تحولات الكيان الصهيوني
24 ربيع الأول 1429
د. محمد يحيى

بصرف النظر عن كل ما كتب عن الكيان الصهيوني ومن الطرفين العربي و"الإسرائيلي"، وبصرف النظر عن تاريخ هذا الكيان القديم والحديث كفكرة ثم كواقع قام وتوسع، فإن هناك تحولات معينة قد جرت فيما يمكن تسميته بفلسفة هذا الكيان وطريقة الدعاية والترويج له على مدى عمره الذي كاد يقارب الخمسين عاما. وإذا حاولت الاقتراب من نقاط التحوّل هذه، سواء من ناحية النخبة الفكرية أو من ناحية صورة الذات وكيفية تقديمها، فإننا نستطيع الإمساك بعدة محاور.

المحور الأول: هو ما يمكن تسميته بالتحول من مفهوم وفلسفة الكيان المناضل، انطلاقاً من عقلية الاستيطان إلى مفهوم الكيان المتحضر، انطلاقاً من عقلية قيادة المنطقة بالعلم والتكنولوجيا. البون واسع بين المفهومين دون أن يعني ذلك أنهم قد نجحوا في طرح المفهومين والترويج لهما. ففي البداية كان التصور الرائج هو أن الدولة اليهودية أو العبرية هي بالأساس كيان مكافح وسط بيئة ترفض قيامه وتعاديه. وكان مناط هذا الكفاح هو حركة الاستيطان الساعية إلى إيجاد جذور لليهود في أرضهم من خلال حركة المستعمرات والكيبوتسات بأنواعها.

وهذه الحركة كانت هي ركيزة الطرح الصهيوني وصورة الذات ومجال عمل النخبة الصهيونية. وكان الترويج لتلك الحركة يتم على مستويات عديدة.

فهي في البداية حركة تسعى لوضع جذور راسخة لليهود في أرضهم تجعلهم يحبون هذه الأرض عبر عملية الزراعة واكتساب العيش منها والتي امتزجت بعملية الدفاع عنها والتي كانت هي المبرر لتسليح المستعمرات إلى حد يثر الدهشة ويُستغرب في أي نشاط زراعي أو استيطاني سلمي.

لكن هذا التسليح والطابع العسكري لحركة المستوطنات وهي المظاهر الأكبر والأهم في بداية نشأة الكيان الصهيوني كان يخفي حقيقة اغتصاب الأرض من الفلسطينيين وضرورة العمل على الدفاع عن هذا الاغتصاب من ناحية، وفرضه من ناحية أخرى على البقية الفلسطينية المحيطة بقوة إرهاب السلاح، لاسيما وأن هذه البقية لا تملك أية قوة دفاعية في ظل ضعفها وضعف الدول العربية المحيطة بفلسطين والتي لم تطرح سوى الشعارات الرنانة في أغلب الأحوال. في هذه المرحلة وفي ظل تلك الفلسفة كان يتم تصوير الصهاينة ونخبتهم القائدة على أنهم مجموعات من الفلاحين المناضلين الأشداء يقومون بتعمير أرضهم التي تركها العرب والمسلمون ؟؟؟؟؟ لها كأرض خراب لا زرع فيها ولا ضرع. وكان النشاط الصهيوني الأساسي هو النشاط التعميري لتلك الأرض الخراب ولاسيما من الأساس من خلال الزراعة لكسب الطعام والعسكرية للدفاع عن أعداء التعمير من العرب والفلسطينيين.

وهكذا فصورة النخبة "الإسرائيلية" في بدايتها كانت صورة الفلاح المدافع الذي يفلح أرض وطنه ليتمكن من العيش، والذي يرفع السلاح ليس عدوانا وإنما دفاعاً اضطراريا في وجه أعداء الحياة، ولكي يحول دون تكرار حدوث الهولوكوست التي وقعت لليهود في أوروبا.

