باكر بيجوفيتش لـ"المسلم": والدي ترك لدي فراغا لا يمكن ملؤه أبدا.. تعلمت منه الزهد.. اتفاق دايتون كان ضرورة
23 جمادى الأول 1429
عبد الباقي خليفة

لا يكتفي الغرب بممارسة هذه الضغوط على ما يصفهم بالراديكاليين، بل بكل من له علاقة معهم، بما في ذلك السياسيين البوسنيين، و الكوادر العسكرية، و مؤسسات الاغاثة الاسلامية في البوسنة .

هذه أول مرة يتحدث فيها باكر علي عزت بيجوفيتش نجل الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش، و نائب رئيس حزب العمل الديمقراطي في البوسنة، لوسيلة اعلام عربية، و أول مرة على الاطلاق، يتحدث فيها بهذا الاسهاب عن والده ومواقفه من قضايا البوسنة و المسلمين . وفي هذا الحوار يتحدث على عزت بيجوفيتش الابن عن والده، و ما مثله رحيله، و عن حياته في كنفه، منذ طفولته و حتى رحيله رحمه الله . كما تطرق الحديث إلى علاقة المفكر الكبير بالقرآن الكريم، و الشعائر الإسلامية الأخرى كالصلاة و الصوم التي تغفل في ( مفرداتنا ) الاعلامية، و تطرقنا لعلاقاته الاسرية، و ما إذا كان رحمه الله يتوقع سقوط يوغسلافيا السابقة، و اندلاع الحرب في البوسنة، و علاقته مع وسائل الاعلام، و كيف استقبل نبأ سقوط سريبرينتسا، وما إذا كان أجبر على توقيع اتفاقية دايتون، و هل البوسنة اليوم هي التي حلم بها علي عزت رحمه الله، ووضع الحزب بعد رحيل مؤسسه، و العلاقة مع المشيخة الاسلامية و العالم الاسلامي، وآفاق الاصلاحات الجارية، و العقبات التي تواجهها البوسنة اليوم، كما أجاب عن سؤال حول مدى استعداده لمواصلة الجهد الفكري الذي بدأه والده رحمه الله . وعن الضغوط التي تمارسها جهات داخلية و خارجية لسحب الجنسية من العرب الذين قاتلوا إلى جانب المسلمين في البوسنة .
المسلم: نشأت وتربيت في كنف رجل يحظى بتقدير كبير في العالم،و لا سيما العالم الاسلامي ماذا بقي من ذكريات عن الوالد الكبير رحمه الله، ماذا كان يمثل لك، و ماذا يعني لك رحيله.
باكر علي عزت بيجوفيتش: منذ نعومة أظافري كنت قريبا من والدي رحمه الله ، و في السنوات خمسة العشر الأخيرة من حياته، لم يفارق أحدنا الآخر، كنت ساعده الايمن، نعيش في بيت واحد، كنت ابنه، و صديقه، وكنت سعيدا بأن لي أب مثله، و كنت و لا زلت أتمنى أن يعيش أطفال العالم في كنف والد مثل والدي العزيز رحمة الله عليه . كان يمثل لي كل شئ في الحياة، القدوة، و الرمز، و المرجع في كل شئ، و قد ترك رحيله فراغا في حياتي لا يمكن ملؤه أبدا .
المسلم: ظل الوالد بعيدا عن المنزل ودخل السجن مرتين كيف عشتم تلك الظروف الصعبة ؟
باكر علي عزت بيجوفيتش: سجن والدي رحمه الله مرتين كما ذكرت، الاولى سنة 1946 م، وظل في السجن حتى 1949 م، و الثانية في سنة 1983 و حتى 1989، ولا زلت أذكر ملابسات اعتقاله في المرة الثانية، و شعرت بمرارة كبيرة، وبامتعاض شديد تجاه الديكتاتورية و الاستبداد . لقد كان والدي ضحية للنظام الشيوعي المستبد في يوغسلافيا السابقة، و الذي كان يخشى حرية التعبير والراي الآخر،ولا سيما إذا كان الآخر مسلما يؤمن بتعاليم دينه، ويعتقد بانها الحل لمشاكل العالم المختلفة . فضلا عن كونه مفكرا، و صاحب مشروع، وعلى درجة كبيرة من الاستعداد للحوار و المناظرة في مختلف القضايا السياسية و الثقافية التي تشغل بال النخب والجماهير العريضة على السواء . كان النظام الشيوعي يخشى من والدي، ومن تاثيره على المسلمين وغير المسلمين ولا سيما الشباب . وعندما أودع السجن كان يسمح للمجرمين، والقتلة و تجار المخدرات، و المتورطين في قضايا السرقة و الاغتصاب و غير ذلك بقضاء نهاية الاسبوع بين ذويهم، بينما ظل والدي طيلة فترة سجنه بين حيطان واسقف السجن في ظروف صعبة . ولم تكن معاناة والدي داخل السجن، هي التي تؤرقنا فحسب،بل الاكاذيب والبروباغندا التي تخصصت فيها الانظمة الديكتاتورية ضد الاحرار، والمناضلين من أجل الحرية وحقوق الانسان،وتحرير الشعوب من الظلم والاستبداد والطغيان .وكانت وسائل الاعلام الرسمية تصور والدي على أنه عدو للشعب و للدولة، وما إلى ذلك من تهم، تهدف لتشويه والدي، وتضليل الراي العام .
