البوسنة بين ثلاث رؤى
23 جمادى الأول 1429
عبد الباقي خليفة

أقدم كروات نهاية شهر أبريل على حرق العلم البوسني في منطقة "فيتز"Vitez وسط البوسنة ولم يمض على رفعه سوى ساعات ،بعد 15 عاما من الغياب عن تلك المنطقة التي تسكنها أغلبية كرواتية ، وقد ألقت الشرطة القبض على بعض الجناة فيما لاذ آخرون بالفرار إلى دولة كرواتيا المجاورة .فيما ألقت هذه الحادثة بظلالها على واقع التعدد الاثني والديني والسياسي في البوسنة . والتي تسعى لتخطي جراحات الماضي وتتوق للانضمام للاتحاد الاوروبي ،حيث ينتظر أن توقع معاهدة الاستقرار والتقارب مع الاتحاد في 26 من الشهر القادم .ومع التقدم البطئ في تحقيق السلام والاستقرار الدائمين في البوسنة ومنطقة البلقان ،ورغم إدراك المجتمع الدولي لأهمية اندماج البوسنة في الاتحاد الاوروبي وحلف شمال الأطلسي ، إلا أن تلك المسيرة لا تتم بشكل سلس وبوتيرة أسرع تقتضيها الظروف الجيوسياسية الداخلية والمحيطة .
ومحنة البوسنة وقدرها يتمثلان في كونها وسط تجمعين إثنيين يمتدان إلى داخلها وهما الصرب والكروات الذين عملوا في سنة 1992 على تقسيمها وانهاء وجودها،وأدى ذلك للحرب الدموية التي استمرت لمدة 4 سنوات 1992/1995 وانتهت بأرقام كارثية على مستوى الخسائر البشرية ودمار البنية التحتية ،وقبل ذلك العلاقات الاجتماعية التي كانت قائمة بين مفرداتها الاثنية الثلاثة ،البوشناق والصرب والكروات .
وتتنازع الطوائف الثلاث في البوسنة رؤى ثلاث ، يرى البوشناق ، 54 في المائة ، من عديد السكان البالغ نحو 5 ملايين نسمة ، أن البوسنة يجب أن تكون دولة مركزية لها جيش واحد وشرطة واحدة ورئيس واحد ، وأن تكون دولة مدنية لكل الطوائف ، وأن تكون المواطنة هي المعيار التي تقاس به حقوق الناس داخل حدود الدولة . ويرى الكروات بأن البوسنة يجب أن تتحول إلى دولة فيدرالية تتكون من ثلاث كيانات بعدد الطوائف التي فيها ، ويعتبرون أن الفيدرالية القائمة بينهم وبين البوشناق وفق اتفاقية واشنطن سنة 1994 والتي تم تثبيتها في في اتفاقية دايتون ، لا تعطي للكروات حقوق متساوية مع الطائفتين البوشناقية والصربية في البوسنة .
وكان عضو مجلس الرئاسة البوسني الدكتور حارث سيلاجيتش ، قد أكد في حوار سابق على أهمية قيام دولة ديمقراطية في البوسنة ، تحتضن جميع أبنائها بقطع النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية . ودعا المجتمع الدولي للمساعدة في قيام دولة أوروبية تقاس فيها الأمور بنفس المعاييرفي دول القارة .
ورغم انتهاء الحرب وتوقيع اتفاقية دايتون في 21 نوفمبر 1995 إلا أن نزعات الانفصال أوما عبرعنه عضو مجلس الرئاسة البوسني حارث سيلاجيتش ب "مشروع ميلوشيفيتش " لدى الصرب ظلت حية . كما أن مشروع قيام كيان ثالث للكروت في البوسنة ،والذين أقاموا جمهورية خاصة بهم أثناء الحرب ،سنة 1993 سموها ،هرسك بوسنة ، بقي تحت الرماد وسط غابة بلقانية في صيف ملتهب .
ويعتقد الكروات بأن البوسنة مقسمة في الوقت الحاضر وفق ما صرح به العضو الكروتي في مجلس الشعوب ايفوميرويوسيتش من أن " البوسنة مقسمة " حاليا . وأن الفيدرالية مقبرة للكروات .ويؤيد الصرب ،32 في المائة ،قيام كيان ثالث للكروات ،ويجددون تأكيدهم على ذلك كلما شعروا بأن المكاسب التي حققوها في دايتون ستعصف بها الاصلاحات التي يطالب بها الاتحاد الاوروبي .
