الإسلام في أوروبا بين نيران العلمانية والتعصب القومي والتعصب الديني
14 جمادى الأول 1429
د. محمد يحيى

على مدى الأعوام الأخيرة يتعرض الإسلام والمسلمون في أوروبا لهجمة أهم ما يلاحظ فيها أنها لا تأتي من مصدر واحد بل تأتي من عدة مصادر لكل منها طابع خاص ومميز به. وأول المصادر التي تأتي منها الهجمة على الإسلام والمسلمين هو المصدر العلماني، وهو الذي يتجلى أكثر ما يتجلى في فرنسا حيث تفسر الدولة والمجتمع هناك ومعهم النخب السياسية والثقافية الحملة الموجهة ضد النشاطات الإسلامية بأنها في المقام الأول حملة تهدف إلى ضمان مراعاة القواعد والأسس العلمانية التي يقوم عليها النظام في فرنسا.
ورغم حدوث ما يسمى بأحداث إرهابية في فرنسا والحديث عن خلايا متطرفة آتية من بلدان المغرب العربي أو من الشرق الأوسط تتحرك لضرب أهداف داخل المجتمع الفرنسي، إلا أن الاهتمام الأساسي للدولة الفرنسية أو الإعلام الفرنسي ولكل من يشاركون في الحملة ضد الإسلام كان هو حسب المعلن أنهم يريدون حماية الأسس العلمانية للنظام الفرنسي من تهديد يمثله الإسلام والمسلمون الذين يريدون فرض تقاليدهم وعاداتهم المجلوبة والمستوردة من بلدانهم الأصلية باعتبار أنهم مهاجرون في المجتمع الفرنسي.
كما تفسر الحملة بأن هؤلاء المسلمين يريدون وبالقوة فرض جوانب من الشريعة الإسلامية، ولاسيما فيما يتعلق بأمور الأحوال الشخصية أو أمور الذبائح والأطعمة أو أمور الإجازات، على المجتمع الفرنسي مخالفة للقواعد العلمانية الدستورية التي يفترض أنها تنص على نوع من المساواة وعدم التمييز بين المواطنين كما تنص أيضاً على عدم إدخال أو إقحام الدين في الجوانب القانونية للمجتمع.
ومن هذه الناحية تٌعد فرنسا الوحيدة بين بلدان أوروبا التي تعلن صراحة أو على الأقل رسميا أن الهدف من الحملات الموجهة ضد المسلمين، وهي حملات تراوحت من التضييق في أداء الشعائر إلى حملات بوليسية وصلت إلى حد الترحيل القسري من فرنسا، أن الهدف من وراء هذه الحملات في المقام الأول ضمان أن تُحترم العلمانية في فرنسا وليس أي دافع آخر مثل دوافع التعصب القومي ضد المهاجرين أو دوافع التعصب الديني المسيحي أو اليهودي ضد المسلمين.
وقد طُرحت هذه القضية، أي قضية جعل العلمانية هي الهدف الرئيسي لمحاصرة الإسلام والمسلمين في فرنسا، على أنها أهم من أي اعتبارات أخرى، رغم الاعتراف بأن هذه الاعتبارات موجودة في فرنسا وأخذت تطل برأسها من جديد ولاسيما اعتبار التطرف القومي اليميني واعتبار التطرف الديني، وإن كان التطرف الديني لا يظهر في فرنسا على السطح باعتبار أن فرنسا قضت حوالي قرنين تحت حكم علماني ينظر إلى الدين حتى المسيحية ذاتها بأنه جريمة، إلا أنه في نفس الوقت ينظر إلى اليهودية بالذات على أنها دين ممتاز له وضعية خاصة لا تستحق أن تمس.