المسلم: عشت طفولتك مع علي عزت رحمه الله ما الذي كان يعلمك إياه عبر السنوات التي قضيتها معه في بيت واحد، ما هي نصائحه التي يمكن أن يستفيد منها كل أب في تربية أبنائه .ما هي الكتب التي كان ينصحك بقراءتها، وهل قرأت جميع كتبه، كيف كان يواجه الصعاب، هل عاقبك يوما ولماذا ؟
باكر علي عزت بيجوفيتش: علي عزت بيجوفيتش كان أبا رحيما، عطوفا، وذكيا في تربية أبنائه، لم يعاقبنا ولم يعنفنا أبدا، بل لا أذكر أنه زجرني، و لكنه كان جادا في ما يريده مني، و كانت كلماته واضحة بالنسبة لي، علمني كيف أحبه و أحترمه، وكنت أحب العمل الذي يحبه هو، أولا لانه يحبه، وكنت أجد سعادة في رضا أبي عن ذلك . تعلمت عنه فهم الدين، والتقاليد، و الخصوصيات . ولم أكن أقرأ كتبه فحسب، بل كنت أساعده في الكتابة، ومن ذلك كتابه "الاسلام بين الشرق والغرب "الذي طبعناه سنة 1989 خارج البوسنة، حيث كان ممنوع تداوله . وقد ساعدني في ذلك صهري ميرصاد .
المسلم: هل يمكن أن تعطينا لمحة عن الظروف السياسية و الاقتصادية و الثقافية التي رافقت نضال الوالد في المرتين اللتين أدخل فيهما السجن
باكر علي عزت بيجوفيتش: الاوضاع العامة كانت خانقة، يوغسلافيا السابقة كانت تفتقد لابسط مبادئ حقوق الانسان، الصحافة كانت بمثابة بيانات أو اعلانات سياسية، الاوضاع الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، و قبيل وفاة الرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو،وانهيار يوغسلافيا كانت صعبة للغاية، والناس كانوا ضحايا لماكينة الدعاية الشيوعية التي تصور الامور على غير حقيقتها , وكان عزاؤنا في تلك السنين العجاف، بعض المتعاطفين معنا، والمواسين لنا،من أبناء شعبنا .

المسلم: توفي رحمه الله و هو فقير لم يترك مالا سوى الكتب و التاريخ و الذكر الحسن، كيف تعلقون على ذلك
باكر علي عزت بيجوفيتش: كان يهتم بالجميع، و كان يمتلك صبرا عجيبا، و قد أخذت الحرب الكثير من أبناء شعبنا،ومن أقربائنا، والكثير من المسلمين تم نقلهم إلى المعتقلات،القرآن الكريم يؤكد "أن ليس للانسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى " وفي الحديث " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له "ووالدي رحمه الله كان كل ما يملك هو لغيره .كان يوزع كل ما يقع في يده، من قيمة جوائز،وهبات، وريع كتبه، ولم يترك في هذه الدنيا سوى ملابسه، وهكذا تعلمت منه رحمه الله حيا و ميتا، فحتى الملابس لا يمكن نقلها إلى القبر .
المسلم : كان يحب البساطة و التقشف هل يمكن أن تحدثونا عن ذلك
باكر علي عزت بيجوفيتش: كانت تلك طبيعته، لم يكن متعمدا لذلك، فهو لا يحب افتعال الأشياء، عاش كما يعيش ضعاف الحال من أبناء أمته، و قضى سنوات من عمره في السجون،أعطت مذاقا خاصا لحياته، التواضع سمة، و خصوصية نابعة من ايمانه، و حبه للتوازن بين الافكار، والمعتقدات، والسير الحياتية، و المعاملات، وفي آخر أيامه كان يكتفي بحساء، يصنع من دقيق الذرة، يسمى بالبوسنية، بورا .