وهناك أمران يثيران نزعات الصرب للانفصال في البوسنة ،هما قضية الاصلاحات الدستورية والتي تشمل قطاع الشرطة ، واستقلال كوسوفا .وهم لا يتوقفون عن جس نبض المجمتع الدولي في كل مناسبة تثار فيها قضية الاصلاحات ،فيجددون بدورهم رغبتهم في الانفصال أوالنسج على منوال ألبان كوسوفا . وإن كانت نزعة الاستقلال قد وضع أمامها خطا أحمر من قبل البوشناق والمجتمع الدولي، فإن مطلب الاصلاحات أبقى مجالا للصرب للضرب على وتر الانفصال "الابقاء على اتفاقية دايتون أو انتهاء البوسنة " كما صرح بذلك أكثر من مسؤول صربي داخل البوسنة كرئيس لوزراء ميلوراد دوديك ،أوخارجها لا سيما في بلغراد . ومع ذلك تمكن المجتمع الدولي من توحيد الجيش ، لكنه لم يتمكن من توحيد الشرطة بالصيغة التي كانت مقترحة في السابق ، واستطاع الصرب الابقاء على شرطتهم رغم التغييرات غير الجوهرية التي طرأت عليها ،نظرا لحساسية الموقف بعد استقلال كوسوفا ،والذي جاء على حساب البوسنة أو قل البوشناق المسلمين فيها ،وبكل المقاييس .
المجتمع الدولي بدوره يدرك أن بقاء الامتيازت الصربية في البوسنة ، وتحقيق مطالب الكروت بامتيازات مماثلة يعني في المحصلة النهائية تقسيم البوسنة . وهو ما حذر منه السفير الاميركي الاسبق لدى الامم المتحدة ومهندس اتفاقية دايتون ريتشارد هلبروك . كما حذر منه السفير الاميركي في البوسنة ، تشارلز انجلش ،وهو أن استمرار مطالبة كروات البوسنة باقامة كيان ثالث خاص بهم يعتبر إحياءا لمساعي قديمة تهدف لتقسيم البوسنة .كما حدث في اتفاقات بين الرئيسين الصربي والكرواتي الهالكين سلوبودان ميلوشيفيتش وفرانيو توجمان .وقال انجلش، أثناء زيارته لكلية العلوم السياسية في سراييفو أن "البوسنة يجب أن تظل دولة موحدة تتمتع فيها مكوناتها الاثنينة بالحكمة "وتابع" الكروات يريدون كيانا ثالثا ،هذ يعني تقسيم البوسنة ،وهو مالن يحدث أبدا "كما شدد السفير الاميركي على أن "صرب البوسنة بدورهم يجب أن ينظروا لمستقبلهم داخل البوسنة وليس خارجها ،وأي محاولة للانفصال غير مقبولة لانها تنطوي على أخطار يعرفها الجميع " وقال السفير الاميركي " بكل وضوح ، لن يكون هناك انفصال عن البوسنة ولن يكون هناك كيان ثالث للكروات ولا يمكن للصرب الاندماج في الاتحاد الاوروبي إلا في إطار البوسنة الموحدة "كما وجه انجلس حديثه للبوشناق البوسنيين "لا يمكنكم المساح للماضي ( فترة الحرب والمخاوف من تكرارها ) بأن يحدد سياستكم ،أو رؤيتكم للاصلاح ، وإذا أردتم التقدم للامام فيجب أن يكون هناك ثقة في شركائكم لانه بدون ذلك لن تكونوا مؤهلين للشراكة الاوروأطلسية " .
وكانت البوسنة قد رفضت توقيع تفاقية مع كرواتيا تقضي بمنح كروات البوسنة حق حمل جنسيتي البلدين ، وأثناء الخلاف البوسني الكرواتي حول إقامة زغرب جسرا على البحر الادرياتيكي يمنع مرور السفن إلى الشق البوسني اصطف كروات البوسنة إلى جانب كرواتيا ، وهو ما يجري على الجانب الصربي بخصوص صربيا ،حتى في مباريات كرة القدم بين صربيا وكرواتيا والبوسنة ينحاز الصرب والكروات مع فريقي صربيا وكرواتيا لكرة القدم كلما التقيا مع فريق البوسنة الدولي . لكن ما يشكو منه البوشناق أن تكون وحدة البوسنة على حسابهم ، بحيث يتم إرضاء الصرب والكروات بمناصب وامتيازات تزيد عن حجمهم الديمغرافي ولا سيما في مجال وزارات السيادة كالخارجية والدفاع والداخلية والمالية والعدل ،حتى بعد انضمام البلاد للاتحاد الاوروبي في السنوات العشر القادمة .ويتساءل الكثير منهم "ألا يلتزم من يدعوننا للثقة بشركائنا ، بنفس القدر من الثقة تجاهنا "