العدالة والتنمية على الطريق الصحيح
9 رجب 1428

فاجأت المحكمة الدستورية التركية الجميع بإقرارها في الخامس من يوليو 2007 انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام المباشر بدلاً من النظام الحالي وهو انتخابه عبر البرلمان بعد أن أعاد (الرئيس التركي) أحمد سيزار التعديل إلى البرلمان مرتين لإعادة النظر فيه لكن البرلمان صدق عليه في العاشر من يونيو/حزيران الجاري بأغلبية الثلثين، ولم يكن أمام سيزار إلا طريقتان وهو أن يدعو إلى استفتاء شعبي أو التوجه إلى المحكمة الدستورية لحجب الرئاسة التركية عن حزب العدالة والتنمية . فقد اعتبرت المحكمة أن تعديل القانون الذي ينص على انتخاب الرئيس بالاقتراع الشعبي المباشر قانوني ودستوري ولن يؤدي إلى صراع صلاحيات بين الرئيس والبرلمان، كما ادعت المعارضة.<BR>إلا أن الواضح أن الرئيس أحمد نجدت سيزر لم يشأ أن يخوض غمار معركة خاسرة لأنه يدرك ألا حجة له عليه، فاختار أن يرمي بالكرة في ملعب المحكمة الدستورية حتى لا يتحمل وزر تعديل دستوري لا يرضى عنه، وقد يذكره تاريخ العلمانية بأنه من سلم مفاتيح القصر الجمهوري لغير أهله من العلمانيين. <BR>المنطق الواقعي يقول أنه المحكمة الدستورية التي عرف عنها تشبثها ودفاعها المستميت عن طبيعة النظام العلماني إذا ما حكمت بما يخالف رأي حكومة العدالة والتنمية لكان مقبولاً عند الشارع التركي بدعوى أنها رأت في ذلك ذوداً عن تركيا الكمالية، وما كان بالإمكان أن يحاججها في ذلك أحد، فالمحكمة إلى جانب المؤسسة العسكرية والرئاسة يمسكون بقبضة من حديد على الدولة منذ نشأتها. <BR><BR><font color="#0000FF">أصوات علمانية فارغة </font><BR>وظفت القوى العلمانية بمختلف فئاتها وأصنافها كافة جهودها وإمكانيتها للحد من نفوذ حزب العدالة والتنمية من خلال المظاهرات الحاشدة تارة والتهديد بالتدخل لحماية المبادئ العلمانية تارة أخرى وبنسج التحالفات مع القوى اليسارية والمعارضة تارة ثالثة ضد إقرار حق دستوري في الترشيح لرئاسة الجمهورية في انتخابات ديمقراطية تنافسية شعبية مباشرة حرة ونزيهة مع مرشحي الأحزاب الأخرى. وجاء بعدها دور الرئيس أحمد سيزار-الذي كان من المفروض أن يخلي مقعده في مايو الماضي- للبدء بالمساجلات القانونية والدستورية المضنية، وبعد موافقة البرلمان التركي على مشروع التعديلات الدستورية المقدم من حزب العدالة والتنمية، رفض الرئيس التصديق على قرار البرلمان، وطعن الرئيس سيزر ومعه المعارضة أمام المحكمة بعدم الدستورية، ولوح جنرالات الجيش بالتهديد.<BR>وخلال السنوات السبع من ولايته لم يكن سيزر المعروف بثوابته العلمانية متساهلاً مع حكومة أردوغان، بل جعل الأمور صعبة بالنسبة إليها وخصوصاً عبر رفضه تعيين شخصيات قريبة من التيار الإسلامي في مناصب مهمة في الإدارة، ومن خلال استخدامه حق الفيتو ضد مشاريع مثيرة للجدل تهدد في نظره مبادئ العلمانية.