من صور البطولة في بلاد الرافدين 2
25 ربيع الثاني 1428

جمعنا القدر في مسجد المحلة تعلق بعضنا ببعض منذ اللحظة الأولى ولم نفترق بعدها إلا بقدر ، نعم ، جمعنا القدر وفرقنا القدر ، قصتنا ومرحلتنا الثانية مع (من صور البطولة والفداء في بلاد الرافدين) مع الشهيد بإذن الله البطل المغوار (بشار) نعم هذه هو اسمه ، شاب ترعرع في أسرة بسيطة في قرية من قرى محافظة ديالى ، ترعرع في القرية واستقر في المدينة وبقيت براءة القرية مستمرة معه حتى بعد أن أصبح شاباً يافعاً ، تخرج من المركز المهني في المدينة كمساعد مهندس ، وعمل في مصنع من مصانع المدينة الحكومية ، رتب حاله ومن راتبه الشهري وتزوج فتاة من أقاربه وأنجبت له طفلين وكانت حياته جميلة مع زوجته وأولاده وعلى كل حال كان وضعه المادي ممتازاً بسبب وظيفته التي تعتبر قياساً بغيره مرموقة ، كان شاباً يتفجر حيوية ونشاط ودخل قبل الاحتلال في دورات تدريبية على مختلف الفنون القتالية الرياضية ، ومنذ الأيام الأولى التي دقت فيها طبول الحرب بدأ يناقش كيفية الوقوف بوجه الاحتلال إذا دخل البلاد ، والكل كان يتوقع دخول الاحتلال لان الحكومة حينها لم ترتب الجيش كما هو مطلوب بسبب الحصار الذي فرض على العراق وكذلك بسبب التفكك العقائدي في الأجهزة العسكرية ،والتقينا أكثر من مرة قبل الاحتلال وتحدثنا عن المستقبل والكل كان لا يستطيع أن يحدد ملامح ذلك المستقبل المجهول الذي ينتظر العراقيين ، وعلى الرغم من ذلك تلقى أبناء العراق قدرهم بكل صبر كما هو ديدنهم فيما أصابهم من ويلات وآهات منذ الثمانينات من القرن الماضي إلى الآن .<BR>وبدأت الحرب واحتلت بغداد العزيزة وهز دوي احتلالها كل الضمائر الحية في العراق وبكى الناس دماً على حبيبتهم التي دنسها المحتل ، وبعد ساعات دخل المحتل مدينة بعقوبة ، وساد الصمت كل مكان حتى العصافير التي كانت تزقزق في المدينة صمتت حزناً على دخول الغرباء إلى البلدة ، وتغيرت نسمات الهواء في مدينتنا التي تتميز بهوائها العذب ومنذ اليوم الأول لدخول الاحتلال إلى بعقوبة التي تقع فيها العديد من المعسكرات حشد بشار شباب الحي لأخذ أكبر كمية ممكنة من السلاح والعتاد وتخزينها في الهياكل والمزارع المنتشرة هنا وهناك ، كانت روح القيادة واضحة على شخصيته، وتم الأمر وتم تخزين كميات لا بأس بها من السلاح والعتاد ، وجاءني بعد أيام فقط من دخول الاحتلال إلى بعقوبة وقال لي: والله لقد قتلت أمريكياً – وأنا أظن أن أول أمريكي من جيش الاحتلال قتل على يد بشار وأصدقائه - تلك العملية البطولية الذكية التي طبقها لي تطبيقاً عملياً ذهب بشار وأخ آخر له إلى مديرية شرطة ديالي، حيث استقر قسم من قوات الاحتلال هناك واخذوا جولة قرب المكان ولاحظوا أن جنود الدورية يخرجون أحيانا ويقفون بالباب حينما ينزلون من نقاط الحراسة ، قرر بشار أن يرمي قنبلة في كيس صغير بالقرب من الباب وكان في الباب رصيف عالي ، اخذ بشار القنبلة ووضعها بكيس كأنه يحمل بعض الأغراض الخفيفة لأن القنبلة لم تكن كبيرة واقترب من باب المديرية وفي غفلة من الحرس أسقط الكيس من يده بالقرب من الباب ، ثم انطلق مستمراً في مشيته واستدار من على الجسر الذي يفصل الجهة المقابلة للمديرية عن الحي المقابل لها ، وبقي يحوم حول صيده ، وبعد ساعة تقريباً جاء الجندي الأمريكي بالقرب من الكيس ليفتحه ، ففجر بشار القنبلة عن بعد وتطايرت أشلاء الجندي الأمريكي ولم يجدوا له أثراً ، جاء رفاق الجندي يتصارخون صاحبهم صار أثراً بعد عين .<BR>جاء بشار يبشر أصدقاءه بما فعل بالمحتل ، وعلى اثر ذلك طوقت مديرية ديالى بالجدران الفاصلة .