الرئاسة التركية خط الدفاع الأول
13 ربيع الثاني 1428

هل أصبحت تركيا على صفيح ساخن تنتظر الانقلاب العسكري الرابع في تاريخها ضد الإسلاميين بعدما تصاعدت حدة التصريحات والضربات الجانبية بين فريق الجيش العلماني وقادة حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي؟ وهل بيان رئاسة الأركان التركية الأخير عن تذمر الجيش التركي مما أسماه الاتجاه الديني داخل الحكومة وتشديده على أهمية الحفاظ على العلمانية مؤشر على عودة تركيا للنفق المسدود، أم أن الأمر مجرد رفع لوتيرة التهديدات وتسخين للجبهات ؟!<BR><BR><font color="#0000FF">خلفية الأزمة</font><BR>تخلى رجب طيب أردوغان عن ترشيح نفسه لرئاسة تركيا على الرغم من قدرته على الظفر بأهم منصب في الدول التركية بالأرقام وعدد المقاعد في البرلمان، إلا أن ردة فعل الحادة للقوى العلمانية على ترشيحه وهو ما عبرت عنه بالتظاهرة الضخمة بأنقرة في 14 إبريل أثّرت في قرار رجب طيب أردوغان في التنحي عن الترشيح خشية أن تدخل البلاد في حالة من التوتر والتشاحن المفتعل، ويبدو أن أردوغان أدرك أيضا أن قرار تخليه عن رئاسة الحزب وانتقاله إلى رئاسة الجمهورية قد تنعكس سلبا على وحدة الحزب وعلى إمكانية المحافظة على أصواته في الانتخابات البرلمانية المقبلة فيما بقاؤه على رئاسة الحزب يؤدي وفقا لمعظم الاستطلاعات إلى ازدياد حظوظ حزب العدالة والتنمية في وقت يحتاج هذا إلى ولاية ثانية لاستكمال ما عجز عنه أو ما لم يسعفه الوقت لتحقيقه في الولاية الأولى .<BR><BR>وأصبح المعيار للمرشح الأساسي من الحزب لمنصب الرئاسة هو من كانت زوجته غير محجبة منعا لأية حساسية قد تنشأ إضافة إلى توفر علاقات جيدة مع المؤسسة العسكرية. وهكذا كان خيار أردوغان وزير الدفاع وجدي غونيل . لكن حسابات رئيس البرلمان والرجل القوي في الحزب بولنت ارينتش كانت مختلفة وهو قادر على التأثير وله تيار واسع داخل الحزب. إذ اعترض على ترشيح غونيل مطالبا برئيس قوي، مقترحا إما أردوغان أو عبد الله غول وإلا سيكون هو المرشح للمنصب. وهكذا كان أردوغان أمام خيارين إما ترشيح نفسه ، وهذا حسم لمصلحة وحدة الحزب أو ترشيح عبد الله غول أيضا للمحافظة على وحدة الحزب من تهديدات ارينتش. وبذلك نجح بولنت ارينتش في الدفع باتجاه إيصال رئيس زوجته محجبة ليكسر ثابتة في الجمهورية العلمانية ، <BR><BR><font color="#0000FF">الجيش والقوى العلمانية في الميدان </font><BR>أمام هذه الوقائع دخلت تركيا في شفير أزمة سياسية خطيرة نتيجة لمواجهة مفتعلة بين الحكومة والجيش، وبعد مذكرة الطعن التي تقدم بها حزب الشعب التركي إلى المحكمة الدستورية العليا لإلغاء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية ، فاجأ رئيس هيئة الأركان الجنرال يشار بويوك أنيث الجميع بالتدخل محذرا في بيان شديد اللهجة من مغبة المساس بمبادئ العلمانية في البلاد، متهما حكومة رجب طيب أردوغان بالتراخي أمام تنامي أنشطة الإسلاميين. ونشر البيان على موقع رئاسة الأركان الإلكتروني بعد ساعات قليلة من الجلسة الأولى للتصويت في البرلمان التركي لاختيار رئيس جديد للدولة، وجاء فيه " إن المشكلة التي برزت مؤخرا في الانتخابات الرئاسية تتركز على مسألة إعادة طرح موضوع العلمنة على بساط البحث ". وهدد العسكريون بأن " القوات المسلحة التركية هي ضد هذه النقاشات وستعلن بصراحة موقفها عندما يصبح ذلك ضروريا. يجب ألا يشكك أحد في ذلك ". وذكر البيان بأن القوات المسلحة " هي الحارسة الأمينة للعلمانية " ، وقال "لا الأمة ولا التاريخ سيصفحان عن الذين سيحاولون زعزعة بنيتنا الاجتماعية أو روح التضامن والسخاء لدينا والقضاء عليهما ".<BR>اعتبر بيان رئاسة الأركان بمثابة إنذار مباشر وأخير إلى الحكومة بسبب تصرفاتها خلال السنوات الأربع الماضية، وإصرارها على ترشيح عبد الله جول إلى انتخابات الرئاسة حيث سيصبح القائد العام للقوات المسلحة في حال انتخابه من جانب البرلمان. وتوقع المراقبون أن يؤثر بيان رئاسة الأركان على قرار المحكمة الدستورية التي ستنظر في الاقتراع الأول على رئيس الجمهورية، خاصة إذا علمنا أن 7 من أعضاء المحكمة العليا من أصل 11 كان قد عينهم الرئيس المنتهية ولايته احمد نجدت سيزار المعروف عنه دفاعه عن النظام العلماني. <BR><BR>ولم تتأخر حكومة حزب العدالة والتنمية في الرد وبنوع من التحدي والحزم على لسان المتحدث باسمها وزير العدل جميل شيشك، بالقول إن حماية القيم الجمهورية هي " واجب الحكومة أولا "، مذكرة بأن رئاسة الأركان "تبقى تحت أوامر رئيس الوزراء "، وأنها لن تسمح بزعزعة الاستقرار في البلاد. وأكد أيضا تمسك حكومة حزب العدالة والتنمية بالمبادئ العلمانية للجمهورية، مشددا على أنه " لا يمكن مجرد التفكير" في أن تسعى تركيا إلى تسوية مشاكلها خارج إطار المنظومة الديمقراطية. وكان رجب طيب أردوغان قال أثناء اجتماع للهلال الأحمر التركي في أنقرة " يمكن للوحدة السياسية والبنية الاجتماعية في هذا البلد أن تكونا أحيانا ضحيتي كوارث ". وأضاف " أن هذه الأمة دفعت ثمنا غاليا ومؤلما عندما فقدت أسس الاستقرار والثقة. لكنها لم تعد تسمح ولن تسمح أبدا للوصوليين الذين ينتظرون ويفتحون الطريق أمام الكارثة " أن يشقوا طريقهم. <BR><BR>أما الصحف التركية العلمانية فكان لها رأيها المنحاز منذ البداية لدعم فريق دون آخر عندما طالبت بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة ، وتشدد صحيفة "حرييت" أن الخلاص الوحيد لتركيا هو تنظيم انتخابات تشريعية في الأشهر المقبلة. فيما تحث صحيفة "وطن" الأحزاب السياسية إلى اخذ تحذير العسكريين على محمل الجد والاتفاق على تنظيم انتخابات تشريعية في أسرع وقت ممكن، وأن السبيل الأسرع لإنقاذ تركيا ومستقبلها هو دعوة البرلمان إلى الاجتماع فورا وتنظيم انتخابات في أسرع وقت ممكن وان نثبت للعالم أن هذا البلد من النضوج الكاف لحل مشاكله بطريقة ديمقراطية. وتؤكد صحيفة "ملييت" من جهتها أن أنقرة تتجه على عجل إلى انتخابات، فيما ترى صحيفة "صباح" أن أردوغان يدفع ثمن مواجهاته المتكررة مع المعارضة .<BR>ولم يتأخر آلاف الأشخاص للتظاهر في اسطنبول تأكيدا تمسكهم بالمبادئ العلمانية ورفض ترشيح وزير الخارجية عبد الله غول لرئاسة الجمهورية ، حيث نظمت هذه التظاهرة استجابة لدعوة 600 منظمة غير حكومية تدعي الدفاع عن تركيا .