الحجاب يعود لجامعات تركيا .. معول جديد يدك قلاع العلمانية
27 محرم 1429

لم ينتبه كثيرون لردود الأفعال (السلبية) التي قوبلت بها تصريحات رئيس الأركان التركي وممثل المؤسسة العسكرية علي قيام حزب العدالة والتنمية بتمرير أتفاق مع حزب الحركة القومية في البرلمان يسمح بالحجاب في المدارس التركية في الدستور التركي الجديد، رغم أن تصريحات من هذا القبيل كانت تهدم حكومات في أوقات سابقة ويعقبها انقلابات للجيش العلماني !<BR>فالجيش التركي قاد انقلابات عسكرية مباشرة عامي 1960 و 1980، وضغط على الحكومات لتقديم استقالتها في 1971 و 1997 في الحالات التي استشعر فيها نمو التيار والمطالب الإسلامية والذي يسميه "خطر تقويض مبادئ العلمانية التركية"، وأضطر رؤساء وزراء إسلاميين سابقين للاستقالة بمجرد التلويح بأنه يعارض توجهاتهم.<BR>ولكن هذه المرة - وبعدما نجح حزب العدالة التركي ذي التوجه الإسلامي في انتزاع منصبي رئيس الوزراء ثم رئيس الدولة ودخلت قصر "جنقايا" الرئاسي لأول مرة سيدة محجبة – سعي رئيس الأركان الحالي "يشار بويوكانيت" لممارسة نفس اللعبة علي استحياء عبر تصريحات تعارض ما يعتزمه حزب العدالة من تخفيف الحظر المفروض على ارتداء الحجاب في الجامعات فماذا حدث ؟ .<BR>لم تشهد الأسواق المالية – التي كانت تنقلب سابقا بمثل هذه التصريحات - تغيرا يذكر بعد تصريحات بويوكانيت التي أعرب فيها عن معارضته الضمنية لمشروع تعديل القانون الذي تقدم به للبرلمان، ولم تهتم الصحف بإبراز التهديدات الضمنية لممثل الجيش، ولم تهتز شعره لرئيس الوزراء اردوغان أو الرئيس التركي عبد الله جول في حين لو كانت هذه التصريحات جاءت قبل عشر سنوات لأعدم الاثنان !.<BR>هل تعلمون ما الذي يعنيه ذلك ؟ أنه يعني أن القلعة الأهم في البناء العلماني التركي – أبرزها (الجيش) و(رئاسة الدولة) و(المحكمة الدستورية) و(مجلس الجامعات) – وهي المؤسسة العسكرية هنا.. تضمحل وتنهار وترضخ لتيار التغيير القوي الذي يقوده الإسلاميون عبر التغير الهادئ في تركيا، خصوصا بعدما أصبحت رئاسة الجمهورية للمرة الأولي منذ 80 سنة علمانية يحكمها رئيس ذي توجه إسلامي، وتوشك قلعة ثالثة هي مجلس رؤساء الجامعات في الانهيار .<BR>وكل ما توعد العلمانيون به هو إعلان حزب الشعب الجمهوري (حزب أتاتورك) عن عزمه الطعن في هذا التعديل أمام القضاء بعدما أقره البرلمان بزعم أن مشروع القانون الذي اتفاق عليه حزبي العدالة والحركة القومية "يستهدف العلمانية الواردة في مادة في الدستور لا يمكن تعديلها"، وأنه قد يضر بمبدأ فصل الدين عن الدولة وأن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أيدته في عام 2005 حينما قضت بأن حظر الحجاب في الجامعات التركية لا ينتهك الحريات الأساسية وربما يكون ضروريا لحماية النظام العلماني التركي في مواجهة الحركات المتطرفة !.<BR><font color="#ff0000"> تفاصيل انقلاب الحجاب</font><BR>منذ النجاح الساحق لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات عام 2002 وتعزيز هذا النجاح في انتخابات 2007 بالسيطرة علي 46% من مقاعد البرلمان، وهناك إشارات من العديد من القيادات السياسية داخل وخارج حزب العدالة والتنمية يطالب بإيجاد حل جذري لقضية منع المحجبات من متابعة تعليمهن الجامعي، أبرزها تأكيد رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوجان إنه يرغب في إلغاء الحظر على ارتداء الحجاب في الجامعات "في اقرب وقت ممكن" ضمن الإطار الديمقراطي البرلماني وحان الوقت لان تنتهي هذه المشكلة". <BR>ولأن تعديل المواد التي تمنع الحجاب في الدستور يتطلب ثلثي أصوات البرلمان أي 367 صوتا، وحزب العدالة له 340 مقعداً فقط، فقد سعي الحزب للتفاهم مع أحزاب أخري حول صياغة معتدلة تعزز حريات الطالبات في الجامعات بخصوص الزي، وجاء الفرج حينما أعلن حزب الحركة القومية بزعامة دولت باهتشلي (يمتلك 70 مقعدا في البرلمان ) تأييده إلغاء حظر الحجاب، ما يعني أنه بأصوات نواب الحركة القومية يمكن بلوغ العدد المطلوب لتعديل دستوري يسمح بالحجاب في الجامعات .