طبخة أمريكية بمكونات باكستانية
2 جمادى الأول 1429
علي مطر

الأحزاب في باكستان طيف متعدد الألوان وفيه من كل الاتجاهات. والألوان تتغير طبقا للمزايا والهدايا والمنح والترغيبات المختلفة. أحد هذه الأحزاب اسمه حركة المهاجرين القومية. رئيسها متهم بجرائم قتل وبأعمال فساد ولم يجد مكاناً ينجو فيه من ملاحقة خصومه ومن سطوة قوانين المحاسبة القومية – في بعض الأحيان فقط – إلا في لندن حيث يقيم منذ أواخر الثمانينات ولا يستطيع مجيئا إلى باكستان لكثرة خصومه حتى من حركته ذاتها التي انشق بعض رفاق دربه عنه وقاموا بتسمية حركتهم الوليدة باسم الحركة نفسه مضيفين إليه اسم حقيقي بين قوسين لتمييزها عن الحركة الأم. تتكون الحركة من المهاجرين الهنود الذين انتقلوا بقضهم وقضيضهم من مدينة بومباي والمدن الهندية الأخرى المجاورة التي ضمها البريطانيون إلى الهند إبان تقسيم شبه القارة الهندية. المهاجرون استقروا في مدينة كراتشي وجلبوا معهم تقنيتهم ومهاراتهم وقدراتهم التجارية الفذة مقارنة مع سكان المدينة من السنود ولهذا استطاعوا أن يشقوا لأنفسهم مكانة قوية ومرموقة بين هؤلاء السكان.
كراتشي وإلى منتصف ستينات القرن الماضي كانت عاصمة باكستان قبل أن يقرر الماريشال أيوب خان ( أحد العسكر الكثر الذين حكموا باكستان بأوامر أمريكية مباشرة ولما يزيد عن نصف عمرها القصير ) وكان لزاما أن تحظى كل عرقية مكونة "للاتحاد" الباكستاني بمكانة ووجود لها في العاصمة كراتشي ولهذا فان عرقية البشتون "احتلوا لأنفسهم مكانا مميزا وحذا حذوهم البنجابيون والبلوش إلى جانب أهل الإقليم الأصليين وهم السنود. اختلاف العرقيات وقتامة لون سحنة المهاجرين واختلاف لكنتهم وهم ينطقون اللغة الأوردية ميزهم عن بقية العرقيات التي شكلت لها تواجدا قويا في مدينة كراتشي ولكن وبعد نقل العاصمة إلى إسلام أباد على بعد ما يزيد عن 1200 كيلومتر فان المهاجرين لم يتمكنوا من إيجاد التمثيل المناسب لهم في العاصمة الجديدة مقارنة مع العرقيات الأخرى التي لم تجد صعوبة في إيجاد مكان مناسب لها بالمدينة الجديدة. هذا الأمر جعل المهاجرين يشعرون أنهم مهمشون وأن عليهم أن يضموا صفوفهم مع بعضهم البعض لإيجاد مكانة لهم في هذا البلد الذي ضحوا بأرضهم ومدنهم السابقة من اجله. الجيش ممثلا بالجنرال ضياء الحق ( العسكري الآخر الذي حكم لمدة 11 عاما متواصلة ) وجد ضالته في المهاجرين لمواجهة ضغوط حزب الشعب الباكستاني بقيادته الشابة حينها ( بينظير بوتو ) ووجد أن تشكيل حركة تضم المهاجرين في بوتقة واحدة سيعمل على جعلها تتقاسم النفوذ مع حزب الشعب الباكستاني الذي يستمد قوته ولا يزال من إقليم السند الذي تنتمي إليه معظم قياداته. لذا فضياء الحق عمل على تشكيل الحركة في الثمانينات كورقة ضغط على حزب الشعب ولكي تقاسمه النفوذ بإقليم السند الذي يعد فيه الحزبان القوتين الأكبر مع وجود هامشي – مقارنة بهما – لحزب الجماعة الإسلامية الباكستانية والتي تمكنت بعض قيادتها رغم ذلك من تولي منصب محافظ المدينة لبعض الوقت في السنوات الأخيرة وأجرت إصلاحات وتحسينات على المدينة لم يتمكن الحزبان الآخران من مجاراتها لذا عملا على التخريب على الجماعة لكي لا تتمكن من جلب الدعم الشعبي لها مقابل ما تقدمه من إنجازات وأطاحوا بها مبعدين قيادتها عن هذا المنصب. وجد الجنرال ضياء الحق صعوبات لدى توليه للسلطة في السيطرة على الضغوط التي يشكلها حزب الشعب الباكستاني على حكمه وخصوصا بعد تمكنه من "إقناع" قضاة محكمة باكستان العليا "بخيانة" ذو الفقار على بوتو وذلك بعد أن أقنعهم بمسؤوليته عن قتل أحد أفراد قبيلة ( قصوري ) التي مقرها في أجزاء