أنابوليس: درس في استراتيجيات التفاوض!
20 ذو القعدة 1428

المفاوضات لا تحمل في ذاتها قوة، بل هي إقرار بما انتهت إليه الصراعات فعلياً.. على أرض الفعل العسكري أو الاقتصادي.. إلخ. وهي قد تكون بمثابة إعلان من طرف بعد قدرته على مواصلة الصراع على الأرض مع الطرف الآخر، كما هي قد تجري حين تلوح عوامل ضعف في موقف أحد الأطراف فيسابق إلى طلب التفاوض مع الآخر مستخدماً ألاعيب الدبلوماسية والإعلام للتغطية على ضعفه، أو طمعاً وانتظاراً لتعديل موازين القوى لصالحه. وفي بعض الحالات هي تأتي تلبية لمصالح الطرفين المتفاوضين – التي يخفيها كل طرف عن الآخر – إذا كان الطرفان قد وصلا إلى قناعة بعدم قدرة كلاهما على هزيمة الآخر على الأرض في مرحلة بعينها، وقد كان نموذجها العالمي الأهم هو مفاوضات الحد من التسلح خلال الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة.. إلخ.<BR>وإذا كان يُقال أن الحرب هي امتداد للسياسة لكن بوسائل العنف، فإنه يمكن القول أيضاً، أن المفاوضات هي امتداد لنتائج الفعل العسكري، وفق الحقائق التي يفرضها الطرف الأقوى على الأرض، فإنها حين تعقد بين طرف مقاوم وآخر محتل، تكون شروط نجاحها هي الاعتراف المسبق للاحتلال "بالهزيمة" الكلية أو الجزئية من ناحية، وصلابة إيمان المفاوض من طرف المقاومة بقدرتها على تحقيق الانتصار الكامل والنهائي، وقيادة المفاوضات وفق عوامل التطور الجاري على الأرض في عمل المقاومة. وفي ضوء كل ذلك فإن مشكلتنا في مفاوضات "أنابوليس"، أو في مؤتمر الخريف، هي من نوع مختلف عن كل المفاوضات وأنواعها وأشكالها، أو هي الحالة الأخطر، إذ الطرف المفاوض باسم فلسطين هو الطرف الذي حاول ويحاول إضعاف أهم عوامل القدرة الفلسطينية على فرض الحقائق على الأرض أو هو الطرف الرافض لدور المقاومة والمعادي لها، وفي ذلك أشد مكامن الخطر.<BR>والحاصل، أن مفاوضات "أنابوليس"، جاءت بدعوة أمريكية وبموافقة إسرائيلية وبتلبية من قِبل محمود عباس الذي اعتبر أن المفاوضات هي طوق النجاة له من حالة الضعف والتراجع المتصاعدة له ولمن معه، أمام تيارات أصيلة تمثل الشعب الفلسطيني، بذل كل جهوده في إضعافها فلم يتمكن، فجاءت له الدعوة من عدو المقاومة فلباها، ليتقوى في مواجهة المقاومة لا في مواجهة "الخصوم".<BR>هنا الإشكالية الأعقد، وحالة التفاوض الأشد غرابة وخطورة، إذ المفاوض لعدو الشعب الفلسطيني، باسم الشعب الفلسطيني، هو ذاته الذي واجه المقاومة الفلسطينية والفصائل المعارضة والمعادية لإسرائيل، وأعلن حرباً عليها باستخدام السلاح!.<BR>هنا تجري المفاوضات بين الطرف العدو، والطرف الرافض بأن يكون للشعب الذي يفاوض باسمه قدرة على فرض الحقائق المقابلة للحقائق التي يفرضها العدو على الأرض، وهنا يكون طبيعياً أن تكون نتائج المفاوضات، ليست إلا تنظيماً لمكاسب العدو الصهيوني، وتدعيماً لمواقف ودور عباس، وكلاهما يأتي على حساب الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة.<BR><BR><font color="#0000FF">تحضير مسرح التفاوض</font><BR>إشكالية أن الطرف المفاوض باسم الشعب الفلسطيني، هو أقرب إلى العدو الذي يفاوضه وأبعد أو أشد عداءاً للقوى المقاومة في هذا الشعب، هي ما حكمت إعداد المسرح السياسي لبدء التفاوض.