المسلم: كيف كان في رمضان،هل يمكن أن تحدثونا عن علي عزت رحمه الله كيف كان يقضي الشهر الفضيل
باكر علي عزت بيجوفيتش: لم يكن يغيير برنامجه اليومي في رمضان،وعندما كبر كان يعمل 8 ساعات يوميا في مكتبه،وبعد ذلك يتفرغ للعبادة، وزيارة الاقارب و خاصة أخته، وابنته،وكان يحب حضور جميع أفراد العائلة على مائدة الافطار . كما كان يحب وجود الضيوف والمدعوين .
المسلم: علاقته بالقرآن كانت ممتازة جدا،وكان يتلوه باستمرار،وكتب عن تعاليمه،ما الذي تضيفونه كشاهد عيان
باكر علي عزت بيجوفيتش: له ورد يومي يقرأه باستمرار، وفي رمضان يستغرق منه ذلك وقتا طويلا، وهو لا يحب القراءة السريعة، بل التدبر و محاولة استخلاص الدروس، والبحث عن الحلول،فهو كتاب لتسيير الحياة البشرية،وكثيرا ما كان يستعين بورق و قلم لتسجيل التعليقات على ما يقرأه،وبرز ذلك في كتاباته، و أحاديثه، ومواقفه .
المسلم: كان رحمه الله لا يتأخر عن الصلاة، ولا سيما صلاة الجمعة كيف كان يستعد لذلك، وما الذي كان يقوم به في حالة كان له اجتماع مع مسؤولين دوليين، وما صحة تركه أحد الاجتماعات لصلاة الجمعة .
باكر علي عزت بيجوفيتش: أنا أحب تأكيد ذلك، ولكني أكون قد جانبت الحقيقة . فقد كان يدرك صلاة الجمعة أحيانا في الخطبة الثانية،عندما يكون له أعمال كثيرة، ولكنه لم يتأخر أبدا عن الصلاة . ولم يطلب منه أي أحد عقد اجتماع في وقت صلاة الجمعة، فالجميع يعرفون من هو علي عزت بيجوفيتش، بما في ذلك الأجانب . فهم يعلمون مدى تدينه،فقد ناضل من أجل حرية العبادة وحرية التدين، ولا يمكن لامثاله أن يخجل،أو يغض الطرف عن واجب ديني، أو يجامل على حسابه،وفرض احترامه على الجميع في هذا الخصوص . الصلاة كما يفهمها علي عزت هي مناجاة الله، و الحبل المتين الموصول بالله، في حضرة الله .
المسلم: كان رحمه الله مهتما بشؤون المسلمين في العالم، وكان ينتقد اتجاهين الجمود والخروج عن الاسلام هل يمكن شرح موقفه أكثر
باكر علي عزت بيجوفيتش: يعتقد أن التغيرات الايجابية في الامة الاسلامية يجب أن يسبقها التسليم بحقائق مرة، حول واقعنا الاجتماعي، والسياسي، ومن ذلك وقف اضطهاد المرأة باسم القوامة، أو السلطة السياسية، وفق أجندة خادمة للاستخراب الاجنبي، ووقف طاعة الطغاة والديكتاتوريين . ويعتقد بأن الطريق للخروج من حالة الدونية، حيال الغرب، طويل وشاق، وتتطلب عقوداً من التثقيف، وجهوداً مضنية حتى يتم ردم هذه الهوة، ولا توجد لذلك طرق مختصرة . كما يعتقد بأن تجربة ما يسمى بالاستقلال في الدول الاسلامية، لم تساهم بشكل فعال، في تحقيق التقدم المامول، فلا يمكن عن طريق الخداع والتضليل، والاستبداد وضرب الهوية، واستخدام القمع والقوة البوليسية والعسكرية، اللحاق بذلك الجزء من العالم الذي يعمل ويتطور منذ مئات السنين بتفعيل قيمة الحرية على نطاق واسع . والقرآن الكريم ينص على سنن التغيير، وعلى العمل، وأن الله لن يضيع أعمال من يريد الاصلاح .
المسلم: كيف كانت علاقة الوالد رحمه الله بوسائل الاعلام
باكر علي عزت بيجوفيتش: في البوسنة ظلت وسائل الاعلام تكتب ما يأمر به النظام الشيوعي، و عندما منح البعض الحرية، لم يرغب في التغيير، وراح يهاجم الجميع، وكل أحد . وبدأ في هدم ما ينبغي هدمه، وما لا ينبغي المساس به . يركض في كل اتجاه على غير هدى، ويعمل على تضليل الشعب كما كان يفعل في الماضي، مثل هذا الاعلام مثير للشفقة، في نظر علي عزت رحمه الله . و رغم تطاول هذا البعض عليه أثناء الحرب و بعدها، إلا أنه لم يتخذ أي اجراء بخصوصه، وظل الاعلام حرا في ظل حكمه . وكان يرسل بالردود أحيانا راجيا من أصحاب تلك الوسائل نشرها . و أنت قلت ذلك في مجلة المجتمع .