<BR>إذن أصبحت القوى العلمانية تسابق الزمن فرغم أن عبد الله غول لم يحصد في الدورة الأولى لانتخابات البرلمان لرئاسة الجمهورية سوى 357 صوتا في حين أن الغالبية المطلوبة لانتخابه هي 367 صوتا ، إلا أنه في حال لم يتم إبطال الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية فستجرى دورة ثانية الأربعاء المقبل ، وإذا جرت العملية الانتخابية التي يمكن أن تمتد إلى أربع دورات كالمعتاد فان عبد الله غول سيضمن فوزه عموما لان حزبه يحظى بالغالبية الساحقة في الجمعية الوطنية حيث يشغل نوابه 352 مقعدا من أصل 550..<BR><BR><BR><font color="#0000FF">رد فعل أوروبي وأمريكي </font><BR>على المستوى الدولي طالب الاتحاد الأوروبي منذ البداية ببقاء الجيش بعيدا عن السياسة، وهذا ينسجم مع مناداته بالحد من نفوذ الجيش في الحياة السياسية التركية، واعتبر أن هذه التجربة الهامة اختباراً في مسيرة تركيا نحو الانضمام للاتحاد الأوروبي، ودعا المفوض الأوروبي لشؤون التوسيع أولي رين الجيش التركي إلى البقاء خارج العملية الانتخابية في تركيا، معتبرا أن ذلك " يمثل اختباراً لرؤية ما إذا كانت القوات المسلحة التركية تحترم العلمانية الديمقراطية والتنظيم الديمقراطي للعلاقات بين المدنيين والعسكريين ". وتعد قضية العلاقة بين الجيش والمجتمع المدني في تركيا من المعايير الرئيسية لقبول انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي الذي بدأت مفاوضات الانضمام إليه عام 2005 وهي في الواقع من المشاكل المستمرة التي تندد بها المفوضية، حتى أن تقرير المتابعة الأخير الذي قدمته المفوضية الأوروبية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2006 أبدت فيه بالفعل أسفها الشديد إزاء قلة ما تحقق من تقدم في تكييف العلاقات بين المجتمع المدني والجيش مع القواعد السارية في الاتحاد الأوروبي ، ودعا التقرير إلى تفعيل الجهود الإضافية لفرض سلطة الحكم المدني على الجيش . وينتظر الاتحاد الأوروبي بترقب انتهاء هذه الفترة الانتخابية أملا أن تتمكن تركيا بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية من استئناف الإصلاحات التي شهدت تباطؤا العام الماضي .<BR>بينما وقفت واشنطن على الحياد ودعت الجانبين إلى احترام الدستور الديمقراطي، حيث دعا دان فرايد مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية إلى احترام الدستور الديمقراطي في تركيا، وقال إن واشنطن " لا تتحيز لأي جانب ". إلا أنه شدد على ضرورة أن " يعمل الأتراك على حل هذه المسائل السياسية بطريقتهم بشكل يتناسب مع ديمقراطيتهم العلمانية وبنود الدستور ".<BR><BR><BR><font color="#0000FF">العلمانية التركية إلى أين </font><BR>وهنا لا بد من طرح السؤال التالي : هل يشكل وصول مرشح حزب العدالة والتنمية ذو الميول الإسلامي إلى رئاسة الجمهورية خطرا على العلمانية في تركيا ؟ الجواب هو بالنفي ، ويتعزز ذلك إذا علمنا أن العلمانية المطبقة حاليا في تركيا بمظاهرها وجوانبها المختلفة لا تنتمي أصلا إلى العلمانيات المتعارف عليها في الدول التي تتبع هذا النهج الفكري الذي أصبح جزء من نسيجها عبر عملية تاريخية أصل خلالها أسسه داخل مجتمعاتها بغض النظر عن ما تعيشه من إفلاس وخواء أخلاقي، وإنما كانت العلمانية الكمالية منذ زرعها بالتربة التركية قسرا غير منسجمة مع الواقع التركي لأنها دخيلة عليه ولا تمتلك مقومات الحياة والتطور وهي بحاجة لتعديل مضمونها.<BR>في الجانب الآخر نجد أن حزب العدالة والتنمية لم يطالب يوما أو سعى لإلغاء العلمانية في تركيا بل يرى أنها إطار عام متوافق عليه في البلاد في ظل تعددية مذهبية وإثنية، وأن أي إلغاء لها هو مشروع فتنة أهلية. وهنا يطرح الحزب مفهوما مغايرا للعلمانية ألا وهي علمانية إنسانية تحترم الحريات الفردية والدينية وتقف على مسافة واحدة من جميع الشعائر والمعتقدات. ومن هذه النقطة يصبح وجود امرأة محجبة في القصر الرئاسي خطوة مهمة وضرورية لكسر أحد المحظورات التي يوضع عليها هالة من القدسية المزيفة التي حاول العلمانيون ترسيخها من دون وجه حق أو أي مسوّغ قانوني ، فليس هناك من نصّ يمنع الحجاب في القصر الرئاسي ولا حتى في البرلمان ، فضلا أنه كان مسموحا إلى أن انتصر حزب العدالة والتنمية عام 2002 فكان إجراء الرئيس نجدت سيزير بمنع الحجاب في القصر خطوة انتقامية . لكن مع ذلك فإن للسيد عبد الله غول وزوجته المصونة مطالبان بتبديد أي شكوك في هذا الإطار من خلال إظهار سلوك منفتح ومرن وهما يؤكدان على ذلك .<BR>كما يدحض قادة حزب العدالة والتنمية المعادلة القائلة بالتناقض بين الهوية الإسلامية لتركيا والعلمانية، ويفسرون الأمر بأن التزام تركيا بمعيار الديمقراطية، سيضمن للشعب التركي حقه في صيانة هويته الإسلامية والتعبير عنها بطريقة حضارية ومعاصرة، ومن هنا يطالبون بعلمانية حقيقية ترفع يد الدولة عن الدين. كما يعد الإسلاميون الأتراك أنفسهم أبرز المتضررين من الطبيعة الشاذة لديمقراطيتهم، ومن الهيمنة القوية للجيش والنخب العلمانية المتشددة ، بحيث أصبح تخليص نظامهم السياسي من أمراضه غير المقبولة أمرا محتوماً أمام عملية الحظر المتكرر للأحزاب السياسية، وتقييد حركة العمل السياسي، والتضييق على الأقليات الدينية والقومية. ويمكن القول أن حزب العدالة والتنمية وجد نفسه أمام وضع مريح وهو أن يكون نجاح برنامجه السياسي مرتبط بمظلة العلمانية الأوروبية بما له من دلالات تنال من زخم هويته الدينية، وتضيق الخيارات أمام صعوبة الموازنة ما بين مطالب مؤيديه وأنصاره وحساسية القوى العلمانية وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية.<BR>وفي الواقع ليس بمقدور الحزب أو غيره التلاعب في طبيعة الدولة أو النظام، أو التحالفات الخارجية. فالرأسمالية واقتصاد السوق ما يزالان سائدين، والممنوعات على المتدينين ما تزال موجودة وسائدة، وتركيا عضو في حلف الأطلسي كما كانت، وهي وثيقة العلاقة بالولايات المتحدة كالسابق تماماً. بل إن علاقة تركيا بإسرائيل ما تزال في أحسن حالاتها. ولهذا يمكن القول إن الصراع في تركيا اليوم هو صراع على المصالح بين الفئات الاجتماعية والاقتصادية، إنما تغطي الصراعات على الرموز.