حوار مع عالم الاجتماع الفرنسي ( فانسن جيسير ) حول الاسلامفوبيا الفرنسية
27 ذو القعدة 1424

أجرى الحوار: الحسن سرات- المغرب<BR><BR> رئيس الجمهورية الفرنسية استغل قضية الحجاب للخروج من مأزق سياسي<BR><BR>أكد فانسن جيسير السوسيولوجي الفرنسي صاحب كتاب (الإسلاموفوبيا الجديدة) في حوار معه أن قضية الحجاب في فرنسا تحيط بها رؤية استعمارية لم تتخلص منها الجمهورية بعد، وضاعفت من سوداويتها أحداث 11 سبتمبر 2001م، وأشار إلى أن بعض العلمانيين يتبنون وجهة نظر متطرفة لا تعترف بالدين الإسلامي وتريد التخلص منه، وكشف جيسير أن الاستغلال السياسي للقضية كان محكماً لدرجة أن الحزب الاشتراكي الفرنسي المعروف بدفاعه عن قضايا المهاجرين والمسلمين انزلق في المزايدات السياسية، وتطرق أجوبته إلى صناع الخوف من الإسلام من "المسلمين أنفسهم"، غير أنه أكد في النهاية أن المسلمين استطاعوا تجاوز فخ الانكماش والتهميش، وأنهم انخرطوا في تعزيز النموذج الديمقراطي الفرنسي، وأن المستقبل مشرق أمامهم. يذكر أن فانسن جيسير (باحث في معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي ب"إكس إن بروفانس"cnrs)، وهو صاحب (الإسلاموفوبيا الجديدة)، الكتاب الذي أثار ضجة، واعتبر حدث عام 2003م في مجال التأليف، وفيما يلي نص الحوار:<BR><BR>- لا تتوقف قضية الحجاب عن التعقيد ، هل العلمانية هشة إلى الدرجة التي تشعر بالخطر أمام خمار للرأس؟<BR><BR>- ليس الحجاب في حد ذاته هو الذي يخيف غالبية من الفرنسيين اليوم، بقدر ما أن مصدر الخوف هو الرمز الذي يثيره في المخيلة الوطنية، فعلى الصعيد التاريخي، يمثل الحجاب عند الغرب علامة للجمود والظلامية الدينية: الحجاب الإسلامي عد علامة على دونية المرأة وسطوة الرجال على النساء (الأب والإخوة والأعمام)، وهذا الخيال التاريخي المجانب للحقيقة يمتد بجذوره مباشرة في التجربة الاستعمارية، وقد عد الإسلام لمدة طويلة من لدن الإيديولوجيات الجمهورية بمثابة دين متخلف رجعي، حيث إن استسلام المرأة كان التعبير الاجتماعي الأبرز، والذين ظلوا يمسكون بإيديولوجيا جمهورية خالصة وصلبة اعتقدوا أن مهمتهم هي التحرير إزاء النساء، نزع الحجاب كان في نظرهم بمثابة واجب للتحرر الجنسي والحداثة الاجتماعية، ولم نخرج بعد من هذه الصورة الاستعمارية الجديدة للإسلام.<BR>وعلى صعيد الأحداث المتلاحقة، يثير الحجاب هاجس "الإسلامية" الراديكالية والأصولية، بل "الإرهاب الإسلامي" أيضاً، وفي هذا المستوى كان لهجمات 11 سبتمبر2001م أثر جارح في التمثلات السوسيو سياسية للحجاب يساوي نفس أثر الصراع الدائر في الجزائر، والفرنسيون لم يتخلصوا نهائياً من فكرة أن "الجزائر هي فرنسا"، فكل ما يجري بهذا البلد له انعكاسات مباشرة على حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، ومن خلال الحجاب، ينظر البعض إلى هاجس إرهاب الجماعة الإسلامية المسلحة والمجموعات الإسلامية المسلحة، والفتيات الفرنسيات المرتديات للحجاب ينظر إليهن أحياناً كثيرة على أنهن تحت قبضة المنظمات والحركات المتطرفة، وينبغي أن يقال