<BR>كان شرط الولايات المتحدة والكيان الصهيوني للتفاوض مع عباس، هو أن يتخذ مواقفاً وأفعالاً عدائية مباشرة وواضحة ضد المقاومة. أو بالدقة كان الشرط هو أن يقوم هو ومن معه بإضعاف قوى المقاومة التي تقف ضد فرض الشروط الأمريكية والصهيونية على الشعب الفلسطيني، حتى يمكن للتفاوض أن يجري دون ضغوط موازية للضغوط التي تفرض على عباس من الشعب الفلسطيني، أو لنقل، أن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، لم يقبلوا التفاوض مع عباس، قبل أن يساهم هو في إعداد الظروف المواتية لهم لكي يتفاوضوا، معه كي يوقع.<BR>كانت تلك الرؤية في إعداد المسرح للتفاوض، هي الأساس الذي دفع عباس ودحلان ومن لف لفهما، إلى الدخول في حالة التصفية العسكرية لحماس في غزة، ومن قبلها إلى تصعيد الصراع مع حماس، وفق نظرية الفوضى البناءة ما بعد تحقيقها الأغلبية في الانتخابات التشريعية في مطلع عام 2006 .<BR>في البداية وعقب الانتخابات الفلسطينية تركز جهد عباس ودحلان ونبيل عمرو على التمكين لتيارهم في داخل حركة فتح، أو في إنهاء سيطرة القيادات السابقة والانقلاب عليها، خاصة بعد أن تعرض رموز هذا التيار الانقلابي إلى حالة مواجهة خطيرة من قِبل التيار الآخر (الموالي لعرفات وخطه) داخل فتح خلال الانتخابات التشريعية، وصلت حد التقدم بقائمة مستقلة من داخل حركة فتح عن قائمة عباس ودحلان، وهو ما جاء امتداداً لترشح مروان البرغوثي للرئاسة الفلسطينية ضد عباس نفسه.<BR>انتهى الأمر في داخل فتح لعباس وأعوانه، فكان بدأ الصراع مع حماس، بالتناغم والتفاهم والتنسيق مع الخطط الأمريكية والصهيونية. جرى تحميل حماس نتائج عدم وصول الدعم المالي من الخارج، وجرى تأليب الموظفين والجمهور العام ضد حماس، كما تطورت أحداث ووقائع "الفلتان الأمني" التي كانت العناصر المرتبطة بذاك التيار في فتح هي الأوسع قياماً بها.. حتى وصل الأمر للصدام العسكري، الذي جاء صراحة، تنفيذاً لخطة الجنرال الأمريكي دايتون، الذي أوكلت الإدارة الأمريكيه له.. صراحة، إطاحة سيطرة حماس في غزة.<BR>انتهى الأمر إلى حماس في غزة – على خلاف ما خطط له – لكن ذلك رغم كونه انتصاراً، إلا أنه مثل خطوة متقدمة من جانب آخر، لعباس ودحلان ونبيل عمرو "للاستقلال" بالقرار في التفاوض مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة دون ضغط من داخل مؤسسات السلطة، وقد كان ذلك هو الأمر الأهم بالنسبة لهم.<BR>وفي المقابل، كانت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني تعدان المسرح للتفاوض أيضاً، فإلى جانب المشاركة في الدفع للقضاء على حماس عسكرياً أو إقصائها من هيكل السلطة، ليستقل عباس ومن معه بالقرار في التفاوض والتوقيع، كانت هناك قرارات وخطط تنفيذية أخرى، أهمها، منع كل فعل عربي أو داخلي من شأنه أن يحسن العلاقات بين فتح وحماس، وتشديد العزل والحصار على غزة، وإعلانها كياناً معادياً لإحكام الحصار الدبلوماسي والسياسي والاقتصادي عليها، ومنعها من أن تصبح "ممثلاً رسمياً" للشعب الفلسطيني!.