<BR><BR><font color="#0000FF">الرئاسة التركية خط الدفاع الأول </font><BR>يعتبر سقوط موقع الرئاسة بيد الإسلاميين إذا ما تم خطوة مهمة في تحييد خط الدفاع الأول عن العلمانيين كما تريدها المؤسسة العسكرية ، مما يجعل الجيش في هذه الحالة في مقدمة المدافعين وتصبح مسؤولياته أكبر. غير أن ما يتمتع به حزب العدالة والتنمية من تأييد شعبي واسع أمام هبوب رياح الولوج التركي في أوروبا وارتفاع درجة الوعي المدني لم تعد تسمح بمغامرات عسكرية في الداخل كما حدث سابقا عندا قام الجيش التركي بثلاثة انقلابات في 1960 و1971 و1980 وتوحي الخطوة الجريئة لحزب العدالة بوضع الرئاسة نصب عينيه برسالة مهمة مفادها أن الواقع الحقيقي الذي يجب على العسكر الأتراك إدراكه هو أن نطاق عملهم يكمن في الدفاع عن الأخطار الخارجية إلى جانب الاستقرار الأمني الداخلي ليس إلا وهذا بالضبط مفهوم دور الجيش في أوروبا وأمريكا وما يريده الاتحاد الأوروبي من تركيا، وليس ضبط الحراك السياسي بين التيارات السياسية في الداخل. <BR><BR><font color="#0000FF">المؤسسة العسكرية التركية سيد البلاد </font><BR>تعتبر المؤسسة العسكرية بدورها المهيمن في عملية اتخاذ القرار من أقوى مؤسسات الدولة التركية وأكثرها تنظيما، وهي تمثل "سلطة عليا تقع فوق الدستور ومؤسسات الدولة الأخرى بما فيها الهيئات المنتخبة". ولا تتردد في الإفصاح عن انزعاجها وأحيانا استعدادها للتدخل في مواجهة تطورات داخلية تهدد بحسبها مبادئ الدولة باعتبارها الحامي والضامن للدستور والجمهورية والعلمانية. وعلى الرغم من الدور التاريخي لأتاتورك في فصل الجيش عن السياسة وإبعاد النخبة العسكرية عن القيام بدور الناظم في الحياة السياسية، لم يحدث أن استطاعت حكومة دستورية تركية من الوصول ثم الاستمرار في السلطة من غير تأييد المؤسسة العسكرية لها بدرجة أو بأخرى.وأصبحت مقولة "سيد البلاد" و"أن الرجل في القمة يعتبر على حق دائما" مغروسة في أذهان أفراد الجيش، وهي إشارة إلى المؤسسة العسكرية المتوقدة بالفكر "الأتاتوركي" أما سلطة الطرد فتعود إلى أفراد المؤسسة، ودور الجماهير هو أن تبارك قيام الجنرالات بهذه المهمة. ويرجع البعض إلى أن سبب تدخل المؤسسة العسكرية في السياسة التركية نابع من عدم ثقتها بالقوى السياسية المدنية. حيث تنظر بريبة وشك إلى ولائها للوطن والأمن والنظام، بسبب مصالحها الحزبية، وأنه كلما تناما المناخ الديمقراطي لحرية العمل السياسي وظهرت بعض القوى لتعبر عن مطالب أكثر جذرية تسارعت المؤسسة العسكرية إلى سحقها حتى لا يخرج أحد من الدائرة التي حددتها بنفسها للجميع .<BR>وتبدي المؤسسة العسكرية، أحياناً، استعدادها للتدخل في مواجهة تطورات داخلية ترى فيها تهديداً للعلمانية، خصوصاً أمام الحركة الأصولية وفي هذا الشأن، أخذ الجيش يلعب دوراً جديداً بالتصدي للإسلاميين ، يلاحظ ذلك من خلال اهتمام قادة الجيش التركي بمواجهة أية محاولة لاختراق صفوفها أو التغلغل في بنيتها من جانب الجماعات الإسلامية. حيث يرفض الجيش، بشكل قاطع، استقبال خريجي معاهد إمام – خطيب في كلياتها العسكرية، كما يعمل الجيش بتصفية قواته بصورة دورية للتخلص من التوجهات الإسلامية بين عناصره.