وإذا كان ذلك هو الحال في فرنسا فإننا في بلدان غربية أخرى نجد أن مصدر الحملة على الإسلام والمسلمين وعلى مظاهر التدين الإسلامي هو بصراحة مظهر التعصب القومي اليميني الذي ينتحل لنفسه تذكراً اسمه المحافظة على الهوية الثقافية والحضارية والتراثية والتاريخية لتلك البلدان أو لأوروبا على وجه العموم.
ويظهر هذا الزعم في بلدان متعددة تتراوح من ألمانيا إلى إيطاليا إلى بلدان الشمال الأوروبي وأيضاً إلى بلدان مثل أسبانيا والبرتغال وإلى حد ما إنجلترا، إلا أن هذا التوجه يظهر أكثر ما يظهر في بلدان وسط أوروبا مثل ألمانيا والنمسا تليها إيطاليا.
وفي هذه الحالة فإن الإجراءات المتخذة ضد المسلمين ومحاولة فرض الذوبان في المجتمع الأوروبي عليهم تبرر بأنها محاولات للحفاظ على نقاء الهوية الأوروبية التراثية الحضارية المتفوقة والمتميزة وحماية لها من أن تتعرض من جانب ثقافة أو حضارة هي أدنى منها بكثير، بل هي لا تستحق لفظ الحضارة لوصفها، لأنها في نهاية الأمر ليست سوى بربرية بدوية قادمة من صحاري الشرق الأوسط.
وهنا كما هي الحال في ألمانيا أو النمسا أو إيطاليا نجد أن الإجراءات القمعية تتخذ ضد المسلمين، ومنها عدم الاعتراف بأمور الأحوال الشخصية التي تميزهم ولا الاعتراف لهم بالإجازات الرسمية القائمة على الأعياد الدينية أو الاعتراف بالعادات أو بالأصح بالتعاليم الشرعية في مجال الأطعمة أو الأغذية باعتبار أن هذا كله لو تم الاعتراف به فإنه يعني غزوا ثقافيا وحضاريا لأوروبا.
ولكن يكشف هذا الزعم ويفضحه أن القائمين على تلك الحملة ضد الإسلام والمسلمين هم أبعد ما يكونون عن التمسك بالحضارة الأوروبية المزعومة، بل إن جلهم هم من عناصر اليمين الأوروبي المتطرف التي لا تمتلك أي قاعدة فكرية أو فلسفية أكثر من مجرد هذا التعصب العرقي والعنصري المذموم وقد ظهر هذا جليا مثلا في قضايا مشهورة مثل قضية الرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، أو قضية الفيلم الذي أراد أحد الساسة الهولنديين أن ينشره عن طريق الإنترنت، أو عن طريق العمليات التي تقوم بها عصابات من اليمين المتطرف ضد المسلمين في ألمانيا أو إيطاليا وأيضاً في بلدان مثل فرنسا.

أما الاتجاه الثالث الذي تتم عبره الحملة ضد الإسلام والمسلمين فهو اتجاه غريب لأنه يتسم بصراحة تامة وبعدم المداراة في أي شيء وأعني به اتجاه التعصب الديني الصريح والواضح وهو الاتجاه الذي ظهر أكثر من أي شيء آخر في بلدان أوروبا الشرقية السابقة وهي مجموعة بلدان البلقان مضافا إليها اليونان ومقدونيا ومضافا إليها أيضاً أجزاء من روسيا، لاسيما تلك التي يحدث فيها اشتباك بين الإسلام وبين فئات دينية أخرى وهي الفئة المسيطرة مثل المسيحية الأرثوذكسية الروسية والأوكرانية في روسيا البيضاء.
وفي هذه البلدان كان التوجه الديني واضحاً وصريحا لاسيما وأن تلك البلدان بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والتجربة الشيوعية قد قامت صراحة باتخاذ العقيدة الأرثوذكسية ديانة رسمية للدولة، وهو الوضع القائم في منطقة تمتد من اليونان جنوبا إلى روسيا البيضاء شمالا كما تمتد من سيبيريا شرقا إلى بلدان مثل رومانيا وحتى المجر غربا.
وتحت راية التعصب الديني الصريح والواضح ارتكبت المذابح في البوسنة والهرسك وكوسوفا وغيرها من مناطق البلقان كما ارتكبت المذابح في الشيشان وأنجوشيا وما حولها.
وإذا كان التعصب الديني الواضح في بلدان أوروبا الشرقية هو الراية التي ارتكبت تحتها كل هذه التجاوزات والجرائم ضد المسلمين، إلا أن بلدان أوروبا الغربية والتي يحلو لها أن تصف نفسها بأنها متحضرة لم تخلُ أيضا من هذا التوجه التعصبي الذميم؛ ففي تلك البلدان وحتى إن رفعت راية العلمانية أو راية الثقافة كمبرر للتجاوزات ضد الإسلام والمسلمين إلا أنه يبقى تحت السطح تيار التعصب الديني كما ظهر مؤخراً في قضية مواقف بابا الفاتيكان من الإسلام سواء من ناحية تعميد الصحفي الذي تنصر أو من ناحية الإعلان عن خطط لتنصير العالم الإسلامي كما ظهر أخيراً وأيضاً في إنجلترا عندما ثارت ضجة ترفض ما ذهب إليه كبير أساقفة الكنيسة الإنجيلية من ضرورة السماح للمسلمين بإدخال بعض جوانب الشريعة الإسلامية الضرورية لحياتهم اليومية.
ويؤدي بنا هذا كله إلى ضرورة أن يكون هناك تمييز في المحاور التي يُحارب الإسلام على طولها عند التصدي لبحث قضية أوضاع الإسلام والمسلمين في أوروبا.