<BR><BR><font color="#0000FF">بدء التفاوض</font><BR>في بدء التفاوض جرى تقديم دعم سياسي وإعلامي محدود لعباس، تمثل في إقامة قدر من الاتصالات السياسية معه، مع إطلاق سراح حفنة من المعتقلين الفلسطينيين في المعتقلات الصهيونية، وإطلاق مبادرات لدورية اللقاءات بينه ورئيس وزراء الكيان الصهيوني مع إشاعة أكبر قدر من الغموض حول طبيعية اللقاءات والتحركات الجارية بين الطرفين.<BR>ثم جرى الانتقال خطوة أبعد، بعد مؤشرات "حسن النوايا" تلك. كانت الخطوة في هذه المرة باتجاه الموقف العربي، إذ بعد أن جرى تمهيد سابق خلال اجتماع القمة العربية الأخيرة بالضغط باتجاه تفعيل المبادرة العربية – وهو ما نجح – وكانت الخطوة الجديدة هنا اختبار إمكانية التحول من تفعيل المبادرة العربية "كلامياً" إلى أخذ الخطوات الواردة فيها بشأن تطبيع العلاقات العربية جماعياً، إلى حيز الفعل لا القول فقط.<BR>ثم جرى التحرك باتجاه الوضع العربي والفلسطيني دفعة واحدة، من خلال مبادرة أمريكية جديدة، تجمع مساري التطبيع العربي الشامل والتنازل الشامل من قِبل عباس، وليكون كلاهما غطاء للآخر. وفي ذلك كان اختيار توقيت المبادرة لتأتي في ذكرى زيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس.<BR>في خطاب المبادرة لعقد مؤتمر الخريف – الذي عدل ليصبح اسمه مؤتمر "أنابوليس" فيما بعد – كان بوش واضحاً في صياغته للبنود الجوهرية التي تمثل نقطة الانطلاق، إذ أشار إلى رؤيتين في الساحة الفلسطينية، أحدهما رؤية عباس وفياض، والأخرى رؤية حماس.<BR>وهكذا بعد انطلاق المبادرة وضمان الموافقات (العربية والفلسطينية)، بدأت السياستين الصهيونية والأمريكية في طرح الشروط وتحقيق المكاسب، بإعلان أقصى قدر من التشدد.<BR>طرح الكيان الصهيوني شرط موافقة عباس وفياض على إعلان الكيان الصهيوني دولة يهودية، بما يعني إنهاء كل حديث حول عودة اللاجئين، بل بما يمنح غطاءاً من عباس وفياض لعملية طرد للفلسطينيين الذي تمسكوا بأرضهم في فلسطين المحتلة عام 48 ، وبعدها جرت زيارة وفد صهيوني رسمي إلى مكان الحفريات تحت المسجد الأقصى لإشعار الجميع بنهاية "فكرة" القدس المقسمة أو "حلم" موافقة القيادة الصهيونية على إعادة الأقصى للعرب والمسلمين. جرى هذا وغيره بينما كان "الراعي" الأمريكي، يلعب لعبته التقليدية التي جرت في كل المفاوضات السابقة، من ناحية يقدم الضمانات للكيان الصهيوني التي اشتملت على ضمان أمنها وعدم قيام أية دولة فلسطينية ذات سيادة وعدم عودة اللاجئين وعدم تقسيم القدس، وزاد عليها هذه المرة ضمان الولايات المتحدة عدم قيام أي برنامج نووي عربي يهدد تفرد الكيان الصهيوني بامتلاك الأسلحة النووية. ومن ناحية أخرى، تعمد الراعي الأمريكي الغموض الشديد، حول وقائع المؤتمر وأهدافه وبنود المناقشة والتفاوض والمدعوين، حتى اللحظات اللحظات الأخيرة، لتقليل الضغوط الشعبية على الحكومات.<BR>ووفقاً لذلك، صار العرب وعباس وفياض، يطالبون بمعرفة ما يجري بأكثر مما يناقشون، حتى ظهرت الحقائق في الضمانات وفي طبيعة المطلوب من المؤتمر، بعد أن وافقت الأطراف العربية على الذهاب والحضور "علانية"، وبعد أن كان أولمرت وعباس قد وصلا بالفعل مقر التفاوض في "أنابوليس".<BR>وهكذا تحقق المبدأ القائل، أن المفاوضات محصلة لأوضاع القوى على الارض، وأن ما يسبق الجلوس إلى مائدة المفاوضات، هو ما يحكم نتائج طاولة المفاوضات. وهنا ظهر أن المشكلة الجوهرية التي نعاني منها هي أن المفاوض باسم الفلسطينيين أبعد عن شعبه وأقرب إلى الطرف الآخر.