قواعد في فقه الفتن والملاحم (1)
4 جمادى الثانية 1429
انجوغو مبكي صمب

إن أول مراتب فقه الفتن والملاحم هو معرفة ما صح من أخبارها، ثم معرفة أمر الله ورسوله عند وقوعها، ومن جمع بين العلمين وعمل بمقتضاهما سلم بإذن الله من شر الفتن والبلايا مهما عظم واستطار.
و تعتبر نصوص الفتن والملاحم من أعقد النصوص الشرعية وأصعبها تأويلا وتنزيلا، وحظوظ الناس في فقهها متفاوتة جدا، ولعل ذلك يرجع إلى تعلقها بأمور غيبية لم يقع أغلبها بعد، مما جعل الناس حيالها موزعين إلى مثبتين لتلك النصوص آخذين بظواهرها، ومتأولين ومفسرين لتلك النصوص تفسيرا إشاريا لا يعززه في الغالب لغة ولا شرع، ونفاة لها ومكذبين لأخبارها.
ومن هنا تتأكد الحاجة إلى قواعد في التعامل مع نصوص الفتن والملاحم تقي كل من أخذ بها إن شاء الله من غوائل التأويل الفاسد، وتنأى به عن آثام تكذيب آيات الله تعالى ورد أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويمكن تقسيم هذه القواعد إلى قواعد علمية تتعلق بمعرفة الفتن وتمييزها وضبط أحكامها في الشريعة الإسلامية، وقواعد عملية تتعلق بطرق التعامل مع الفتن وسبل اتقائها وما إلى ذلك.
قواعد علمية نظرية في فقه الفتن والملاحم:
حفلت النصوص الشرعية بقواعد علمية تهدي الناظر في فقه الفتن والملاحم، ويستفيد المتأمل فيها الهداية والبصيرة، فيسلم إن شاء الله تعالى من شرور الفتن ونتائجها الوخيمة في الدنيا والآخرة، قال حذيفة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عوادا، فأي: قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه).
إن إدراك هذه القواعد العلمية النظرية في فقه الفتن والملاحم يكسب المسلم وخاصة الدعاة إلى الله فقها بواقعه الذي يعد مسرحا لتلك الأحداث الجسيمة، فيستشرف مستقبله على ضوء هذه القواعد.
وهذه بعض تلك القواعد العلمية النظرية في فقه الفتن والملاحم:
القاعدة الأولى: التثبت في صحة النصوص من حيث النقل:
إن الإيمان بالغيب وإن كان أساس عقيدتنا الإسلامية وأعظم خصائص التصور الإسلامي لقوله تعالى في وصف المتقين: {الذين يؤمنون بالغيب...}، فلا يعني ذلك أبدا خرافية عمياء تطفئ بصيرة المسلم وتخضعه لأساطير وأوهام تكبله عن التفكير المنطقي وتقعده عن العمل الإيجابي، ولذلك فلا بد من التأكد من صحة النصوص المخبرة عن الفتن والملاحم من حيث النقل.
أما نصوص القرآن الكريم فثبوتها مضمون ومحسوم والحمد لله، لأن القرآن محفوظ من التحريف والتبديل ومن الزيادة والنقصان، قال الله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، قال الشوكاني رحمه الله: (عن كل ما لا يليق به من تصحيف وتحريف وزيادة ونقص ونحو ذلك...) فالقرآن محفوظ في الصدور والسطور في جميع الأجيال الإسلامية، ولم ينقص منه شيء منذ أن أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. ولا يرد احتمال الثبوت أو عدمه إلا في الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أن بعضها لم يستوف شروط الصحة والثبوت لدى أهل الاصطلاح، ومن ثم لا يصح الاعتماد عليه في إثبات شيء من أخبار الفتن والملاحم، ويخشى أن يكون التساهل في التثبت في مدى صحة ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وغيره، داخلا في حكم تعمد الكذب عليه والعياذ بالله، قال صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).
أما غير الكتاب والسنة الصحيحة كالإسرائيليات، وأقوال المنجمين والكهنة، أو دراسات المحللين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين، وغير ذلك فليس من المصادر الشرعية التي يعول عليها لإثبات شيء من أخبار الفتن والملاحم.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: (لا أساس للإسرائيليات التي تحدد ما مضى وما بقي من الدنيا، كما لا يعلم مقدار ما مضى إلا الله عز وجل، والذي في كتب الإِسرائيليين وأهل الكتاب من تحديد ما سلف بألوف ومئات من السنين قد نص غير واحد من العلماء على تخبطهم فيه وتغليطهم، وهم جديرون بذلك حقيقون به وقد ورد في حديث:(الدُنْيَا جُمْعَة مِنْ جُمَع الآخِرَة) ولا يصح إسناده أيضاً، وكذا كل حديث ورد فيه تحديد وقت يوم القيوامة على التعيين لا يثبت إسناده...).
القاعدة الثانية: وجوب الاعتماد على فهم السلف الصالح في تفسير نصوص الفتن والملاحم:
كان من أهم مكونات الثقافة الإسلامية لدى الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فقه الفتن والملاحم الواردة ذكرها في القرآن والسنة، فقد حفظوا ورووا كثيرا من أخبارها، وتدارسوا معانيها فيما بينهم، وبصروا الناس بالواجب الشرعي عند حلولها.