<BR>وساعده على ذلك ما يتمتع بع منصب الرئيس من صلاحيات مهمة تخرجه عن طابعه التشريفي، فهو يتميز بمجموعة واسعة من المهام التي تؤثر لا محالة في سير الحكم على مختلف المستويات، فهو من يعين السفراء، وقضاة المحكمة الدستورية، ورؤساء الجامعات، إلى جانب كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأحد محاور العلمانية الذي يغذي فلسفة الدولة الكمالية وحماية الدستور، بالإضافة إلى ما يضطلع به من مسؤوليات في مجال إصدار القوانين، وهذا ما يجعل منصب الرئاسة التركية قلعة علمانية حصينة لرمزيتها للتراث الأتاتوركي . ومن المتوقع أن يتم الاستحواذ على هذا الحصن في الاستفتاء القادم بعد عدة أشهر، ويكف أيدي العلمانيين عن الاستئثار بهذا المنصب. <BR><BR><font color="#0000FF">ماهية التعديلات </font><BR>ربما نحن اليوم بالفعل أمام هزة تزعزع أركان الأتاتوركية التي أخذت تترنح تحت وقع التحول الكبير والطبيعي الذي حدث في كيانها السياسي والاجتماعي منذ أن شق الحزب الحاكم عصا الطاعة على سدنة النظام العلماني، وبهذا المعني أصبح رجب طيب اوردغان رجل المرحلة والنموذج الحي الواقعى والواعي للتعامل مع قضايا شعبه بصدق وصبر، ليثبت جيل حزب العدالة والتنمية مقدار النضج السياسي عندهم في التعامل مع الواقع وإدارته من خلال قوانينه لا من خلال ما في أوهامهم وأحلامهم . فقد دخل أردوغان ورفاقه معركة دستورية وسياسية عرفوا كيف يحددون فيها الأهداف والوسائل التي لم تخلو من السياسة والأيديولوجيا، بعد أن حاصروا غرماءهم بالحجج القانونية الدامغة وبطريقة سلمية تماماً في إطار قواعد اللعبة التي تحددها الديمقراطية التركة نفسُها. <BR><BR><font color="#0000FF">حزب العدالة وإدارة الأزمة </font><BR>استطاع حزب العدالة والتنمية أن يدير دفة الأزمة التي عاشتها الساحة التركية على خلفية الانتخابات الرئاسية بكل بحنكة وبراعة متناهيتين ، ففي أعقاب موافقة المحكمة الدستورية للدعوى الشكلية لأحزاب المعارضة العلمانية واليسارية بتأييد من رئيس الدولة التركي نجدت سيزار بإلغاء نتائج الاقتراع البرلماني لصالح مرشح حزب العدالة والتنمية الدكتور عبد الله جول لرئاسة الدولة لعدم اكتمال نصاب الجلسة، ورغم الاستياء العارم الذي ساد أعضاء الحزب وأنصاره الموزعين على أرجاء الأناضول من قرار المحكمة التي وأدت به مواد الدستور التركي، جاء سلوكهم في صالح تثبيت دعائم الديمقراطية وتأمين الاستقرار والسلم الاجتماعي فعمد جول إلى إعلان انسحابه من الترشيح للرئاسة رغم أن النظام البرلماني توافقا مع الدستور الحالي يتيح عقد الجلسة الثالثة والأخيرة للاقتراع الرئاسي دون النصاب القانوني .<BR>في المرحلة التالية دعا حزب العدالة والتنمية إلى انتخابات تشريعية مبكرة في 22 يوليو الجاري، وطرح مشروعه لتعديل الدستور لاختيار الرئيس بالانتخاب الحر المباشر من الشعب مباشرة ، ورأى قادة الحزب أن هذه الخطوة أصبحت حتمية خصوصا بعدما وضعت المحكمة بحكمها الشكلي حائطا مسدودا أمام إمكانية انتخاب الرئيس الجديد في البرلمان في ظل استمرار عرقلة الاقتراع البرلماني.