حينما فضح "برودلي" أكذوبة "عصر الحريم"!
17 ربيع الثاني 1429
د.ليلى بيومي

سفور المرأة وتبرجها مرتبط بقلة وعيها وعدم فاعليتها الاجتماعية والثقافية، ذلك أن فهم المرأة المسلمة لرسالتها في الحياة مرتبط أساسًا بوعيها الديني والتزامها الشرعي.
وإذا كان الكثيرون يدّعون أن المرأة، في أيام ما يطلقون عليه عصر الحريم وفي فترة ما قبل ثورة 1919، لم يكن لديها وعي، وكانت حقوقها ضائعة، ويعللون أسباب ذلك بالتزامها بالحجاب، وعدم اختلاطها بالرجال، حتى كان لديها نمط معيشي مسمى بالحريم، فإن هذا الكلام منافٍ للحقيقة وتنقصه الأدلة الموضوعية.

بل إن الأدلة الموضوعية والتاريخية تكذب هذه الدعاوى المشبوهة، وتؤكد أن في نساء تلك الأيام، الكثير من الوعي، إنما كان السبب في الظروف السياسية، وفي المناخ الاجتماعي الذي رسخته السلطة السياسية.

نعم، المرأة المسلمة، عمومًا، لها حقوق ضائعة مثلها مثل الرجل المسلم، فكلاهما مرتبطٌ بأي ظلم يقع على المجتمع والأمة.. قبل وبعد ثورة 1919، وبعد ثورة يوليو أيضًا ومازالت حقوقهم في كثير منها ضائعة... لكن مسألة الوعي والمشاركة والفاعلية والحيوية نابضة في المرأة مادامت تحيا بالإسلام وضوابطه الشرعية.

وقد شهد شاهد من أهلها على مشاركة المرأة المسلمة في ثورة عرابي، وهي ملتزمة بحجابها في عصر الحريم، حيث ذكر (برودلي)، المحامي الإنجليزي، الذي تولى الدفاع عن عرابي بتكليف من صديقه مستر (بلنت)، أن المرأة المصرية ساهمت بجهد ملحوظ في نضال عرابي العادل ضد النفوذ الإنجليزي، وأنها غيرت النظرة التقليدية التي يعتقدها الغرب تجاه هؤلاء النساء؛ إذ قال فيما كتبه عن ثورة عرابي: "لقد وجد عرابي في الحريم وبين سيدات مصر تأييدًا للقضية الوطنية، ومبادئ عرابي منذ اللحظة الأولى، ولقد ظللن ثابتات على حماسهن وتأييدهن حتى اللحظة الأخيرة، حتى حينما انطفأ الخيط الأخير من الأمل".

وفي مذكرات عبد الرحمن فهمي بدار الوثائق القومية، ذكر الكاتب أن أميرات العقد الملكي قد تعاطفن أيضًا مع عرابي في مطالبه العادلة، وقمن بتأييده. وفي اليوم الثاني لضرب الإسكندرية، هبّت كل فتيات مصر وبنات الأسر الكبيرة لجمع التبرعات وبذلها، وجمعن تبرعات كبيرة وألفن فرقة لتحضير الضمادات ولوازم الجرحى لإرسالها للأطباء الذين كانوا يعملون في الخطوط الأمامية في معركة كفر الدوار.

ولقد كان تأييد النساء المحجبات من الحريم، كما يذكر الكاتب، هو الضربة القاضية على حجج الذين كانوا ينكرون على ثورة عرابي بأنها شعبية. ويذكر (برودلي) أيضًا في مذكراته أن العديد من الفتيات والسيدات ساهمن في جمع التبرعات بانتظام وإعداد ما يلزم لجنود ثورة عرابي من أدوية وأغطية ضد الإنجليز، حتى أن الخديوي توفيق حاول أن يستميل عطف سيدات وبنات الأسر الكبيرة عن طريق أمه وزوجته، ولكن بلا جدوى، فقد انقلبن عليه عندما تبين لهم أنه مع الإنجليز وضد عرابي والتحرر الوطني. حتى أن الخديوي توفيق أدلى بحديث بعد ذلك وقال إنه كان يستطيع أن يعيش في سلام لولا شيئان، هما أشد ما في مصر خطرًا عليه، وهما أقلام الصحفيين وألسنة النساء.

ولقد تعودنا على مدى على مدى نصف قرن من الزمان على مفهوم أن العلمانية هي التي أطلقت جهود المرأة في مجال العطاء الاجتماعي والسياسي، وأن الفترات التي سبقت النفوذ العلماني والغزو التغريبي في مصر فترات مظلمة بالنسبة للعمل الاجتماعي، ولم يكن فيها مجال للمشاركة النسوية، ولكن يجب دائمًا أن نقلب صفحات التاريخ والوثائق قبل ظهور النفوذ العلماني الواسع، لكي ندرك جيدًا أن المرأة، بالتزامها الديني والشرعي، قد ساهمت بشكل حقيقي في تنمية المجتمع، وهي خلف الرجل كزوجة وأم، وكذلك السلام الاجتماعي الذي كانت تحققه للأسرة عموما، وهو يعد من أهم عوامل الانتصار الحقيقي للمجتمع المسلم.