<BR>أيضا أنضم إلى جبهة مؤيدي حرية ارتداء الحجاب "حزب المجتمع الديمقراطي الكردي" الذي له عشرون نائباً وأيد إلغاء الحظر من منطلق أنها قضية حرية تعبير ما يعني توافر نصاب يعادل 430 نائب من أصل 550 نائبا في البرلمان، وهو نصاب لم يتوافر من قبل في البرلمان للإجماع علي تعديل دستوري ما ! .<BR>وقد أقترح حزب الحركة القومية في البداية تعديل المادة العاشرة من الدستور بإضافة فقرة تمنح المساواة في الحصول على الخدمات العامة في الإدارات والمؤسسات العامة، لكن حزب العدالة والتنمية اعتبر أن هذه الفقرة غير كافية لحل المشكلة لأن قرارات المحكمة الدستورية في حظر الحجاب تربط حظر الحجاب بمبدأ العلمانية وليس بمبدأ المساواة ومن السهل الطعن علي هذا التعديل في المحكمة كما يهدد الحزب الجمهوري العلماني، واقترح حزب العدالة بدلا من ذلك تعديلا دستوريا يعبر بوضوح عن قضية الحجاب مقترحا تعديلات تطال المادتين 13 و42 تشيران إلى أنه "لا يمكن حرمان أي إنسان من حق الحصول على تعليمه العالي بسبب الزيّ"، وإلى أنه "لا يمكن الحدّ من الحريات والحقوق بموجب قانون" .<BR>وهناك ترجمات أخري لنص المادة الجديدة الخاصة بالحجاب في مسودة الدستور الجديد تقول : "لا يحق حرمان أحد من حق التعليم العالي بسبب الملابس التي يرتديها.. ليس هناك أي قيود على نوع الملابس في مؤسسات التعليم الحالي"، فيما تنص المادة الموجودة بالدستور الحالي على أنه لا يحق للنساء اللواتي يرتدين الحجاب دخول مؤسسات التعليم العالي " .<BR>وقد عبر عن مطلب التغيير رجب طيب أردوغان بقوله: "إن المشكلة في قضية الحجاب هي وجود ثغرات قانونية ولا بد من سدّها "، وعقد الحزبان اجتماعات مشتركة دعي لها أطراف أخري بهدف الوصول إلى مقترح مشترك بحيث يتضمن مشروع التعديل الذي يقدم للبرلمان طلبا بتغيير مادتين في القانون يسمحان للطالبات المحجبات بإكمال تعليمهن العالي دون الاضطرار إلى وضع شعر مستعار كما هو الحال حاليا .<BR>وقد مررت لجنة دستورية التعديل المقترح للسماح بحرية الحجاب وسط اعتراضات العلمانيين، وسيتم مناقشة هذه التعديلات في البرلمان يوم 6 فبراير المقبل والتصويت عليها 9 فبراير ليصبح ارتداء الحجاب علنا في الجامعات رسميا لأول مرة منذ حظره قبل 30 عاما وتقنين الحظر في دستور 1980 الذي وضع بعد الانقلاب العسكري في تركيا بقيادة الجنرال كنعان افرين .<BR><font color="#ff0000"> حجاب أناضولي .. وحجاب سياسي! </font><BR>والطريف أن اللجنة الدستورية البرلمانية اضطرت للاستعانة بوسائل توضيحية وصور من أجل التمييز بين إشكال الحجاب بحيث لا يستفز القرار الجيش والعلمانيين ويرضي الأحزاب الأخرى التي وافقت علي عودته .. فالمرفوض هو الحجاب الذي يتم ربطه فوق الذقن من خلال دبوس معدني، لأنه يعتبر رمزا سياسيا للأحزاب السياسية، والمقبول هو غطاء الرأس الذي ترتديه النساء في الأناضول التركي من خلال عقده حول الرقبة تحت الذقن مع كشف جزء بسيط من غرة الرأس !!.