واسعة بجوار مدينة لاهور التاريخية، لذا فان إعدام ذو الفقار جاء نظراً لإقدامه على اغتيال احد اشد منافسيه الحزبيين لتخلوا الساحة له دون قيادة أخرى داخل حزبه تقلقه. لم يكن ذو الفقار يرضى بفكرة وجود قيادات متقدمة في حزبه ويحرص على الاستفراد بالسلطة، حيث تشير أصابع الاتهام له بالمسؤولية عن اغتيال قائد آخر منافس له في الحزب ولكن هذه المرة من مدينة بيشاور بشمال باكستان في فترة حكمه بالسبعينات والذي ينتمي إلى عائلة شيرباو. المنافس قتل وهو يلقى كلمة حزبية بجامعة بيشاور وبرز بوتو المستفيد الأكبر من اغتياله حينها، وذلك لأن نفوذه في الحزب أصبح كبيرا ويهدد سيطرة بوتو المنفردة على مقدرات الحزب الذي كان الأكبر حينها في باكستان. ولكي لا يذهب اسم عائلة شيرباو بعيداً عن الحزب فإن بينظير استطاعت "شراء" ولاء ابن عم شيرباو السابق وإقناعه بمساندة الحزب من خلال الانصياع لتعليماتها وقلدته المناصب المختلفة خلال فترتي حكمها. إلا انه شب عن الطوق وانضم إلى الجنرال مشرف من خلال تشكيل فرع آخر من حزب الشعب وميله للابتعاد عن بوتو وحصوله لذلك على مكافأة من مشرف بتوليه وزارة الداخلية وتعرضه لمحاولتين لاغتياله من المسلحين القبليين بسبب مشاركته بالحرب ضد الإرهاب. ولكن وبعد أن شارف نجم الرئيس مشرف على الأفول بعد فوز خصومه بالسلطة في باكستان فإن شيرباو قد اخذ يتقدم مجددا نحو حزب الشعب بقيادة زوج بينظير بوتو ويدعم سياساته.
الخلاصة هي أن الغرب يحرص حرصا شديدا على استقرار الهند ويشجعها على تطوير أسلحة الدمار الشامل بمختلف نوعياتها ويتراجع عن أي قدر يسير من النقد غير المقصود إذا صدر عن معتوه من صانعي القرار فيه ويصمت صمت الموتى عن أي جريمة ترتكبها الهند بشكل مستمر ضد الأقلية المسلمة فيها ويلومها لوما شديدا إن هي تأخرت في ارتكاب هذه الجرائم ضد المسلمين ويغض الطرف ويسكت اللسان عن أي هجوم يقوم به الهندوس ضد الكنائس والأقلية المسيحية في الهند، ولكن إذا ما تعلق الأمر بباكستان فان سياساتها يجب أن يتم رسمها وبتفاصيلها المملة في عواصم تبعد عنها آلاف الأميال. وإذا ما حاولت أن تخطو نحو الاكتفاء الذاتي في أي مرحلة قصيرة من مراحل عمرها فإنها يجب أن يتم دفعها بين فكي كماشة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ليتم القضاء على جميع الصناعات الرائدة والذاتية التي كانت – للأسف كانت – قائمة بها ويتم رفع أسعار الطاقة والوقود المستخدم في تلك الصناعات لكي تموت بالمرة وتحل محلها ضغوط أمريكية وغربية لكي تفسح المجال رحباً أمام تدفق الصناعات الهندية والكف عن الثرثرة المتعلقة بضرورة حل القضية الكشميرية قبل أن تتحسن العلاقات التجارية والاقتصادية مع الهند – زرداري يطالب الآن بوضع قضية كشمير وحقوق شعبها على الرف والعمل بكد وجهد من اجل رفع معدلات التبادل التجاري مع الهند إلى أعلى مستوياتها.
عندما يتعلق الأمر بقدرات باكستان النووية فإن ذلك أمر جلل يجب مراقبته أو العمل على فرض السيطرة عليه ولكن مسموح للهند أن تفعل ما تشاء بل وان تحصل على الطاقة النووية للاستخدامات السلمية ومن أي مكان شاءت ومتى شاءت. لكن هذه التقنية ممنوعة بالكامل عن باكستان. المؤسف هنا هو أن تجد في الهند من القيادات من يرفض الإملاءات الغربية أو من أي جهة كانت وفي المقابل تجد في باكستان من يستميت في خدمة هذه الإملاءات إرضاء لنزواته وذبحا لمصالح أمته ووطنه. بل إن العسكر المناط بهم أمن البلاد وحمياتها يعاجلون متى وصلوا إلى السلطة إلى التقرب من الولايات المتحدة والعمل على حماية مصالحها هي دونا عن غيرها ليضمنوا بذلك التصاقهم بدون فكاك بكرسي الحكم.