وإذا كانت المرأة المسلمة، وهي في عصر الحريم، قد شاركت أيضًا في ثورة القاهرة الأولى (ثورة الأزهر) وثورة القاهرة الثانية، وسقطت أول امرأة مصرية شهيدة برصاص الإنجليز وهي شفيقة محمد، ثم فهيمة رياض وعائشة عمر وحميدة خليل، وأخريات مجهولات، وكان لها في ثورة 1919 دور حيوي، وهي ملتزمة بحجابها، من خلال حشد الطاقات والاحتجاجات وبشكل يومي منظم حتى أن الصحفية الأمريكية «حريس تومسون» كتبت كتابًا عن المرأة المصرية وأشادت بوعيها وكفاحها ضد الاحتلال، وتقول: "لقد دهشت أن الشرقيات (المرأة المسلمة) كما يصورهن خيالنا الغربي المريض غير موجودات، والحوريات المضطجعات في استرخاء يعرضن فتنتهن على أرائك ناعمة من الحرير، وحولهن الجواري، لا وجود لهن إلا في الأساطير الغربية".

ولكن كيف تعاملت المرأة المسلمة مع قاسم أمين وأفكاره التحررية؟ والحقيقة أن أفكار قاسم أمين تم بثها بشكل تدريجي، حتى إن دعوته للسفور كان يقصد بها في البداية سفور الوجه فقط، وزوجة قاسم أمين نفسه ظلت على حجابها، وكانت أفكاره مثار استياء من قبل الحزب الوطني في ذلك الوقت، والذي كان يعتمد على قوة التيار الإسلامي في ذلك الحزب.

وقد ألفت البادية "ملك حفني ناصف" والتي ظلت على حجابها، العديد من الكتب والأبحاث حول قضايا المزواج والأسرة والتحديات التي تواجه المرأة، وكانت كل كتاباتها ذات أبعاد دينية.

وقد تصدى لقاسم أمين وفند آراءه ودعا إلى بطلانها، بل وصل إلى تكفيره في أحيان أخرى، العديد من الكتاب والمفكرين المخلصين؛ منهم: عبد المجيد خيري، وعبد اللَّـه جمال الدين قاضي قضاة مصر، ومختار بن أحمد فريد باشا، ومحمد فريد وجدي، حتى محمد طلعت حرب الاقتصادي الشهير ألّف كتابًا مهمًّا حول تربية المرأة والحجاب، ولكن تضافرت جهود عدة من الداخل والخارج للنيل من المرأة المسلمة، ونظمت حملات السفور بدعوى تحرير المرأة.

وشيئًا فشيئًا حققت المرأة العديد من التغيرات، وكان أهمها زيادة فرص التعليم لقطاعات كبيرة من المجتمع، وهذا أمر إيجابي، استفاد منه الرجل والمرأة منذ ثورة يوليو. ولكن الاستمرار في فكرة تحرر المرأة نفسها كان توجهًا أساسيًا، فقد صدرت العديد من القوانين الأسرية التي تدعم المرأة بالحق والباطل ضد الرجل، ولم يتم النظر فيها لصالح المجتمع عمومًا.

وفي إطار خروج المرأة للعمل وسفورها وتبرجها، كان هناك دائمًا صحوة إسلامية تجاهد ضد التيار العلماني التغريبي، وهي تعمل جاهدة تحت السطح لتحمي تماسك المجتمع. ولكن هل يا ترى، في ظل انتشار الزواج العرفي والعنوسة وتحمل كثير من عامة النساء مسئوليات الأطفال من جراء التفكك الأسري وهروب الرجل من مسئولياته نتيجة لتكبله بقوانين الأحوال الشخصية التي سلبته الكثير من حقوقه كرد فعل عكسي لتلك القوانين، ستظل هذه الغطرسة والجموح العلماني، أم سيفيء القوم إلى رشدهم، رجوعًا إلى الحق، وسعيًا لصالح البلاد والعباد؟

وإذا كان العلمانيون يتحدثون عن عصر الحريم وسلبياته، الذي أوضحنا عدم صحته، فإننا نقول إنه كانت هناك بعض المشاكل والقيود التي تحيط بالمرأة، لكنها كما يقال عصر الحريم... والحريم لها حرمة واحترام، بل وتقديس... والآن لم يعد هناك حريم... لكن هناك أشياء كثيرة جعلت المرأة مستباحة.

لقد انشغلت العديد من العلمانيات، ومعظمهن مطلقات ولهن مشاكلهن الخاصة ضد الرجل، بقضايا شكلية لمحاربة الرجل أحيانًا، وأحيان أخرى ضرب في المرأة والأسرة ذاتها... فهل تستطيع المرأة المطلقة والعانس والمتزوجة زواجًا عرفيًّا أن تمنح الأوطان حرية وتسهم بشكل فعال وحقيقي في نهضة المجتمع؟ .. وهل السفور والتحرر من الإسلام والتعليم المجرد من الثقافة والوعي قد حقق للمرأة الاستقرار؟.
مراكز البحوث الاجتماعية والسياسية، وتقاريرها وأبحاثها، وما آلت إليه مجتمعاتنا عمومًا، سواء أكانوا رجال أو نساء، هو الذي يجيب على تلك التساؤلات، وهي في النهاية في غير صالح الأسرة.