<BR>وقد اضطرت حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي للجوء إلى حيل لغوية وصورية من اجل إلغاء حظر الحجاب في الجامعات، والسماح للطالبات المحافظات اللواتي يغطين رؤوسهن، وفقا للعادات والتقاليد (الإسلامية) بالحصول على حقهن في التعليم الجامعي، حتى أن وزير الدولة جميل شيشيك اقتراح توزيع صور تفرق بين الحجابين على الجامعات من اجل ضبط دخول الطالبات المحجبات إلى الجامعة ومنع ما سمي (الحجاب السياسي) من التسلل اليها.<BR> وقالت تقارير صحفية من تركيا أن هذا الجدل الذي وصفه رجال القانون بالتراجيديا - الكوميدية ضروري من أجل إقناع الأوساط العسكرية وقيادتها بالسماح مجددا للمحجبات بالعودة إلى الجامعات في تركيا وعدم إشعارها بالحرج، خصوصا أن رئيس الأركان أعلن أن الجيش لم يغير موقفه الذي يعتبر الحجاب رمزا سياسيا يتنافى استعماله مع النظام العلماني القائم !.<BR>والحقيقة أن حزب العدالة يتحرك فيما يخص القضايا المثيرة للجدال والصراع مع العلمانيين – مثل الحجاب – بذكاء بالغ لا يتعمد استفزازهم أو إطلاق التصريحات الساخنة عن العودة لأصول الدين أو التدين أو "الأسلمة"، وإنما التركيز علي توافق ما يقوم به مع مطالب الشعب المحافظ من حيث السماح بلبس أغطية الرأس أو ما يسمي "الشرشف" التركي الأسود الشهير كما يسمي هناك، والذي يشبه العباءة الخليجية السوداء، والذي لا يزال منتشرا في مناطق تركية متدينة ومحافظة عديدة خصوصا في الشرق واسطنبول .<BR>ورغم حالة الضعف الواضحة للمؤسسة العسكرية والعلمانيين الأتراك حاليا عن زى قبل بفعل التغيير الهادئ لحزب العدالة، فالحزب بضع هدفا أمامه هو تجنب الصدام مع المؤسسة العسكرية التي سبق أن أحبطت تجربتين مماثلتين العام الماضي قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، حينما أصدرت تصريحات نارية محذرة من المس بالنظام العلماني، ويسعي لتوريط هؤلاء العسكريين والعلمانيين المتطرفين في تصريحات صادمة للمجتمع التركي وتقاليده بهدف تعزيز وجوده في الشارع وتقليص دور العلمانيين (كما حدث في انتخابات البرلمان الأخيرة )، خصوصا أن حزب العدالة يضرب علي وتر التقاليد والعادات التركية (التي هي أصلا إسلامية) ويبدو واقعيا، في حين يضرب خصومه من الأحزاب العلمانية علي فكرة أن الحجاب جزءا من مؤامرة سياسية خفية يسعى من ورائها رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان لتحويل تركيا بالتدرج من جمهورية علمانية إلى نظام إسلامي .<BR>ومع أن التوقعات تشير لنجاح حزب العدالة مع حزبي الحركة القومية والحزب الكردي في تمرير هذا التعديل الدستوري لصالح الحجاب، فسوف تتبقي مشكلة المواجهة المرتقبة مع العلمانيين في المحكمة الدستورية، خصوصا أن جامعات تركية وقاضيان أظهرا معارضتهما لهذا التعديل، فضلا عن مخاوفهم من أن يمتد هذا التعديل ليشمل المدارس والمقار الحكومية لاحقا، وهو أمر متوقع في ظل التغيير التدريجي الهادئ الذي يسعى له حزب العدالة .<BR>ولو تحقق هذا التغيير – الذي يتضمن مواد أخري في الدستور غير الحجاب – فسيكون هذا هو رابع دستور تركي معدل، إذ أن الدستور الحالي هو الثالث في تاريخ الجمهورية التركية، والأول اقر عام 1923 خلال حكم مصطفي كمال أتاتورك، فيما أقر الثاني عام 1961 خلال حكم عصمت إينونو، والثالث (الحالي) بعد انقلاب الجنرال كنعان افرين 1980، كما أن الكثير من مواد الدستور التركي تم تغييرها خلال السنوات العشر الماضية في إطار جهود الانضمام للاتحاد الأوروبي، ولن يتبقى سوي الاستفتاء الشعبي عليه بعد موافقة البرلمان لتقترب تركيا رويدا رويدا من الجمهورية التركية الثانية ذات التوجهات الإسلامية وتبتعد عن الجمهورية الأولي – جمهورية أتاتورك – الموغلة في العلمانية .<BR><BR><br>