سلام سوري "إسرائيلي" .. تحول أم حصار استراتيجي ؟
27 جمادى الأول 1429
جمال عرفة

هل يمكن القول أن الإعلان السوري و"الإسرائيلي" الذي صدر في كل من دمشق وتل أبيب حول انخراط حكومتي العاصمتين في مباحثات سلام غير مباشرة بوساطة تركية كان "مفاجأة " ، أم أنه كان أمرا كان متوقعا خصوصا أن مباحثات سابقة جرت بالفعل بينهما علي خلفية اتفاقيات أسلو قطع فيه الطرفان شوطا كبيرا قبل توقف المفاوضات للخلاف حول خط الانسحاب ؟ والأهم لماذا الآن هذا الحرص من الطرفين علي إجراء مفاوضات سلام وتسوية صراع مستمر منذ عام أكثر من نصف قرن رغم الرفض الصهيوني لهذه المفاوضات حتي وقت قريب ومعاكسة الظروف الدولية (الحصار ) للرغبة السورية في هذا السلام؟
واقع الأمر أن هذا الإعلان عن بدء المفاوضات بشكل غير مباشر بين الطرفين ، والحديث عن بوادر إيجابية لانتقالها لمفاوضات مباشرة ، لم يكن هو المفاجأة ، ولكن المفاجأة كانت في الكشف عن أن هذه الخطوة العلنية مستمرة منذ ستة أشهر ، أما مبررات كل طرف للتعجيل بهذه المفاوضات فهو ما يحتاج لتفسير : هل هو تحول استراتيجي يسعي له الطرفان ويريان أن السلام يحقق لهما مصلحة أفضل من استمرار التوتر أم أن هناك من يرغب منهما في استهلاك الوقت واستخدام سلاح التفاوض لتحقيق مصلحة ما ؟!.
من الواضح أن الصهاينة الذين يعانون من مشكلات حقيقية فيما يخص التعامل مع ملفات المقاومة الفلسطينية واللبنانية ويستعدون مع الولايات المتحدة لمواجهة الملف النووي الإيراني، يرغبون في تحييد سوريا ضمن لعبة المصالح الإستراتيجية الصهيونية سواء عبر سلام حقيقي أو تمرير للوقت مع ضمان التهدئة مع سوريا ، ولهذا غيروا فجأة من سياسة رفض التفاوض مع سوريا التي ظلوا يرفعونها ، لقبول التفاوض والحديث عن "تنازلات مؤلمة" .
وقد دلل علي هذه المصالح بنيامين بن أليعازر وزير البني التحتية "الإسرائيلية" عندما قال صراحة أن "السلام مع سوريا سيقلب الوضع الاستراتيجي في الشرق الأوسط لأنه سيعزل إيران ويسكت حزب الله‏" .
أما الطرف السوري فهو يعاني منذ فترة طويلة من حالة من العزلة والحصار الغربي والعربي علي السواء خصوصا منذ تصاعد أزمة لبنان واضطرار الجيش السوري للانسحاب من لبنان ، وينتظر "محاكمة دولية" قريبة وقرارات دولية تشمل عقوبات ، ولذلك فهو في حاجة لمن ينتشله من هذا المستنقع ، فضلا عن أنه يدرك أن هناك خططا أمريكية غربية لضرب النووي الإيراني ، وبالتالي كان يتطلع لحبل الإنقاذ التركي المتمثل في الوساطة للتوصل لاتفاق سلام مع الصهاينة ولو لم تتوصل لاتفاق سلام حقيقي لتخفيف حدة الحصار الغربي .
أيضا الحكومة السورية تعاني من حالة ضعف غير عادية وعدم قدرة حتي علي الرد علي هجمات صهيونية كانت تتصور أنها بتنسيق صهيوني – أمريكي لجرها لحرب تستهدف تغيير النظام السوري كما جري في العراق ، وظهر هذا الضعف عندما صمتت سوريا ولم ترد أكثر من مرة علي تدمير الطائرات الصهيونية لمحطات رادارات سورية في لبنان وسوريا نفسها ، وكذلك عندما أغارت الطائرات "الإسرائيلية" علي مواقع في سوريا نفسها بحجة أنها تؤوي مقاومين فلسطينيين ، وعلي ما يقال أنه منشأة نووية قرب مدينة دير الزور في الشمال الشرقي، دون أن تعترضها طائرات أو صواريخ سورية، فضلا عن اغتيال عماد مغنية قائد الجناح العسكري لـ"حزب الله" في قلب مدينة دمشق قرب مقر المخابرات السورية دون أن تفعل سوريا شيئا ما يؤكد ضعفها عسكريا واختراقها أمنيا .