وكانت صورة النخبة هذه التي تجسدت في سلوكيات ما يعرف بالآباء الأوائل ـ بن جوريون وموشي ديان وجولدا مائير وغيرهم ـ وكانت لكل منهم مكان يعيش فيه في الكيبوتسات ـ هي الصورة التي روجت في أنحاء العالم وبصورة مخططة تناسب الإعجاب في كل مكان. فبالنسبة لأمريكا تشابهت هذه الصورة بل تطابقت مع صورة المستوطنين الأمريكان للقارة الأمريكية. وبالنسبة لقطاع عريض من النخب الأوروبية في شرق وغرب أوروبا في تلك الفترة كانت تلك الصورة تطرح ومعها حركة الكيبوتس باعتبارهما التجسيد الحي للفكر الاشتراكي وحتى الماركسي.

ولا ننسى أن تلك الفترة شهدت أوج حركة المزارع الجماعية والتعاونية في الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية كما شهدت رواج الفكر الاشتراكي في أوروبا الغربية. وبالنسبة للجميع كانت صورة الكيبوتسات والحركة الاستيطانية المتشبثة بالأرض والمدافعة عنها تشبه حركات مقاومة النازي والفاشية القريبة العهد وكذلك حركات مقاومة الاستعمار الناشئة في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.

وقد استمرت هذه المرحلة بهذا التركيز على الصورة المثالية لنخبة الكيان الصهيوني وما لحقت بها من أساطير روج لها البعض مثل أسطورة جبل الصابرا أو الصبار الذي يتسم بالشوك في خارجه وبالطراوة داخله والعصارة والرقة مثل نبات الصبار. وكانت كل هذه الصورة مصنوعة للاستهلاك الخارجي وللجمهور الأوروبي والأمريكي وفي نفس الوقت كانت مصنوعة لتناسب وضع الكيان نفسه، أي وضع تثبيت الاغتصاب للأرض والدفاع عنها وادعاء ملكيتها وتنشئة الأجيال الجديدة على فكرة أن هذه الأرض لهم. وتحت خلفية هذه الأساطير خاض الكيان معاركه مع العرب من 1948 إلى 1967 وأتم مشروع الاستيلاء على معظم أرض فلسطين. ولكن وراء ستار هذه الصورة العامة كانت تجري عملية بناء قوة عسكرية نووية، والأهم منها، ترسيخ الوضع الحقيقي للكيان كعميل للغرب وأداة لتحقيق السياسات والأطماع والمخططات العربية، ولاسيما الأمريكية في المنطقة.

وكانت الرموز الأساسية لهذه الفترة والمعّبر الخارجي عنها من ناحية الصورة هي صورة الآباء الأوائل المزعومين ولاسيما بن جوريون وديان بلبسهم المشهور غير الرسمي أو المتأنق مع وضع ياقة القميص خارج الجاكيت مع وجود منازل لهم في الكيبوتسات.

لكن مع الدخول في مرحلة ما بعد حرب 1967 أخرجت للعالم صورة ومفاهيم أخرى حول الكيان الصهيوني وتجمعت أطرافها ومفرداتها على مر العقود اللاحقة وحتى الآن. تراجعت صورة الكيان الاستيطاني المناضل في الفلاحة والعسكرية لتحل محلها صورة كيان يتسم في المقام الأول بالطابع الحضري.

ولم تعد الزراعة هي قوام الكيان، وحل محلها صورة الكيان في المجال الزراعي على أنه ليس كيان فلاحين بقدر ما هو كيان يبرع في فنون الزراعة المتقدمة وأساليب ابتكار البذور وطرق الري وما شابه، وهي الأساليب التي أفرزت لنا قضايا إفساد وتدمير الزراعة المصرية بواسطة ما زعم أنه ابتكارات صهيونية في المجال الزراعي ولاسيما البذور الهجينة والمبيدات.

ومع تراجع الصورة الفلاحية تراجعت كذلك صورة الكيان المدافع عن بقائه بالسلاح فقط لمجرد مقاومة الأعداء المحيطين به إلى صورة الكيان العسكري بالمقام الأول الذي يصنع الأسلحة ويبتكر فيها ويدير قوة كبيرة للردع والتخويف والغزو والتوسع والتحوّل لقوة إقليمية تمتلك السلاح النووي.