كذلك: إن كثيراً من المثقفين الجزائريين اللاجئين بفرنسا يساهمون في إبقاء هذه الفكرة الخيالية، فهم يشاركون في صنع تدليس الأنواع بمحاولة إقناعنا بأن ما جرى في الجزائر عام 1991م و2003م سوف يحدث قريباً بفرنسا: الإرهاب والمجازر واغتيال المثقفين "العلمانيين"، ومن وجهة نظر معينة يمكن أن نتحدث عن "جزأرة" للنقاش الفرنسي حول الإسلام، فمن خلال الوضعية الحالية في الجزائر نميل إلى معالجة قضية الحجاب وكل الشؤون المرتبطة بالإسلام، ومجمل القول: إن قضية "علاقة الإسلام- العلمانية" مشكل مغلوط، والخوف من الإسلام السياسي هو الذي يؤدي إلى وصم جزء من المسلمين والفتيات المحجبات بفرنسا كأنهن يمثلن تهديداً حقيقياً لانسجامنا الاجتماعي.<BR><BR>- حسب قانون 1905م لا تعد العلمانية مضادة للدين، غير أنها أصبحت "دينوفوبية" (مصابة بالخوف من الدين). في تحليلكم لماذا هذا التحول؟ ماذا في القضية من خفايا؟ وهل هناك لوبي يضغط في الخفاء؟<BR><BR>- لا. لا أعتقد أن إطلاقاً أن قانون 1905م حول التفريق بين الكنيسة والدولة قانون "دينوفوبي". هو أولاً قانون "تراض" ينظم التعددية الدينية في المجال العام الفرنسي بتصفية العلاقات بين السلطات العمومية والكنائس. في هذا الصدد ما زلت مستمراً في الاعتقاد في أن هذا القانون نموذج في التعايش الاجتماعي لفرنسا، وأوروبا، وحتى لبعض الدول العربية الإسلامية. إنه قانون لا يهدف إلى استئصال الدين. غير أن بعض اللادينيين اليوم يدافعون عن قراءة استبدادية وجذرية لهذا القانون في تقديري، هؤلاء لم يفهموا شيئاً عن روح مشرع قانون 1905م، فلا يوجد في النصوص الفرنسية المؤسسة للعلمانية ما يسمح اليوم بإقصاء الفتيات المحجبات من المدارس العمومية، ومن أجل هذا يريد البعض تغيير القانون أو اختيار قانون للإقصاء يعزز موقفهم من الحجاب، ومن الملفت للنظر أن الذين يريدون مراجعة ميراثنا التشريعي الفرنسي المتعلق بالعلمانية هم "اللائيكيون الغلاة"، وباسم العلمانية "يكسرون" العلمانية الفرنسية بإعطائها دلالة طائفية وتمييزية.<BR><BR><BR>- باختيار حظر الحجاب في خطاب رئاسي يوم 17 ديسمبر 2003م، أعلن جاك شيراك بداية الجولة الثانية من المعركة، ما ذا سيحدث في نظركم؟ وماذا يتعين على المعنيين أن يعملوا؟<BR><BR>- منذ بداية الموضوع، استغل رئيس الجمهورية الفرنسية قضية الحجاب للخروج من مأزق سياسي. كان رئيس الدولة يتخوف من أن يتحول الموسم الدراسي إلى موسم لمظاهرات المدرسين والآباء والطلبة، وكانت الحكومة تتخوف علاوة على ذلك من تجديد الحرب الدراسية. استخدام "تهديد" الحجاب سمح بدفن النقاش الوطني حول مستقبل نظام الدراسة العمومية، أي: أن السلطات الفرنسية اشترت بطريقة ما السلم الدراسي على ظهر المسلمين، والحق يقال: إن هذه العملية نجحت نجاحاً كبيراً. في أواسط مايو 2003م، كان رجال التربية والتعليم على أهبة الاستعداد للانخراط في حركة إضراب لا محدودة، وفي أواخر 2003م اختفت حركة الاحتجاج فجأة: أصبح الموضوع الوحيد للنقاش في المدارس والإعداديات والثانويات هو "تهديد" الحجاب الإسلامي، وعن