إخراج سوريا من معادلة الصراع
بعبارة أخرى ، هناك بالفعل مصالح إستراتيجية لدي الصهاينة والغرب في تحييد سوريا وربطها باتفاق سلام لإخراجها من معادلة الصراع في الشرق الأوسط كي يسهل حصار قوى المقاومة في فلسطين و"حزب الله" اللذين تحتضنهما سوريا ، إذ أن أي اتفاق سلام "إسرائيلي" مع سوريا – شأنه شأن الاتفاق السابق مع مصر – سيتضمن ذات الشروط الصهيونية (التي بدأت تل أبيب ترددها بلا خجل قبل التوصل لحل ) بخصوص فض سوريا يدها من المقاومة الفلسطينية واللبنانية وطرد قادة حماس من أراضيها ، ووقف تعاونها مع إيران .
كما أن هناك مصالح صهيونية أيضا في السلام مع سوريا لاستشعار الدولة الصهيونية أنها تمر – في ذكري مرور 60 عاما علي نشأتها – بمرحلة ضعف كبيرة وتواجه تحديات جدية من أطراف عربية (المقاومة وصواريخها) وإيرانية .
وبالمقابل هناك مصالح إستراتيجية سورية في تحقيق "السلام" واستعادة الجولان المحتل والخروج من حالة الحصار الحالية.
ولكن المشكلة والسؤال الذي يبحث عن حل ربما لن يظهر قبل مرور فترة من الوقت في التفاوض ، هي : أي من المصالح الإستراتيجية للطرفين تبدو أكثر صدقا – من ثم يمكن أن تؤدي لنجاح المفاوضات – هل هذه المصالح الصهيونية أم السورية ؟.
لو تتبعنا ردود أفعال كل طرف منذ بدء المفاوضات سنلحظ أن هناك نية صهيونية ظاهرة لتحييد سوريا وفي الوقت نفسه عدم التنازل عن الجولان المحتل (!) ، في حين أن هناك رغبة – بل وتكالب سوري – علي تحقيق هذه المصالحة التاريخية مع الدولة الصهيونية ربما لإدراك سوريا أن الظروف الدولية تبدلت ولم تعد في صالحها.
وربما عبر عن هذا التوجه السوري التصريحات التي أدلي بها وليد المعلم وزير الخارجية السوري الذي قال أن بلاده مستعدة لمفاوضات مباشرة مع الطرف "الإسرائيلي" إذا ما أحرزت مفاوضات أنقرة التي ترعاها الحكومة التركية، ورجب طيب اردوغان شخصيا، التقدم المأمول ، فيما حددت "إسرائيل" شروطها لتوقيع اتفاق سلام مع سوريا‏ بمطالبتها – علي لسان تسيبي ليفني وزيرة الخارجية "الإسرائيلية" - دمشق بأن تنأى بنفسها عن إيران‏ وأن تكف عن دعم حركة حماس‏ و"حزب الله‏".
ثمن السلام !
والسؤال الأكثر إلحاحا هنا : إذا كان الصهاينة يتحدثون عن "تنازلات مؤلمة" من جانبهم تتمثل في الانسحاب من الجولان (مع ترتيبات مؤكدة متوقعة أن تكون شبه منزوعة السلاح ) ، فما هو الثمن الذي ستدفعه سوريا بالمقابل ؟ .. الثمن حدده الصهاينة مبكرا في خلع سوريا مما يسمي محور الشر وفض تحالفها مع إيران ومع المقاومة في فلسطين ولبنان ، غير ما ستدفعه سوريا من تفريط فعلي في سيادة الجولان التي ستتسلمها – وفق التصورات الصهيونية – مليئة بمراكز الإنذار المبكر الصهيونية ومنزوعة السلاح فضلا عن اتفاقيات سلام وتطبيع سياسي واقتصادي علي غرار ما حدث مع مصر وربما يكون أكثر تفعيلا لأن الصهاينة سيتلافون نتائج "السلام البارد" مع مصر في الاتفاقيات الجديدة.
