أنت هنا

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
26 جمادى الأول 1429
الشيخ فهد العيبان

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن للعلماء مقاماً رفيعاً، كيف لا وقد رفع الله شأنهم، حيث أشهدهم على أعظم مشهود فقال سبحانه: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18]، ورفع درجتهم حيث قال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة: 11]، وجعلهم أهل خشيته فقال: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28].
هذا شأنهم عند ربهم كما أخبرنا سبحانه في كتابه، وكذلك هو شأنهم في السنة حين بين النبي صلى الله عليه وسلم لنا مقامهم بقوله في الحديث المشهور عن أبي الدرداء (وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء) الحديث أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه بسند صحيح.
ومن هذا شأنهم وهذه منزلتهم يجب على الأمة أن تعرف لهم مكانتهم وأن ترفع قدرهم وتذود عن أعراضهم وأن تسمع لكلمتهم ونصحهم وفتواهم.
إن واقع الأمة اليوم وبالأخص في هذه البلاد وللأسف قد تبدل وتغير في قضية التعامل مع العلماء واحترامهم ومعرفة قدرهم ومكانتهم، حيث أصبحنا نسمع ونقرأ ونشاهد من ليس له حظ في العلم والديانة ينتهك حرمة أهل العلم ويسفه أقوالهم ويزدري آراءهم بل ويتهمهم بالإرهاب والإفساد ويطالب بمحاكمتهم وتأديبهم.
بل وحتى ذوي الجاه والمسؤولية وجد من بعضهم من لا يرفع بأقوال العلماء رأسا ولا يرى لهم حقا في إبداء الرأي أو المشورة في قضايا الأمة، وحتى فيما هو من صميم اختصاصهم وهي الفتيا وبيان الحلال والحرام ضيق عليهم وسفهوا حتى أصبحت أقوالهم وفتاواهم محل التندر والتنقص وعدم المبالاة وما أصبحت بذات القدر الذي كانت عليه فتاوى أسلافهم.
إن هذا الواقع المرير للعلماء في زماننا إنما هو من عند أنفسهم كما قال ربنا سبحانه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30].
وإن إلقاء اللوم على السفهاء والمنافقين والجهال وأنهم السبب في انتهاك مكانة العلماء إنما هو هروب من الواقع وتزكية للنفس وبعد عن حقيقة الأمر.
إن مكانة العلماء وحفظ أقدارهم لا ينتظر من الجهال والمنافقين والكافرين، فهؤلاء وأمثالهم قد تعودنا منهم الهمز واللمز والتنقص كما فعل أولياؤهم من قبل.
يجب أن نعترف بأن واقع العلماء وطلبة العلم المؤلم اليوم إنما هو نتاج أعمالهم وقصورهم وتقصيرهم في حق الله، هذا هو الحق الذي ينبغي أن لا نداري فيه ولا نغض الطرف عنه، فكما تكونوا يولى عليكم وكما تكونوا يكن الناس لكم.
يا علماء الأمة وطلبة العلم فيها كل واحد منا يجب أن ينظر في نفسه وفيمن حوله من المنتسبين للعلم ليرى ما نعايشه من فشو أنواع من التقصير بيننا، كالانكباب على الدنيا والتنافس على حطامها مع فساد ذات البين وكثرة التحاسد والتباغض والتجادل والتفرق والانتصار للنفس وكذا ضعف في التعبد والتأله وضعف في الغيرة والبذل لهذا الدين، إضافة إلى ما نلحظه من التوسع في المباحات والملذات والمشتبهات والسعي في طلب الرئاسة والمكانة عند أهل الدنيا حتى رأينا من يقتل مروءته وحياءه على أبواب السلاطين وذوي الجاه والمال.