ومع تراجع صورة حركة الاستيطان والكيبوتسات ظهرت صورة الكيان الصهيوني كقوة صناعية تدير مشروعات وصناعات تتراوح من صناعة الماس إلى صناعة الإلكترونيات وبرمجيات الحاسب المتقدمة وبينها الخدمات المالية وخدمات الشحن والنقل وتجارة الترانزيت وأهم منها تصدير الخبرات والخبراء في هذه المجالات الصناعية والخدمية والخبراء في الزراعة والعسكرية المتقدمة.

وكانت الرموز في تلك المرحلة هي الرموز التي تبدو متحضرة وراقية وبعيدة عن الخشونة الفلاحية والعسكرية التي كانت تميز مرحلة الاستيطان وإعلاء الكيبوتسات. وهكذا ظهر لنا الوزراء ورؤساء الوزراء الذين يتظاهرون بأنهم محترفون ومتحضرون ومتعقلون حتى وهم يأمرون بعمليات الدمار البشعة في سائر أنحاء فلسطين ولبنان وصولاً إلى العراق.

ومرة أخرى كانت هذه المرحلة وما اتسمت به من مظاهر ملائمة لوضع الكيان وإحساسه بذاته وتصوره عن نفسه وأدواره سواء التي يحددها لنفسه أو التي يضيفها الغرب وأمريكا له فالإحساس الآن أصبح إحساساً بالاطمئنان للوجود وسط بيئة عربية تزداد في الضعف والقبول بإسرائيل، كذلك فإن الوضع تحول من تأكيد وتثبيت الوجود إلى محاولة القيام بأدوار إقليمية واسعة كقوة كبرى في المنطقة تعمل بالتنسيق مع سياسات الدول الكبرى.

وفي مرحلة تحول صورة وفلسفة الكيان الصهيوني من تثبيت الوجود وترسيخه إلى الانتشار كقوة كبرى ظهرت في الآونة الأخيرة مفاهيم وخطط للشرق الأوسط الكبير أو الجديد وظهر توسع طموح وتوسع النفوذ "الإسرائيلي" المادي والمعنوي إلى أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية ووصول خطط "إسرائيل" العسكرية إلى باكستان وأفغانستان وإيران وإلى وسط آسيا وإلى السودان وإريتريا وأثيوبيا والصومال ودول حوض النيل، وبدأ الحديث حول إدماج إسرائيل في المنطقة ليس كمجرد أحد البلدان فيها ولكن كالبلد القائد والقدوة التي تحتذى والتي تضع الخطط. وبدأ الحديث عن دور إسرائيل في مواجهة ما يسمى بالإسلام المتطرف، كما سمع الحديث ومنذ سنوات طويلة حول اجتماع العبقرية اليهودية مع المال الخليجي والقوة العاملة العربية الرخيصة في مشروع ضخم للنهضة في المنطقة. كل هذه كانت علامات ودلائل ونتائج التحول الكبير الذي حدث في الكيان "الإسرائيلي" وهو تحول أسهمت في حدوثه هزيمة 1967 في المقام الأول ومعها الضعف البادي والمتزايد للكيانات العربية والذي لم تفلح في إيقافه أو في إيقاف التحول الصهيوني إلى وضع القوة الإقليمية نتائج حرب أكتوبر عام 1973.

غير أن هذا العدو "الإسرائيلي" الذي تناقض تماما مع مرحلة الاستضعاف الأولى قد أخذ يظهر دلائل على الانحسار مع الهزيمة في لبنان وقبلها مع الصمود الفلسطيني في غزة والضفة ومع الرفض الشعبي المتزايد للكيان والتطبيع معه حتى في البلاد التي وقعت معاهدات سلام معه مثل مصر والأردن والبلاد التي يخطط لإنشاء علاقات معها مثل دول الخليج والمغرب العربي.