ولكن هذا لا يمنع أن كلا الطرفين يرفضان تقديم هذه التنازلات "المؤلمة" .. فسوريا تقول في تصريحات عديدة أنها لن تقبل أن تتسلم الجولان منقوصة السيادة ، والصهاينة يرفضون بدورهم إعادة الجولان ويشرعون في الكنيست تشريعات متتالية لمنع إرجاعها آخرها قانون يشترط موافقة 80 عضوا من الكنيست ( من 120 نائب) علي أي اتفاق يتعلق بإعادة الجولان لسوريا .
وهو ما دفع محللون للقول أنه ربما تكون هناك دوافع أخري لهذه المفاوضات وأن الطرفين، السوري و"الإسرائيلي"، ربما يريدان شراء الوقت، وتخفيف الضغوط التي تمارس عليهما ، حيث ترغب سوريا في كسر عزلتها العربية والدولية والتقرب من واشنطن، فيما تسعي حكومة أولمرت المهددة بفضيحة رشاوى أن تبعد الأنظار عن هذه الفضيحة ليظهر أولمرت في صورة الزعيم الذي جلب السلام للصهاينة ، خصوصا أنه لو حدث هذا فسيتبعه – وهو ما أكدته سوريا – سلام مع لبنان ، ومن ثم نزع هاجس "حزب الله" وصورايخه وتأمين الكيان الصهيوني من الجبهة الشمالية الشرقية بعد الجبهة الجنوبية (مصر) .
من يكسب ؟
ويبقي سؤال أخير : من الطرف الأكثر ربحا في هذه المفاوضات سواء نجحت أم توقفت كسابقتها ومن الأكثر خسارة ؟ .. لا شك أن الصهاينة سيربحون علي المدى القصير والبعيد بسبب الرغبة السورية الأكثر إلحاحا في التوصل لاتفاق وتقديم تنازلات لرفع الحصار عنهم ، في حين أن سوريا بالمقابل ستكون أكثر الخاسرين ، لأن توقيت التفاوض (تزايد الحصار والضغوط الغربية) ليس في صالحها ، بل ويفقدها أوراق ضغط عديدة في يدها كأوراق التحالف مع المقاومة الفلسطينية أو إيران ، وحتى لو خسرت سوريا باتفاق فسيكون علي حساب دورها الإقليمي.
بل أن هناك مخاوف من أن يكون الغرض من ورق التفاوض الحالية التي قبلتها "إسرائيل" بعد طول رفض ، هو إضعاف الطرف السوري أمام حلفائه وخلخلة تحالف المقاومة ، لأن إعلان سوريا عن مفاوضات سرية مع "إسرائيل" ربما يثير مخاوف حلفائها ويضعف مصداقيتها عند المقاومين ويضعف أطروحاتها .
وربما لهذا سعت سوريا لتطمين أنصارها ، حيث رفض الرئيس السوري بشار الأسد مطالب "إسرائيل" لأن تتخلى دمشق عن تحالفها مع إيران كشرط للتوصل لاتفاق سلام ، وأبلغ وفدا برلمانيا بريطانيا أن حكومته تعتزم الاحتفاظ "بعلاقات طبيعية" مع إيران بينما تجري محادثات غير مباشرة مع "إسرائيل" لاستعادة مرتفعات الجولان المحتلة ، كما تعمدت إيران وسوريا التوقيع علي مذكرة تعاون دفاعية في ختام زيارة قام بها وزير الدفاع السوري حسن تركماني إلى طهران تضمنت "تطوير العلاقات بينهما في مجال الدفاع" .
غموض الاتفاق السوري الصهيوني بخصوص إجراء مفاوضات سرية غير مباشرة ثم مباشرة ، سيزول بالتالي مع ظهور بوادر وتداعيات الجلسات السابقة واتضاح نية كل طرف الحقيقية وهل هناك مصالح إستراتيجية ظهرت فجأة فرضت هذا أم أن الأمر لا يعدو أن يكون لعبة لإضاعة الوقت رأي كل من الطرفين أنه سيستفيد منها ؟!