المسلم: هل كان رحمه الله يتوقع سقوط يوغسلافيا، هل همس لك يوما بذلك
باكر علي عزت بيجوفيتش: في نهاية 1980 قال علي عزت و كتب أن المسلمين من مصلحتهم بقاء يوغسلافيا، لأنهم يعيشون في أجزاء متفرقة من حدودها و ربع البوشناق يعيشون خارج البوسنة، لم يكن بمقدورنا إنقاذ يوغسلافيا، و لكننا دافعنا الغالي و النفيس من أجل منع تقسيم البوسنة .
المسلم: هل كان يتوقع حصول حرب في البوسنة
باكر علي عزت بيجوفيتش: لم يكن يرغب في حصول الحرب، و لكن كان يطالب بالاستعداد لها إذا اندلعت، و قد بدأت الحرب في سنة 1992، و لكن جيش الدفاع بدا الاعداد له في يونيو 1991
المسلم: عاصرت فترة تأسيس حزب العمل الديمقراطي سنة 1990 ماذا عن تلك الفترة و هل كان متحمسا لتأسيس الحزب
باكر علي عزت بيجوفيتش: تاريخ البلقان ملطخ بالدماء، وكما قال علي عزت، الامة الاضعف، والاقل عددا، والأقل تسليحا هم المسلمون في هذه المنطقة . وجاء تأسيس حزب العمل الديمقراطي لتنظيم المسلمين، وجمع كلمتهم،والمحافظة على هويتهم الروحية المتمثلة في الاسلام، والمكانية لوجودهم في قلب أوربا . وقد حقق الحزب انجازات على هذا الصعيد، منها الخروج من الحرب بأقل السيناريوهات فظاعة، لأن البديل كان إبادة جميع المسلمين،أو تهجيرهم، وتقسيم البوسنة . لقد كان تأسيس الحزب، يعتمد على معطيين، الغرب والشرق،أو البعدين المكاني والروحي، وأعتقد بأن الحزب حقق انجازات كبيرة على الصعيدين، بين المسلمين و بقية البوسنيين، و تجسد ذلك أثناء الحرب و بعدها .
المسلم: هل كان لتأسيس الحزب دور في تنظيم الدفاع عن البوسنة سنة 1992
باكر علي عزت بيجوفيتش: بالتأكيد، كان لتأسيس الحزب دور محوري في الدفاع عن البوسنة، الطلائع الاولى من المقاتلين، الذين واجهوا حملات الابادة، كانوا أعضاء الحزب، قبل تأسيس الجيش البوسني في 15 أبريل 1992 . ومع الفارق في الاعداد و التسليح واجه الجيش البوسني من سنة 1992 وحتى 1994 الجيش اليوغسلافي المدجج بالسلاح حتى أسنانه ( مثل بوسني ) و في سنة 1993 فتح الكروات ضدنا جبهة جديدة و كنا نقاتل على جبهتين ( في 1994 زعم الجيش اليوغسلافي أنه خرج من البوسنة،وأن الحرب بين صرب و بوشناق البلاد، لكن الحقيقة أن عددا كبيرا من أفراد ذلك الجيش بقي مع صرب البوسنة تدعمهم الآليات المختلفة ) وقد اتفق الصرب والكروات على تقسيم البوسنة . وفي السنة الاخيرة للحرب، أصبح جيشنا قويا نسبيا و تمكن من استرجاع مساحات شاسعة من الارض، وبدأ في عملية التحرير . لقد حقق شعب مسلم صغير أعزل من السلاح، وفقير، لا يملك المال، وليس لديه خبرة في التنظيم،من الحفاظ على كيانه و بقائه في وطنه، في مواجهة غير متكافئة مع أعدائه . وبنى رغم كل التضحيات دولة، وأقام جيشا، وانتصر لانه استعصى على الفناء و التلاشي من الوطن و الذاكرة .
المسلم : هل كان بالامكان تجنب الحرب أم أن الصرب و بعد ذلك الكروات بيتوا نية العدوان
باكر علي عزت بيجوفيتش : عند سقوط يوغسلافيا، اعتقد الصرب والكروات أن المسلمين سيكونون سعداء، إذا بقوا على قيد الحياة، بقطع النظر عن مسح البوسنة من الخارطة، وتقسيمها بمسلميها بين الطرفين، و لكن التاريخ والوقائع أثبتا أن تلك الاعتقادات كانت خاطئة .