فها هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جمع من الصحابة يتذاكر معهم الفتن ويفصلون في دقائقها، قال حذيفة رضي الله عنه: كنا جلوسا عند عمر رضي الله عنه فقال أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت أنا كما قاله، قال إنك عليه - أو عليها - لجريء قلت فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، تكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي، قال ليس هذا أريد ولكن الفتنة التي تموج كما يموج البحر، قال ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال أيكسر أم يفتح؟ قال يكسر قال إذا لا يغلق أبدا...
و الرد إلى فهم السلف الصالح رحمهم الله في تفسير نصوص الفتن والملاحم وغيرها من النصوص الشرعية يعد من جنس الرد إلى أهل الاجتهاد في المسائل المشكلة، وقد أمر الله تعالى بذلك فقال: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}.
وهناك مرجحات موضوعية لفهم السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان على فهم غيرهم، فهم الذين تلقوا العلم والإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدوا التنزيل وعرفوا التأويل، وسلمت تصوراتهم في الدين والحياة من أي تأثيرات خارجية تقضي على أصالتها الشرعية، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (من كان مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم...).
ولذلك ينبغي على من يعتني بفقه الفتن والملاحم أن يتسلح برصيد كبير مما أثر عن الصحابة والتابعين من تفسيرات وتطبيقات لها صلة بهذا الموضوع الخطير، وليتثبت في النقل وليدقق في التحليل، لأن مواقف الصحابة والتابعين من الفتن تعد من مزلات الأقدام ومضلات الأفهام، فقد كثرت في مروياتها الضعاف والموضوعات، وظهرت في ألسنة مؤرخيها التعصب والظلم وما تخفي صدورهم أكبر.
القاعدة الثالثة: ترك كل تأويل فاسد لا يشهد له شرع أو لغة:
الأصل في ألفاظ النصوص الشرعية حملها على ظواهرها ما أمكن، ولا يجوز العدول عن تلك الظواهر إلى معان أخرى مرجوحة إلا بدليل من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بشاهد من لغة العرب التي نزل بها الوحي من الله تعالى، وبلغ بها الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة ربه.
وكل ما ورد في نصوص الفتن والملاحم من الأخبار فهذا حكمه، ولا ينبغي الاشتغال بتأويلات ساذجة لمعانيها، وإن بدت غريبة في عقل السامع كسائر أخبار الغيب، وخاصة المفتونون بأهواء الحضارة المادية المعاصرة من الكتاب والمفكرين.
والتأويل المقبول شرعا كما يقول الرازي رحمه الله هو (عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر).
والتأويل الفاسد هو بريد الفتنة، قال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله...} وللأصوليين بحث فيما يدخله التأويل وما لا يدخله، ومجمل كلامهم في ذلك: أنهم أجمعوا على دخول التأويل في النصوص المتعلقة بالفروع، واختلفوا فيما تعلق بالأصول والعقائد إلى أقوال أشهرها ثلاثة:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا، بَلْ تَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا يُؤَوَّلُ شَيْءٌ مِنْهَا، وَهُمْ الْمُشَبِّهَةُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ لَهَا تَأْوِيلًا، وَلَكِنَّا نُمْسِك عَنْهُ مَعَ تَنْزِيهِ اعْتِقَادِنَا عَنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، لِقَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ، وَأَوَّلُوهَا) وأخبار الفتن والملاحم من المسائل العلمية الخبرية التي يجب الإيمان بها كما ورد في النصوص الشرعية، ولا يصار إلى تأويلها إلا بدليل من كتاب الله أو سنة رسول الله أو بشاهد من لغة العرب. فالدجال الأكبر مثلا في ضوء نصوص الشرع وفهم سلف الأمة، وعند أهل السنة والجماعة شخص (يخرج قبيل قيام الساعة في زمن المهدي وعيسى عليه السلام، وخروجه من الأشراط العظيمة المؤذنة بقيام الساعة، وفتنته من أعظم الفتن والمحن التي تمر على الناس، ويسمى مسيحا؛ لأن إحدى عينيه ممسوحة، أو لأنه يمسح الأرض في أربعين يوما، ولفظة المسيح تطلق على الصديق، وهو عيسى عليه السلام، وعلى الضليل الكذاب وهو الأعور الدجال).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم عن الدجال حديثا ما حدثه نبي قومه؟ إنه أعور، وإنه يجيء معه مثل الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة هي النار، وإني أنذرتكم به كما أنذر به نوح قومه).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بعث نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، ومكتوب بين عينيه ك. ف. ر).
وعلى الرغم من هذا كله فإن هناك فرقا أنكر وجود الدجال أو أول النصوص المخبرة بظهوره تأويلا باطلا، كما فعلت الجهمية وبعض المعتزلة قديما، وكما فعل كثير من العقلانيين المعاصرين، والله المستعان.
وعلى المذهبين في الدجال قس الأقوال في نزول المسيح عيسى بن مريم وفي ظهور المهدي عليه السلام وغير ذلك من أشراط الساعة وفتن آخر الزمان.