بضرورة توافر عناصر أساسية في العمل الإبداعي أو الشخصية المبدعة وهي: أولاً: المرونة، التي تعني سيولة المعلومات المختزنة، وسهولة استدعائها وتنظيمها وإعادة بنائها والنظر إلى المسائل من زوايا عدّة، وثانيًا: الطلاقة، التي تعني غزارة الإنتاج، وسرعة توليد وحدات من المعلومات، كإعطاء كلمات تتفق مع معنى ما، أو تضاده، أو تربط جزءً بكل، وثالثًا: الأصالة، التي تعني التفرد بالفكرة، ولا يقصد بذلك أن تكون الفكرة منقطعة عما قبلها، ولكن صاحبها زاد فيها شيئاً، أو عرضها بطريقة جديدة، أو وصل إلى نظرية تنتظم أفكاراً متفرقة قال بها آخرون .. الخ.
ورابعًا: الفائدة، التي تعني أن يكون الشيء الجديد مفيداً للمجتمع، وخامسًا: القبول الاجتماعي، الذي يعني أن يكون الإبداع موافقاً لقيم المجتمع.
فالأفكار يجب أن تكون صالحة ومقبولة حتى تكون مفيدة، وإذا غاب هذا المعيار كانت الأفكار محتوية على جزء كبير غير مناسب، وصَرْف الجهد العقلي في معالجة هذا الجزء تضييع للوقت بلا طائل.

هذه المعايير كلها توافرت في المبدعين والموسوعيين والفقهاء والمجتهدين المسلمين، الذين قامت على جهودهم النهضة الإسلامية الكبرى.
وهذه المعايير يمتلكها قطاع غير قليل من المثقفين والعلماء المسلمين الحاليين، لكنهم فقط في حاجة إلى جهات ترعاهم، وتخطط لهم، وتستوعبهم، وتمول أنشطتهم.

هدم وبناء

وإذا كانت التربية الإسلامية تمتلك هذا الرصيد الكبير من الخبرة، فإنها مطالبة الآن بأن تقدم للأمة مناهج تفكير ملائمة للعصر، ومحققة لأعلى الشروط المنهجية والعلمية.
فيجب أولاً أن تسقط التربية الإسلامية وتستبعد مناهج التفكير السلبية، التي كانت عائقًا أمام تقدم الأمة، ومنها مناهج التفكير العاطفي والانفعالي، ومناهج التفكير التقليدي ذي القوالب الجاهزة، ومناهج التفكير المهزوم، ومناهج التفكير البسيط.
وأن تشيع مناهج التفكير الناقد، ومناهج التفكير العلمي، ومناهج التفكير الإبداعي.

فأزمات كثيرة تعرضت لها الأمة لأن قادتها فكروا بشكل عاطفي انفعالي.
وأحيانًا يتوقع العدو رد فعل قائد معين نتيجة لمعرفتهم بتاريخه، فيخططون له لاستفزازه وإجباره على اتخاذ قرار معين، وعندها تقع الواقعة، يبدأ المخطط المعد سلفًا.

أما التفكير التقليدي ذو القوالب الجاهزة، فهو نمط من التفكير السائد في عالمنا العربي والإسلامي، يتبعه بعض أهل العلم والمثقفين، فهم يرددون مقولات محفوظة حتى ولو كان لديهم أفكار أكثر أصالة، ولكنهم يخشون النقد، فيستسلمون لمناهج التفكير الموجودة، وهكذا تخسر الأمة جهود وعلم بعض أبنائها المتميزين الخائفين.

والتفكير المهزوم عقبة كبيرة في طريق نهضة الأمة، لأنه يرى أنه لا سبيل لحل مشكلاتنا إلا بما عند الغرب، وهو النموذج الذي يستخدمه العلمانيون والتغريبيون، الذين لا يثقون في أمتهم وفي إمكاناتها.

أما التفكير البسيط والساذج، فإنه يناسب الأطفال والمراهقين ولكنه لا يناسب الرجال والناهضين.

وبعد أن تسقط التربية الإسلامية مناهج التفكير السلبية، عليها أن تشيع مناهج التفكير الإيجابية التي تتسم بالتركيب والتعقد والبناء والنقد والإبداع.

فحاجتنا ماسة إلى التفكير الناقد التأملي، الذي قبل أن يصدر حكمًا أو يبدي رأيًا في موقف ما أو تجاه موضوع معين، فإنه يوضح نقاط القوة والضعف فيه، ويدلل على ذلك بأدلة وبراهين، الأمر الذي يستلزم جمع بيانات ومعلومات عن الموضوع الذي سيصدر حكمًا عليه.
وهذا النمط يحبذ تدريب الناشئين الصغار والمراهقين عليه، حتى يستطيعوا استيعاب أنماط تفكير في المستقبل أكثر تعقيدًا.
فيستحب تدريبهم على القراءة الناقدة للكتب والصحف والمجلات، وكذلك المشاهدة الناقدة للقنوات التليفزيونية.

وحاجتنا ماسة أيضًا إلى التفكير المنهجي المنظم ، الذي نستطيع من خلاله حل مشكلاتنا واتخاذ قراراتنا.
وهذا النمط من التفكير هو التفكير العلمي، وهو عكس التفكير العاطفي والانفعالي والتقليدي والبسيط، فهو يحدد الهدف، ويفترض وسائل الوصول إليه، ويختبر كفاءة كل وسيلة وكلفتها وكفاءة الناتج، ثم يختار.
لكن يشترط في التفكير العلمي أن يكون أخلاقيًا، فالتفكير الانتهازي النفعي البرجماتي تفكير علمي ولكنه غير أخلاقي، ويصطدم مع الرؤية الإسلامية.

على أن يكون هدف التربية الإسلامية هو الوصول إلى منهج التفكير الإبداعي، متعدد المستويات، والذي يعتمد على التركيب والتعقيد، والذي يظهر فيه معدن المسلم المثقف، الذي لا يقلد غيره، وإنما الذي يضيف الجديد، ويظهر الأصالة والنبوغ، كما أظهرها أجداده من قبل.