المسلم: كيف كان علي عزت رحمه الله يواجه أخبار الحرب و لا سيما في الايام و الشهور الاولى منها
باكر علي عزت بيجوفيتش: في الشهور الاولى للحرب ارتكب الصرب أبشع الجرائم و أفظعها لدفع المسلمين للهجرة والهروب، تمهيدا لتقسيم البوسنة، أو احتلالها بالكامل ، وتم في ذلك الحين تدمير ما يزيد عن ألف جامع، ولم نكن متأكدين مما ستؤول إليه الحال، لكن ثقتنا بالله كانت كبيرة . و ايماننا بأهمية بقاء البوسنة لحياة أفضل لشعبنا وللاجيال القادمة، يخفف من آلام جراحنا . وفي المائة يوم الاولى للحرب، كنا و كأننا نعيش يوما واحدا، بدون حدود فاصلة، فلم يكن هناك اعتبار لليل أو نهار أو صباح أو مساء . لم نكن ننام كما ينام الناس في العادة . كانت مأساة شعبنا تقض مضاجعنا، رغم أننا في القلب منها . لم نكن في الفنادق، أو الخارج بل في وسط المعمعة . كانت آثار الاخبار تبدو على وجه علي عزت بيجوفيتش، لكنه لم يفقد أبدا رباطة جاشه . و كانت المسألة حياة أو موت، فما ستفقده في السلم، لا يمكن التراجع عن خوض حرب من أجله لقلب المعادلة، حتى و إن كانت نسبة النجاح فيها قليلة، لا سيما و أن النتيجة واحدة . فلو التقى رجل ضعيف وآخر قوي، و بدأ للاول أن الثاني قاتله، فأي الخيارين أفضل، المقاومة أو الاستسلام للموت . وكان ردنا واضحا .
المسلم: ما الذي شعرت به عندما سمعت باحتجازه في المطار سنة 1992
باكر علي عزت بيجوفيتش: شعرت بالصدمة في أول وهلة، وتملكني قلق شديد على مصير الوالد، ولكني تمالكت نفسي وقمت من المكتب، توجهت إلى مقر الرئاسة تحت وابل القصف الذي كانت تتعرض له سراييفو في ذلك الحين، وبقيت هناك طوال الليل، واليوم الموالي، وضغطت على المسؤولين لاجراء محادثات مع قائد القوات اليوغسلافية في ذلك الحين حيث لم يستبدل الاسم بعد بصربيا والجبل الاسود، يتم بموجبها رفع الحصار عن مقر القيادة العسكرية للجيش اليوغسلافي الذي كان المقاتلون البوشناق محيطين به، مقابل الافراج عن الرئيس علي عزت بيجوفيتش . و قد قمت بالاتصال شخصيا بقائد الجيش و تم حل القضية على هذا الأساس
المسلم: لم تكن تعجبه الكثير من المواقف الدولية ما هي المواقف التي حزت في نفسه أكثر و أشعرته بالغضب
باكر علي عزت بيجوفيتش: الجهات التي تقصدها، كانت وضعت البوسنيين المسلمين في اختبار، هل هم مستعدون لدفع ضريبة الحرية، أم سيخضعون للقوة، هل هم مستعدون للمعاناة، و مواجهة البرد والجوع، و نقص الاموال والعدة و العتاد، والحظر الدولي على شراء و امتلاك السلاح، للدفاع عن أنفسهم و ثقافتهم ووطنهم، أم سيستسلمون للامر الواقع، و كانت هذه الأطراف مستعدة لحل القضية البوسنية على حساب الطرف الاضعف، الذي هو نحن البوسنيون المسلمون . على حساب الحق والعدالة، والمبادئ التي كانوا ينادون بها و البيانات و الاعلانات العالمية للامم المتحدة في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية . ولكننا أكدنا على أن البوسنيين المسلمين لم يكونوا ضعفاء، لأنهم لم يستسلموا لضعفهم و قوة أعدائهم . والحقيقة أن وقفة شعبنا وقيادتنا البطولية وتضحايتنا هي التي أكسبتنا تعاطف الراي العام العالمي . لقد حولنا ضعفنا و تضحياتنا إلى قوة لنا، وحرمنا الاعداء من جعلها مكاسب لهم . وهذا ما كان والدي يعتقده .