ورغما عن العلاقات الصعبة بين الأحزاب المختلفة ومواقفها المتناقضة من قضية ما إلا إنها تتقلب بين التحالفات كما يحلوا لها. فالولايات المتحدة وقبل مدة طويلة من محاولات حركة المهاجرين القومية المشاركة مع زوج بينظير بوتو في الحكومة الحالية وقبل أن يعرب حزب الرابطة الموالي للرئيس مشرف عن استعداده لتأييد خصمه زوج بينظير بعد خسارة هؤلاء الموالين لمشرف بالانتخابات، قبل ذلك بكثير كانت الولايات المتحدة قد أقنعت بينظير بوتو بأنها ستجعل الحركة تتحالف معها في تشكيل حكومة فيدرالية وحكومة بإقليم السند بعد الانتخابات على الرغم مما بينهما من اغتيالات سابقة وقتل وذبح ومواجهات سجلتها الدماء منذ تأسيس الحركة كمنافس لحزب الشعب في منتصف الثمانينات. لقد ضمن الأمريكان لبينظير دعم الحركة لها حتى قبل أن تبدأ الحملات الانتخابية وهذا يوضح الكيفية اليسيرة التي تستطيع من خلالها واشنطن أن تخترق الأحزاب الباكستانية العلمانية والليبرالية دون استثناء، ولكن ربما إلى قدر أقل حينما يتعلق الأمر بحزب رئيس الوزراء السابق نواز شريف، وذلك نظرا لارتباطاته مع الأحزاب الدينية ولخلفيته الدينية هو شخصيا. كانت بينظير بوتو تعي أنها لن تستطيع أن تحصل على قدر كافٍ من الأصوات يمكنها من الحكم بمفردها ولهذا فإنها ظلت تديم السؤال حول الكيفية التي ستتمكن من خلالها من إدارة شؤون وصولها إلى السلطة بعد الانتخابات لكي يتقدم منها الأمريكان ويقنعونها بان حركة المهاجرين سوف تأتيها طائعة رغما عنها. وبهذا تكتمل مكونات الطبخة الأمريكية في باكستان لولا أن بينظير قد رحلت قبل أن تكمل مشوار الحرب ضد الإرهاب التي صاغتها واشنطون بشكل جديد مؤخرا لباكستان والتي كانت ستتمخض عن وجود أمريكي داخل أراضي القبائل بموافقة كاملة من بينظير وستؤدي كذلك إلى تسليم عبد القدير خان رائد البرنامج النووي إلى الأمريكان ليفعلوا به ما يشاؤون. الوصفة الأمريكية لهذه الطبخة قامت أساسا على استبعاد نواز شريف من الشراكة الحاكمة ولصق جميع الأحزاب الصغيرة الأخرى بصمغ يجعلها خاضعة لحزب الشعب وتبعد بذلك اي تحدي لرئاسة مشرف – حليفها المطيع.
إن وجود جون نيجروبونتي وريتشارد باوتشر من وزارة الخارجية الأمريكية في باكستان يوم أداء (رئيس وزراء باكستان الجديد) يوسف جيلاني للقسم الدستوري يعني رغبة واشنطون الملحة في تكوين روابط قوية مع النظام الجديد في إسلام أباد ومنع وقوع أي مواجهة بينه وبين الرئيس مشرف. جون نيجروبونتي الذي تدافع بلده عن حقوق الإنسان والقانون ظل متواجدا لبعض الوقت في إسلام أباد في شهر نوفمبر الماضي لإقناع بينظير بوتو بعدم الاحتجاج على قيام الرئيس مشرف بعزل قضاة محكمة باكستان العليا وطردهم من مناصبهم. بينظير غيرت مواقفها فوريا بعد عقده اتصالا معها، حينها وجفت ينابيع خطاباتها السابقة وتوقفت حتى عن لوم مشرف. وأخذت تتراجع عن المطالبة بإعادة كبار القضاة المعزولين إلى مناصبهم وفرضت على نفسها لحنا خاصا تردده لدى طرقها لهذا الموضوع وهو "أهمية وجود سلطة قضائية مستقلة". حزبها استمر في سياسة الالتفاف على مواقفه السابقة حتى بعد اغتيال زعيمته ووافق حزب الشعب ممتعضا على الدخول في تحالف مع نواز شريف. ورغم اتفاق الحزبان على إعادة القضاة إلى مناصبهم في غضون 30 يوما من تشكيل الحكومة إلا أن زوج بينظير بوتو قد أخذ يتملص شيئا فشيئا من وعوده واخذ يهمهم همهمات غير واضحة تدور حول الرغبة في إعادة القضاة ولكن بعد إصدار قانون يحصر بقاء القاضي في منصبه الرئيسي بالمحكمة العليا في ثلاث سنوات وهذا يعني أن قاضي قضاة باكستان المعزول بسبب مواجهاته مع مشرف قد تتم إعادته لمنصبه في شهر مايو لكي يفتح الباب واسعا أمامه لمغادرة المنصب القضائي في شهر يونيو بعد انقضاء مدة السنوات الثلاث.