<BR>والظاهر أن التعديلات التي طرحها حزب العدالة والتنمية، لا تكتفي بالإجراء الشكلي للانتخاب المباشر للرئيس من قبل الشعب فحسب، وإن كان هذا في حد ذاته إنجازاً عظيماً، وإنما في تقليص صلاحياته. وربما فهم الحزب أنه يدخل معتركاً قد يجر عليه الوبال، فالحنكة السياسية لقادته جعلته يخوض هذه المعركة تدريجياً باستخدام أوراق جديدة كلما انتقلت اللعبة من مستوى إلى آخر، فقد جعل الحزبُ من تقليص صلاحيات الرئيس عنوان حملته الانتخابية البرلمانية، حتى لا يُتهم بأنه يسعى إلى الاستحواذ على مؤسسة الرئاسة، وهو قريب من افتكاكها فعلاً. ولكنه أراد ألا يكون للرئيس تأثير كبير كيفما كان توجهه. <BR>وبلا شك حرص الحزب الذي يتمتع بشعبية ساحقة ويهيمن بانتخابات ديمقراطية على السلطتين التشريعية والتنفيذية على أن يترك أمر اختيار الرئيس التركي للقاعدة الانتخابية العريضة بصورة ديمقراطية بعيدا عن الترهيب الأمني أو الإرهاب الفكري وكسر احتكار الطغمة العلمانية لهذا المنصب الحيوي . ويحسب لهم في هذا الإطار حرصهم الشديد لتجنب حالة من الانقسام الوطني في الشارع التركي في ظل اتجاه الأمور للتصعيد بفعل دعاية عمياء أثارت حالة من الهلع غير المبرر انتابت القوى العلمانية واليسارية فأعطى بذلك درسا بليغا في الوطنية بتغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية ، ودرسا بليغا أيضا في الديمقراطية حين أتبع هذا الانسحاب بمشروع تعديل للدستور بالعودة إلى الشعب مصدر كل السلطات لانتخاب الرئيس. <BR>وهذا الموقف يحسب للحكومة الحالية، التي كان بإمكانها ألا تسعى إلى تقليص هذه الصلاحيات ما دامت حظوظها وافرة في تقلد المنصب، ولكنها أرادت طمأنة الجميع بأنها لا تريد الاستئثار بالرئاسة، وهي التي يمكنها أن تبسط يدها على كل المؤسسات، وهي حققت الرفاه الاقتصادي والاستقرار السياسي للبلاد لفترة طويلة، وانتصرت في الصراع القانوني السياسي الذي جعلها تكسب تعاطفاً أكبر.<BR>اللافت أن هذا الاحتدام وهذا التنازع جرى ويجري من دون إراقة قطرة دم واحدة. ومن دون الانزلاق لعنف أو التهديد به. مع أن ما يحدث هو بمثابة صراع على السلطة وليس أقل من ذلك، بين العلمانيين والقوميين واليساريين وعشرات الجمعيات والهيئات الاجتماعية من جهة، وبين حزب العدالة والتنمية، وأنصاره من الطبقة الوسطى والريفيين وفقراء المدن من جهة ثانية. كما أنه تنازع ديمقراطي محكوم بالدستور وآلياته، وبالمبدأ الراسخ للتداول السلمي على السلطة. وهو ما أدركه وما يتقيد به حزب العدالة كأي حزب آخر، وبعدما باتت الضوابط الديمقراطية في منزلة مناخ سائد وثقافة عامة وتقاليد وطنية<BR> <BR><font color="#0000FF">خريطة طريق الانتخابات الرئاسية</font><BR><BR>إذن قضت المحكمة بما يغيض حلفاءها بإقرار التعديلات الدستورية التي تضمنت النقاط التالية: <BR>1) انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة أيضاً بانتخاب شعبي. <BR>2) تقصير مدة مجلس النواب من خمس إلى ست سنوات. <BR>3) اعتبار النصاب القانوني لأية جلسة نيابية مهما كان نوعها هو الثلث أي 184 من أصل 550 نائبا. <BR>إذن ، يعتبر هذا القرار سابقة مهمة وتاريخية تنبئ بحدوث تحول كبير في النظام السياسي التركي مستقبلاً، فلم يعد باستطاعة أقطاب العلمانية التصدي للإصلاحات وباتوا مرغمين على التعاطي معها لانتخاب الرئيس بالاقتراع المباشر.