المسلم: كيف استقبل نبأ سقوط سريبرينتسا سنة 1995
باكر علي عزت بيجوفيتش: كانت مأساة كبيرة، لم يصدق أن سريبرينتسا سقطت في البداية، تمنى أن الاخبار التي تحدثت عن آلاف القتلى ليس صحيحا، و كان لما جرى في سريبرينتسا تأثير كبير على صحته و حياته كلها
المسلم: كيف كان يتلقى نبأ الانتصارات التي حققها الجيش البوسني في وسط و شمال غرب البوسنة بيهاتش وسانسكي موست و غيرها
باكر علي عزت بيجوفيتش: كانت أنباء الانتصارات التي أعقبت فاجعة سريبرينتسا، تعيد إليه الروح، وكان يردد إنه بدون عون الله لا يمكن فعل شئ، ولا يمكننا أن نخاف من أي قوة أخرى، وأن ما يصيبنا مكتوب علينا، وعلينا مواجهته بما يمليه علينا فقه الحياة في القرآن الكريم . كان يؤكد بأنه لا يجب علينا الخوف من الأعداء، لأن كل ما في امكانهم فعله فعلوه، ورغم ذلك بقينا على قيد الحياة، ونواصل محاربة مشروعهم .
المسلم: هل أجبر علي عزت على توقيع اتفاقية دايتون، وهل كان سيوقع يوم 21 نوفمبر 1995 لو كان على اطلاع بما كان يجري في ميدان المعركة من تقدم نحو بنيالوكا . وهل تحققت استشرافات علي عزت رحمه الله " كرواتيا ديمقراطية و صربيا ضعيفة " مع مطالبة كوسوفا والجبل الاسود بالاستقلال إضافة لمشاكل صربيا الداخلية و مشاكلها مع المجتمع الدولي .
باكر علي عزت بيجوفيتش: علي عزت بيجوفيتش رحمه الله، كان القائد الأعلى للجيش البوسني، وكان يزور الوحدات العسكرية في مختلف المناطق، وفي جميع الظروف، وفي نهاية الحرب،حقق الجيش البوسني انتصارا مذهلا، تعرض بعدها لتهديدات من حلف شمال الأطلسي إن لم يوقف زحفه،كما تخلى عنا الحلفاء الكروات في نهاية المطاف، والحقيقة إننا لم نستطع تحرير بنيالوكا في وقت قياسي، وكنا في حاجة لبضعة أيام، وبقطع النظر عما يقال اليوم، فإن قطع امدادات السلاح عبر كرواتيا بضغط من الولايات المتحدة، أثر بشكل مباشر على قراراتنا، وقد استطاع جيشنا بعون الله أن يمنع حصول إبادة أكبر، ومنع طرد المسلمين من البوسنة،أما الآخرون فقد عمدوا لمنعنا من تحقيق الانتصار العسكري . اتفاقية دايتون كان يجب أن توقع بناءا على المعطيات السابقة، لاننا لم نرد أن نستنفذ طاقات شعبنا الصغير ة الشجاع .
المسلم: هل البوسنة اليوم تلك التي حلم بها علي عزت رحمه الله، وكيف تعلقون على حقيقة " لو لم يكن علي عزت لما كانت البوسنة " ثم التعليق على تعلق علي عزت رحمه الله بعد الحرب بمسألة المصالحة رغم ما جرى من إبادة بحق المسلمين و كان يبحث عن نقاط التقاء مع الصرب و الكروات تحدث عن توحيد الفقر الذي يجمع الجميع و طالب وسائل الاعلام بالحديث عن النماذج التي تجمع مختلف الاطراف في وطن للجميع .
باكر علي عزت بيجوفيتش: شعبنا يحب و يثق في علي عزت بيجوفيتش، وكان موحدا، ومستعدا للتضحية للدفاع عن البوسنة في ظل قيادته . ولو لم يكن لدينا شخصية في مقام علي عزت بيجوفيتش، في تلك الظروف الصعبة، لتم تقسيم البوسنة بين الصرب و الكروات، كما حدث في الحرب العالمية الثانية، ولكانت المذابح أشد وأفظع، وربما تم تهجير المسلمين البوشناق بالجملة . ولو لم يكن شخص في مقام علي عزت بيجوفيتش، لما كانت البوسنة،هذا صحيح . كان والدي يلقى الاحترام ليس من قبل البوشناق المسلمين فحسب، بل من عدد كبير من الصرب و الكروات، ونحن نعتقد أن هناك أناسا جيدين يمكننا التعايش معهم . فمنذ ألف عام و البوسنة متعددة الاعراق و المذاهب، منها 990 سنة سلام، و 10 سنوات فقط جرت فيها حروب من قبل جيوش شرقية وغربية، واضطر البوسنيون لمحاربة بعضهم البعض . في البوسنة توجد المساجد والكنائس والبيع، ويجب أن تتنافس في الخير، وتتعاون في السلام، فالقرآن يقول " يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم " . وقد عمل والدي رحمه الله، على جعل البوسنة دولة موحدة، بحقوق متساوية بين المواطنين، وهناك تحسن يسير باضطراد في هذا الاتجاه، الشباب المسلم يعود لدينه، وهناك مظاهر سلبية ككل مجتمع،ولا سيما في أوربا،ولكننا في كل الاحوال قادرون على محاربة الشرور السياسية منها و الاجتماعية .