ترصد ورغبة تم تسييس قضية الحجاب لتغطية المشاكل الحقيقية: أزمة النظام التعليمي العمومي والنتائج الاقتصادية الهزيلة، أما المعارضة الفرنسية، خاصة الحزب الاشتراكي، فقد سقطت في الفخ، وبدل استنكار استغلال موضوع الحجاب لأغراض سياسية، زايدت المعارضة في الميدان الإيديولوجي، بمطالبتها بتشدد أكبر تجاه الفتيات المحجبات، ولهذا فإن المسلمين المؤمنين والملتزمين بصفة عامة، يشعرون بمرارة كبيرة تجاه اليسار الاشتراكي الذي لم يعرف كيف يدافع عن مبادئ حرية الضمير والمعتقد.<BR><BR>- تحدثتم بتركيز ودقة عن التخويف من الإسلام في كتابكم الحديث (الإسلاموفوبيا الجديدة). ما أثارني في كتابك بشكل أكبر هو الفصل الذي سميته (المسلمون الإسلاموفوبيون) الذين يرتبطون بالمصالح الأمنية الجزائرية والأحزاب الفرنسية. كيف تفسرون أن يكون الواحد من هؤلاء مسلماً ومخوفاً من الإسلام في الوقت ذاته؟<BR><BR>- أرجو الانتباه. أنا أتحدث عن "مسلمين يسهلون الإسلاموفوبيا" أكثر من حديثي عن "مسلمين إسلاموفوبيين". في هذا الزمن تسعى بعض النخب الفرنسية ذات "الثقافة المسلمة" إلى بناء سيرة سياسية أو إعلامية، عن طريق ترويج صورة مهينة لإسلام فرنسا، وعن طريق التهويل من خطر الأصولية الإسلامية واعتباره التهديد الأكبر للوحدة الوطنية. أقول في هذه النقطة بالذات: إننا في وضعية استعمارية جديدة، حيث تقوم نخب من بعض الأهالي بالتعاون مع السلطات الاستعمارية بإدانة "الخطر الوطني والمسلم"، ففرنسا لم تغادر بعد حالة "الأهالي"، وتحب أن تشاهد "عربها" يشوهون سمعة العرب الآخرين، ومسلميها يقضون أوقاتهم في الحديث عن "التهديد الإسلامي" في تقديري، هذه النخب ذات الأصل المسلم "المسهلون" للإسلاموفوبيا هم مخلوقات تهفو إلى ترقية سياسية واجتماعية، وهي لا تمثل سوى نفسها فقط، وفي هذا الصدد يحاول بعض الصحافيين الجزائريين اللاجئين إلى فرنسا الحصول على حياة مهنية متخذين من فزاعة التهديد الإسلامي رأس مالهم وأساساً تجارياً لهم، فهم يصدرون في تصرفاتهم عن انتهازية وليس عن اقتناع راسخ.<BR><BR>- حسب كتابكم، لا تتوقف الإسلاموفوبيا عن التصاعد، وتوشك أن تصبح "مودة" كيف يمكن إيقاف هذه الظاهرة؟ ومن يتحمل مسؤولية هذه المهمة؟<BR><BR> مواجهة الإسلاموفوبيا وكل أشكال التمييز العنصري ليست قضية المسلمين، ولكنها قضية كل المواطنين القاطنين بفرنسا. هي قضية وطنية، ويجب الحذر من السقوط في المعركة الطائفية، وبطبيعة الحال، فإن للجمعيات المسلمة "مكانتها" في هذه المعركة، غير أنها يجب أن تتجنب التحرك الفردي الانعزالي. المظاهرات ضد مشروع القانون يجب أن تضم كل المواطنين الفرنسيين المتعلقين بمبادئ العلمانية والجمهورية، وفي هذا السياق أعتقد أنه من اللازم إنشاء "جبهة جمهورية" ضد تصاعد اللاتسامح بفرنسا، ومنه الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية.<BR> لا نواجه الإسلاموفوبيا بـ"الانكماش الطائفي"، ولكن بأسلحة المواطنة والدفاع عن الحريات الأساسية، هذا رهان ديمقراطي ضد كل الذين يريدون تحويل العلمانية إلى آلة حرب ضد المسلمين المؤمنين والملتزمين. أنا لا أومن بحرب الحضارات المستوردة إلى فرنسا، مسلمو فرنسا ينتمون في غالبيتهم إلى الحضارة الغربية. فالإسلام أيضاً في جزء كبير منه الآن "غربي". يجب ألا نسقط في مصيدة من يتمنون جعل الحجاب الإسلامي حرباً حضارية، الفتيات المحجبات مواطنات فرنسيات متعلقات بالحرية والديموقراطية. ومثقفونا الفرنسيون عليهم أن يدركوا هذا التطور، يمكن أن أكون مسلماً فرنسياً دون أن أتنكر لمعتقداتي الدينية.<BR><BR>- قبل أن يحضر الإسلام في القارة الأوروبية، كان المستشرقون وسطاء بين الدين الإسلامي والمواطنين الأوروبيين، الآن تغير هذا، كيف تحللون هذا التحول؟<BR><BR> تبقى فرنسا بلداً رائداً في مجال الدراسات والنتاج الفكري حول الحضارة العربية الإسلامية، وحقيقة أن المستشرقين الكبار أوشكوا على الانقراض التام، هذا أمر مؤسف، ورغم أنهم كانوا يحملون ـ في بعض الأحيان ـ رؤية استعمارية جديدة للإسلام، إلا أنهم ساهموا بمعارف موضوعية حول الدين الإسلامي والمجتمعات العربية المسلمة.<BR> من المحتمل ألا نرى مستقبلاً "رجال العلم الكبار" مثل: جاك بيرك أو لويس ماسينيون، تلك مرحلة قد خلت ونحن في مرحلة جديدة، لكن لدينا حالياً باحثون وجامعيون "مستعربون" يتزايدون بفرنسا، ويشتغلون بتعاون وثيق مع نظرائهم في العالم العربي الإسلامي. من وجهة نظر معرفية، الوضعية ليست مدعاة لليأس، فالأجيال الجديدة من الباحثين والجامعيين عليها أن تساهم في ترويج رؤية أوضح للفعل المسلم عبر العالم، وفي مدى متوسط، يلزم أن يصبح النقاش بعيداً عن الانفعال والهوى، وذلك ما يتطلب وقتاً ضرورياً، إذ المعرفة تنمو وتتطور، والأفكار المسبقة تبقى.<BR><BR>- في زمن "الروحانية الغربية الجديدة" ـ بتعبير عالم الاجتماع فريديريك لونوار، هل يمكن لإسلام فرنسي أو أوروبي أن يتطور، وكيف ذلك؟<BR><BR> الإسلام ينمو ويتطور بفعل نساء ورجال يناضلون ويشاركون بطريقة ملموسة جداً في تنظيم الحياة الروحية لمسلمي فرنسا وأوروبا. الجمعيات المسلمة يتزايد عددها أكثر فأكثر، وتظهر في الفضاء العام أوضح فأوضح. لقد أصبح الإسلام اليوم حقيقة فرونكوفرنسية وأوروبية.<BR> وهو يروي حياتنا العمومية والفكرية، رغم المقاومات والمخاوف، يتعمق العامل الإسلامي في حياتنا في سائر الأيام. بعضهم يرى فيه "خطراً" و"مشكلاً أمنياً عاماً"، وأغلبية المناقشات الأوروبية تدور حول هذه القضية الأمنية: ما العمل حتى لا يتحول الحضور الإسلامي في أوروبا إلى حرب حضارية؟<BR> شخصيا، أنا متفائل: سيعد الإسلام قريباً على أنه دين وروحانية لا تتجزأ من مجتمعنا الفرنسي والأوروبي، والإسلاموفوبيا في نهاية المطاف ليست قدراً محتوماً لن يرتفع. في سنوات معدودات، ستصبح مجرد ذكرى سيئة. في الوقت الراهن الإسلاموفوبيا اختبار يجب النجاح فيه بالذكاء والتعبئة الوطنية. مسلمو أوروبا أدركوا ـ في أغلبيتهم ـ هذا التحدي الجديد، ويرفضون كل انكماش طائفي. إنهم يعلمون أن مستقبل الإسلام سيكون مستقبل مجتمع ديمقراطي، حيث ستؤخذ ديانتهم على قدم المساواة مع الديانات الأوروبية الأخرى.<BR><br>