<BR>وبعد ثلاثة أيام قام بشار المقدام الجريء ، بعملية أكثر جرأة من تلك الأولى ، حيث كانت سيارات الاحتلال يجلس فيها جنديين اثنين فقط في المقاعد الأمامية في الأيام الأولى للاحتلال وبدون أبواب مدرعة ولاغيرها من الإجراءات الأخرى ، قرر بشار أن يرمي قنبلة في وسط السيارة ثم يفجرها عن بعد اخذ القنبلة في كيس ، وظلوا يتابعون قوات الاحتلال في السوق في وسط مدينة بعقوبة ، ترك جنود الاحتلال عربتهم وترجلوا منها ، جاء بشار بلمحة بصر ورمى الكيس في المقعد الخلفي ، وبقى يراقب عن بعد رجع جنود الاحتلال الى عربتهم واستقلوها ، وتابعهم بشار وصديقه بسيارة وراءهم ، وكلما أردوا أن يفجروا ، كانت حشود الناس في الطرقات تجعلهم يترددون في أن يصيبوا شخصاً بريئاً ، وظلوا يتابعون العجلة ، حتى دخلت إلى مبنى محافظة ديالى حيث يستقر القائد الأمريكي لقوات الاحتلال في ديالى ، قال بشار انتهى كل شيء وذهب عملنا سدى ، ثم قال هم في الداخل كلهم من جنود الاحتلال لنجرب ونفجرها لعل الله يجعلها في الصميم وتصيبهم ، وما أن ضغط على جهاز التحكم الذي بيده حتى تطايرت أجزاء السيارة في السماء وشوهدت من قبل جميع من كانوا بالقرب من مكان الحادث ، فانطلق بشار فرحاً بتوفيق الله له ولرفيقه في هذه المهمة .<BR>واستمر بشار على هذا الحال ، وجاءت قوات الجيش والشرطة الحكومية تبحث عن بشار ، واخذوا والده بدلاً عنه ، وبعد ثلاثة أشهر أفرج عن والده الذي أرسل له رسالة طلب منه فيها ألا يبقى في المحافظة ، وترك بشار منزله وأولاده الصغار ووالدته ، كان يأتيني ويبكي دماً على فراق أولاده وزوجته وقبل ذلك حنينه إلى أمه وألمه على ماأصاب والده بسببه . <BR>كان لا ينام الليل ويقول لم أرى جباناً في الدنيا مثل الجندي الأمريكي ، وكان يستهزء بهم ولايخاف منهم ويقول هل يصح أن أخاف ممن يخاف مني ، وكان يضحك عليهم حينما تنفجر عبوة أو قنبلة بالقرب منهم ويهربون كالجرذان ؟!<BR>واستمر عمل بشار البطولي الدؤوب ، وهو لا يكل ولا يمل منه ، وتركت أنا البلاد وأنا أعرف أن بشار مازال مستمراً في عمله ، وفي يوم من الأيام جاءني صديق وقال لي ماهي آخر أخبارك عن بشار قلت له ، أظنه حي يرزق وبخير ، فقال لي استشهد البارحة ، فبكيت عليه بكاء الأخ الوفي لأخيه المجاهد البطل ، ثم كفكفت دموعي وقلت له ، حدثني بالله عليك كيف استشهد ، قال عرفت اليوم بخبره ، وقالوا لي انه خرج مع ثلاثة من إخوته لنصب عبوة ضد رتل للمحتل من المقرر أن يمر على طريق بغداد – بعقوبة مساءاً ، فبينما هم يحاولون حفر الأرض لوضع العبوة بالقرب من التبليط ، انفجرت عليهم ، واستشهد بشار في الحال ، ولم يعرف مصير البقية الذين كانوا معه ،فقلت لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم رحمك الله يا أخي يا أباعبد الرحمن تمنيت الشهادة بصدق وأعطاكها الله سبحانه وتعالى .<BR> استقبل أهله خبر استشهاده بكل شجاعة على الرغم من هول المصيبة وزوجته الشابة التي فقدت أجمل أحلامها في لحظة ولا تعرف ماذا تفعل- وهذا هو ديدن نساء العراق اليوم فهنَّ بتوفيق الله لهن أصبحنَّ مدرسة للأجيال في التربية للرجال والصبر على المصائب - لكنها استقبلت الخبر ببطولة لأنه أعدها لهذا اليوم وقال لها يمكن أن أموت في أية لحظة وعليك بحفظ أولادي من بعدي .<BR>شارك الجميع في تشييع بشار إلى مقبرة القرية بعد أن نقل جثمانه إلى هناك ، وتألمت كثيراً لأنني لم أكن من الذين صلوا على جنازته ولم أشارك في تشييعه لكن عزاءي أنني صليت عليه صلاة الغائب لعلها جزء من الوفاء له ، ورحم الله أخي أبا عبد الرحمن وحشرنا وإياه في جنات الخلد ، ولنا موعد جديد مع أخ جديد من رجال الرافدين الأبطال . <BR><BR><br>