المسلم: كيف تقومون حال الحزب الآن بعد رحيل مؤسسه،وهل تم التغلب على الخلافات البسيطة التي ظهرت قبل انتخابات رئيس الحزب و نوابه في نهاية العام الماضي 2005
باكر علي عزت بيجوفيتش: الحزب لا يزال قويا، ولكن المواقف الفردية لبعض الاعضاء كانت وستبقى، لكنها لن تؤثر على المسيرة العامة و أهداف الحزب .
المسلم: العلاقة مع المشيخة الاسلامية كانت أفضل في عهد الرئيس الراحل رحمه الله ما سبب البرود في علاقة المشيخة مع الحزب و الدولة .
باكر علي عزت بيجوفيتش: عندما تعرضت البوسنة للعدوان، وشعبنا للابادة و المساجد للقصف و الاعتداء، كنا سياسيين، وعسكريين، ورموز دينية في بوتقة واحدة، للدفاع عن البوسنة والاسلام في هذه البقعة من الارض، وعندما انتهى القتال، عاد كل إلى وضعه الطبيعي، السياسيون في الاحزاب والبرلمان، والجيش إلى الثكنات، والدعاة إلى المساجد، ومن أراد ممارسة حق المواطنة بالترشح للانتخابات فله ذلك، وهناك من أئمة المساجد من رشح نفسه، وهو الآن عضو في البرلمان . ولا أشعر شخصيا بأن هناك برودا في العلاقات، ولي شخصيا علاقات قوية مع رئيس العلماء الدكتور مصطفى تسيريتش، ولا أعتقد أننا في غنى عن الدعاة والائمة فنحن نصلي خلفهم، ونسمع لكلامهم فيما يخص الشؤون السياسية عبر خطب الجمعة وغير ذلك .
المسلم: هل تعتقدون أن سريبرينتسا تحظى بما يجب من الاهتمام بعد 10 سنوات من النكبة
باكر علي عزت بيجوفيتش: سريبرينتسا هو جرحنا الذي سيبقى مفتوحا في العهود القادمة، و إلى حد الآن لم يتم اعتقال كبار المجرمين، الذين كانوا وراء تلك الكارثة، ومعظم أهالي سريبرينتسا اليوم من النساء و الاطفال، و نحن نعمل قدر المستطاع على مساعدتهم للعيش بسلام في سريبرينتسا .
المسلم: كيف تصفون علاقة البوسنة مع العالم الاسلامي اليوم – مع أوربا و الولايات المتحدة و الجوار
باكر علي عزت بيجوفيتش: نحن بلد صغير، يقع على مفترق طرق بين الشرق و الغرب، تتغير فيه الانظمة و الجيوش، و حتى الايديولوجيات باستمرار، ووالدي كان يردد " حتى تحافظوا على وجودكم المادي و الروحي، يجب أن تكونوا مرنين، المتخشبون يتعبون و ينكسرون، و يجهدون " و " اسلامنا وسطي و مرن و في نفس الوقت مقاوم، إذا ما تعرض لمحاولة الاجتثاث أو الاجهاز عليه " البوسنة الصغيرة، كبيرة بانتماءاتها المتعددة، نحن جزء من أوربا، كما نحن جزء من أمة الاسلام، و أتمنى أن يكون المسلمون في العالم من القوة، و التقدم ما يجعل كل العالم يقدر لهم حسابا
المسلم: ماذا عن اصلاح الشرطة و هل تعتقدون بأن الصرب سيوافقون على تكوين شرطة موحدة و معارضتهم فقط لتحقيق المزيد من المكاسب، و هل أنتم راضون عن الطريقة التي تم بها اصلاح الجيش و ماذا عن اصلاح الدستور
باكر علي عزت بيجوفيتش: عملية توحيد الشرطة، حسب ما اتفقنا عليه، ستأخذ وقتا، قد يستمر ثلاث سنوات، ولكن دعنا نتحدث عن الفترة الماضية، من واقع وجود شرطتين في البلاد، حيث أن الشرطة الصربية، لم تقم بحماية المهجرين العائدين لديارهم، بالمقابل كانت تحمي المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وفي الفترة بين 1996 و 2004، لم تعتقل الشرطة الصربية أي متهم صربي بارتكاب جرائم حرب، ولم تعتقل أي المتهمين بقتل العائدين من الكروات و البوشناق لديارهم التي أجبروا على مغادرتها أثناء العدوان، ويبلغ عددهم نحو 100 ضحية . و لذلك فإن توحيد الشرطة ضروري جدا، لوقف اللامهنية في مناطق الحكم الاداري الذي يهيمن عليه الصرب . وهناك ضغوط دولية تمارس على صرب البوسنة في هذا الخصوص . وتعتبر الجهات الاوروبية و الاميركية، هذه الاشكاليات " أخاديد سوداء " تهدد الامن في أوربا .