<BR><BR><font color="#0000FF">النتائج الحقيقة</font><BR>ليست العبرة في مثل تلك المفاوضات، بما يقوله المفاوضون أو ما يعلن في خطاب الافتتاح ولا حتى ينشر في نهاية المفاوضات من بيانات، إذ أن البنود التفاصيل الحقيقية لأية مفاوضات لا تظهر إلا بعد سنوات وربما لا تظهر إلا عند الكشف عن الوثائق السرية للدولة.<BR>وإذا كان المثل يقول "الخطاب يفهم من عنوانه"، فإن عنوان المفاوضات يشي بنتائجها بغض النظر عن التصريحات والخطابات، التي هي بالدقة، أشكال من الدعاية المقصودة والمخططة، لتحقيق نجاح المفاوضات لدى الرأي العام، وهو ما يندرج تحته حتى الادعاءات بالتشدد وبعدم نجاح المفاوضات في بعض الأحيان، خاصة من الطرف الأضعف.<BR>وأول النتائج الفعلية للمفاوضات التي تحققت قبل بدء التفاوض، هي أن الانقسام الفلسطيني بات يدار على أساس دولي، أو وفق شروط وقواعد محددة من أعداء الشعب الفلسطيني، وفي ذلك حقق الكيان الصهيوني أهم بنود استراتيجيته التي قامت منذ بداية قيام الكيان الصهيوني وحتى الآن على فعل التقسيم للشعب الفلسطيني على صعيد المكان (اللاجئين في دول الشتات – غزة والضفة)، وعلى صعيد الاقتراب والابتعاد عن الأساليب الصحيحة لمواجهة الكيان الصهيوني.<BR>كما يمكن القول بأن نتائج أوسلو الجوهرية تتحقق الآن، وأساسها إنهاء التوحد الفلسطيني بين الضفة وغزة، وإثارة التناقض بين الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 67 والآخرين في الأراضي المحتلة عام 48، إذ أن موافقة عباس على "يهودية الدولة" تعني تقطيعاً للتوافق والتضامن بين الكتلتين السكانيتين الفلسطينيتين.<BR>وثاني النتائج الفعلية للمفاوضات قبل بدئها، هي أن العرب لم يعد من بينهم من لا يوافق على تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني فعلاً أو كلاماً، وفي ذلك نجح الكيان الصهيوني في تركيع الرفض العربي لهذا الكيان الإجرامي والعدواني والغريب عن حضارة وهوية وجغرافيا المنطقة، أو بالدقة نحن أمام تحول استراتيجي شامل للموقف الرسمي العربي. كان موقف بعض الدول قد ظل محافظاً على اللاءات الثلاث (لا صلح – لا تفاوض – لا اعتراف) عقب كامب ديفيد، ثم تغيرت الأوضاع جزئياً بانضمام الأردن واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بقيادة عرفات، والآن يدخل النظام الرسمي العربي بإجماع (الجامعة العربية)، على التطبيع، وكما هو معروف أن ذلك يعني أن بعض الدول ستدخله فوراً والبعض سيتباطئ، لكن المحصلة هي نهاية فكرة المقاطعة.<BR>وثالث النتائج الفعلية للمفاوضات قبل بدئها، هي أن التيار الانقلابي في فتح قد بدء مخططه "للحل النهائي" للقضية الفلسطينية، أو كما يُقال للتصفية النهائية للقضية الفلسطينية، تحت غطاء عربي كبير، بما يضعف فكرة المقاومة.<BR>ورابع النتائج الفعلية للمفاوضات قبل بدئها، هي أن غزة أصبحت محاصرة بمواقف رسمية عربية مرتبطة باتفاقات أو مفاوضات جارية مع أعداء حماس المسيطرة على غزة، بما يجعل الفعل والقدرة العربية على إضعاف الحصار عليها، لا تزيد على قيمة الرقم صفر.<BR><BR><br>