<BR>وأصبح الأمر متوقفا على تأييد الشعب التركي للتعديلات الدستورية حتى تبدأ العدة للتحضير لانتخابات الرئيس الجديد ، وهذا يتطلب بعض الوقت بحيث قد يصل إلى ثلاثة أشهر وهذا يعني أن الرئيس الحالي سيزير سيبقى في منصبه على الأقل من أربعة إلى سبعة أشهر أخرى إضافية علما أن ولايته انتهت في 16 مايو الماضي. ولا يتحقق في حال واحدة وهو نجاح البرلمان المقبل الذي سينتخب في 22 يوليو الجاري في انتخاب الرئيس الجديد. <BR>ذلك أن الذهاب إلى استفتاء على التعديلات في أكتوبر المقبل لا يلغي حسب الدستور أن يعمل البرلمان الجديد على انتخاب رئيس جديد خلال شهر من ظهور النتائج النيابية. وهنا ستجري الانتخابات وفق القانون الحالي. أي المطلوب نصاب للجلسة لا يقل عن 367 نائبا. فإذا نجح حزب العدالة والتنمية تأمين هذا النصاب بشكل أو بآخر وانتخاب الشخص الذي يريد وإذا وافق الشعب في 21 أكتوبر على انتخاب الرئيس من الشعب يتم انتخاب الرئيس المقبل من الشعب بعد انتهاء ولاية الرئيس الذي قد ينتخبه برلمان 22 يوليو وهي حسب القانون الحالي سبع سنوات. <BR>أما إذا لم ينجح البرلمان الجديد في انتخاب رئيس جديد فيُحل البرلمان فورا وتتم الدعوة إلى انتخابات جديدة قد يكون موعدها مزدوجا مع الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 21 أكتوبر ويكون الرئيس المقبل حتما بانتخاب شعبي. <BR>ويعني قرار المحكمة العليا أن حكومة حزب العدالة والتنمية أصبح لديها خياران هما انتخاب رئيس الجمهورية عبر البرلمان الجديد الذي سينتخب في 22 الشهر الحالي، والخيار الثاني هو الدعوة بعد الانتخابات البرلمانية لإجراء الاستفتاء الشعبي لانتخاب الرئيس من قبل الشعب. <BR>والمرجح أن يوافق الشعب على التعديلات الدستورية لتدخل تركيا ثورة دستورية تعتبر بجميع المقاييس تغييراً جذرياً في النظام السياسي في تركيا. فكرة التغيير أنه يخرج انتخاب الرئيس من إمكانية الضغوط والابتزاز الذي تمارسه المؤسسة العسكرية على النواب لتغيير مواقفهم فيما لا يستطيع احد الضغط على أربعين مليون ناخب وهذا الواقع يضعف تأثير الجيش في الحياة السياسية في أحد ابرز مجالاتها. <BR>كما أن انتخاب رئيس من الشعب لا ينسجم مع توجهات هذه المؤسسة والعلمانيين في الدولة يضع معظم المؤسسات غير المنتخبة خاصة المحكمة الدستورية ومجلس التعليم العالي وعدداً كبيراً من التعيينات تحت إرادة الرئيس الذي يستطيع إن أراد تنظيف هذه المؤسسات من القوى المتعصبة والمعادية للإسلام وللحريات. <BR>وفي هذه الحالة ، ليس من المستبعد أن يترك القرار تأثيره على مجريات الحملة الانتخابية الحالية. فمن جهة سيرى حزب العدالة والتنمية انه انتصر في معركة تحدى بها القوى المناوئة له وسيسعى حزب العدالة والتنمية إلى اغتنام فرصة تاريخية للفوز بثلثي أصوات البرلمان لضمان وجود رئيس من جانبه ولمدة سبع سنوات متتالية قبل الانتقال إلى مرحلة انتخاب الرئيس من الشعب.<BR><BR><BR><BR><br>