أما توحيد الجيش، فنحن لسنا راضين 100 في المائة، ولكن توحيد المؤسسات في الدولة ضروري و يجب أن يتم، وهي خطوات كبيرة على طريق بناء دولة طبيعية . ومن ذلك اصلاح الدستور .
المسلم: هل صحيح أن هناك عقبات تعترض الاستثمارات الاسلامية مثل مشروع الامير الوليد بن طلال و المغازة العامة " السوبر الماركت " التابعة لبنك البوسنة الدولي و غيرها
باكر علي عزت بيجوفيتش: مشروع الوليد بن طلال، بناء فندق من خمسة نجوم في مكان ثكنة قديمة لن يتم بسبب قرار البعثة الدولية الذي منع المؤسسات العسكرية مؤقتا . أما قضية السوبر ماركت فهو في طريقه للحل .
المسلم: ما هي المشاكل التي تعاني منها البوسنة اليوم كالبطالة و عودة المهجرين و الالغام
باكر علي عزت بيجوفيتش: معاقبة المسؤولين عن الابادة، واعتقال المتهمين بارتكاب جرائم حرب، ودفع خسائر الحرب، حتى لا تتكرر نفس الجريمة فوق أراضي البوسنة في المستقبل، و حتى يمكن الحديث عن المصالحة و التعايش في المنطقة . و لذلك نحن رفضنا التنازل عن شكوى البوسنة ضد يوغسلافيا ( صربيا و الجبل الاسود ) فهذا من حق الضحايا، أو من حق التاريخ و الاجيال القادمة ثانيا . و من حق الحقيقة أولا و أخيرا .
المسلم: في المؤتمر الاخير للحزب تبنيتم مبدأ ضم صرب و كروات إلى الحزب أي فتح الحزب لعضوية غير البوشناق ماذا عن دخول البوشناق للاحزاب الصربية و الكرواتية
باكر علي عزت بيجوفيتش: حزب العمل الديمقراطي، لا ينبغي أن ينظر إليه كحزب مثل بقية الاحزاب القومية الصربية و الكرواتية، الذين تسببوا في مشاكل كبيرة للبوسنة، و يحاولون تقسيم السكان على أساس عرقي، و نحن البوشناق، و حزب العمل، ليس لدينا دولة بديلة مثل الصرب و الكروات، بلدنا البوسنة، و بديلنا البوسنة، و لا بد من تحقيق انجاز في البوسنة، و هذا الانجاز يجب أن يشترك فيه الصرب و الكروات، و لذلك فتحنا باب الانتساب للحزب أمام مواطنينا على مختلف انتماءاتهم العرقية .
المسلم: هل ستتولون منصبا كبيرا في الدولة في المرحلة القادمة
باكر علي عزت بيجوفيتش: سيكون ذلك، حسب رغبة شعبنا، لأن هناك مطالبات بذلك، و لكني لن اترشح لمنصب الرئيس، أور رئيس الوزراء
المسلم: قال حارث سيلاجيتش في مقابلة مع صحيفة دنيفني افاز المقاتلون العرب جاؤوا في ظروف غير طبيعية ما هو تقييمكم لوجود المقاتلين العرب، و لدورهم و ما يقال من أنهم وراء المحاكمات التي تجري لعدد من الكوادر العسكرية البوسنية . و الحملة التي تعرضت لها المؤسسات الاغاثية الاسلامية في البوسنة . و موضوع الجنسية البوسنية التي حصلوا عليها، التي يثار دائما جدل حولها .
باكر علي عزت بيجوفيتش: الغرب يخاف ممما يصفهم بالراديكاليين، و المقاتلين المسلمين، و لذلك يمارس ضغوطا لابعادهم من البوسنة . و لا يكتفي الغرب بممارسة هذه الضغوط على ما يصفهم بالراديكاليين، بل بكل من له علاقة معهم، بما في ذلك السياسيين البوسنيين، والكوادر العسكرية، ومؤسسات الاغاثة الاسلامية في البوسنة .