فهل واقع علماء اليوم كعلماء الأمس إلا من رحم الله. أين أهل العلم اليوم من أولئك العلماء الربانيين الذين عرفناهم وجالسناهم وتتلمذنا عليهم من حيث تعبدهم وتألههم وخشيتهم لله ووقوفهم عند حدود الله وغيرتهم على محارم الله وبعدهم عن الدنيا وزخرفها وحفظهم لمكانة ما يحملون في صدورهم من العلم وصدعهم بالحق حتى أصبح لهم ما تعلمون من المكانة والتقدير في نفوس الخاصة والعامة وحتى غدت هيبتهم ظاهرة عند المعاندين والجاهلين بل وحتى المنافقين.
إن الناس بجميع طبقاتهم ينظرون لواقع أهل العلم ويعاملونهم من خلال ما يشاهدون ويسمعون، ولو أن علماء اليوم وطلبة العلم قاموا بواجب العلم وتزيوا بزي العلماء ظاهرا وباطنا لكان للناس حكاما ومحكومين خاصة وعامة شأن آخر أنتم تعلمون كيف هو مع بعض العلماء الذين رحلوا عنا من قريب.
يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: إخواني: اسمعوا نصيحة من قد جرب وخبر.
إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل يجلكم وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم.
ولقد رأيت والله من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه ثم تعدى الحدود فهان عند الخلق وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه وقوة مجاهدته.
ولقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته ـ مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم ـ فعظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير.
ورأيت من كان يرى الاستقامة إذا استقام فإذا زاغ مال عنه اللطف ولولا عموم الستر وشمول رحمة الكريم لا فتضح هؤلاء المذكورون غير أنه في الأغلب تأديب أو تلطف في العقاب كما قيل:
(ومن كان في سخطه محسنا *** فكيف يكون إذا ما رضي)
غير أن العدل لا يحابي وحاكم الجزاء لا يجور وما يضيع عند الأمين شيء. انتهى كلامه رحمه الله.
وقد أحسن القائل:
فإن قلت زند العلم كاب فإنما *** كبا حين لم نحرس حماه وأظلما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهونوا ودنسوا *** محياه بالأطماع حتى تجهما
ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: سيأتي على الناس زمان تملح فيه عذوبة القلوب فلا ينتفع بالعلم يومئذ عالمه ولا متعلمه فتكون قلوب علمائهم مثل السباخ من ذوات الملح ينزل عليها قطر السماء فلا يوجد لها عذوبة وذلك إذا مالت قلوب العلماء إلى حب الدنيا وإيثارها على الآخرة فعند ذلك يسلبها الله تعالى ينابيع الحكمة ويطفئ مصابيح الهدى من قلوبهم فيخبرك عالمهم حين تلقاه أنه يخشى الله بلسانه والفجور ظاهر في عمله فما أخصب الألسن يومئذ وما أجدب القلوب.
وقال كعب رحمه الله: يكون في آخر الزمان علماء يزهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون ويخوفون الناس ولا يخافون وينهون عن غشيان الولاة ويأتونهم ويؤثرون الدنيا على الآخرة يأكلون بألسنتهم يقربون الأغنياء دون الفقراء يتغايرون على العلم كما تتغاير النساء على الرجال يغضب أحدهم على جليسه إذا جالس غيره أولئك الجبارون أعداء الرحمن.
وقال الغزالي رحمه الله في الإحياء عن العلماء الربانيين: فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين لكونهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها، وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا، ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر والله المستعان على كل حال. انتهى.
وفي الختام أقول إن إعادة مكانة العلماء إلى سابق عهدها إنما يكون بإصلاح العلماء وطلبة العلم لأنفسهم وتوجيه اللوم لها قبل غيرها، فانتصار الأمة وعلو شأنها منوط بعد الله بقيام خيار الأمة بواجبهم الذي كلفوا به وصيانة العلم الذي حفظوا إياه، فإذا كان خيار الأمة وأفاضلها من أهل العلم قد غيروا وبدلوا إلا من رحم الله فإنه يخشى عليهم وقوع الاستبدال الذي توعد الله به الذين قعدوا وتولوا عن صراطه المستقيم حيث قال: (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التوبة:39]، وقال: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.