<BR>وتذهب المؤسسة العسكرية إلى متابعة سلوك القوى السياسية وتطورها النوعي والكمي ونتائجها في الانتخابات، البلدية والبرلمانية، وطبيعة الائتلاف الحكومي الذي قد تشكله ومدى ملائمة سياسته الداخلية والخارجية مع رؤى هذه المؤسسة وقدرتها على استخدام وسيلة الطرد والإطاحة "غير العنيفة" للحكومة في حال تناقض تصرفاتها مع رؤى الأولى. ونجد تطبيق ذلك بالعلاقة بين حكومة الائتلاف اربكان-تشيللر وبين هذه المؤسسة التي أدت في نهاية الأمر إلى الإحاطة بها في 18/6/1997.<BR>وقد ساهمت مجموعة من العوامل في هيمنة المؤسسة العسكرية في مقدمتها ؛ ارتباط قيام الجمهورية التركية بدور الجيش التاريخي في حرب التحرير الوطنية بحيث قام الجيش فيما بعد بتوجيه المجتمع وملء الفراغ المدني في الرقابة والإشراف، وبهذا صار الجيش ركنا أساسيا ليس في السياسة فحسب بل في كل النواحي المجتمعية لتعديل موازين القوى بما يتفق بنظراته الخاصة، إلى جانب عدم الاستقرار الذي تعانيه تركيا واستمرار العنف الداخلي والتهديدات الخارجية، فضلا عن استمرار أزمة الهوية في المجتمع والدولة ، وبهذا أصبحت المؤسسة قائدة للاتجاه العلماني تساندها قوى داخلية سياسية وحزبية وإعلامية واجتماعية تشاركها توجهاتها العلمانية الغربية.<BR>وينشأ قوة الوضع السياسي للمؤسسة العسكرية بموجب الدستور 1982 الذي يمنحها، بصورة غير مباشرة ،حق التدخل في الحياة السياسية بغرض حماية الأمن القومي التركي. كما ينص على تشكيل مجلس الأمن القومي الذي يعد المحدد الرئيسي للسياسة العسكرية والأمنية التركية . <BR>وتستمد المؤسسة العسكرية أهميتها بالأساس من هيكليتها الداخلية وبما تتمتع به من استقلالية كاملة في اختيار عناصرها القيادية ووضوح تصورها حول دورها والأهداف العليا للدولة، وفي هذا الخصوص تصبح هذه المؤسسة أشبه بـ "المؤسسة البابوية" من حيث "اختيار وإفراز وانتقاء العناصر القيادية والتجدد من داخلها وليس من خارجها إذ أنها تضع الترشيحات لتولي المناصب القيادية فيها ولا يستطيع رئيس الجمهورية الاختيار من خارج هذه الترشيحات، كما أن لمعظم القيادات العسكرية التركية رؤية استراتيجية واضحة للوطن التركي تشكل عقيدة متكاملة أبعادها الداخلية والخارجية".<BR><BR><BR><font color="#0000FF">حزب العدالة والتنمية يلجم الجيش</font><BR>استطاع حزب العدالة والتنمية من خلال ثورة بيضاء وإيجابية من رفع الهيمنة العسكرية على السياسة بصورة تدريجية ومدروسة في إطار مشروعه لتأهيل تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي ، فبدل القوانين المتعلقة بلجنة الأمن القومي وبسكرتاريتها، وأرجع الأمور إلى نصابها. حيث قام الحزب بإصلاحات قانونية وحقوقية عديدة؛ فسَنّ العشرات من القوانين التي توسع نطاق الحرية الفردية، وتتلاءم مع الكرامة الإنسانية، مثل تشديد العقوبة على القائمين بعمليات التعذيب سواء في السجون أو في مخافر الشرطة، وتوسيع حرية التجمعات والمظاهرات، وسن قانون حق الفرد في الحصول على المعلومات، وحق التعبير السلمي عن الرأي بجميع أشكاله، وحق الأقليات العرقية في تعلم وتعليم لغاتها؛ فأصبح في الإمكان مثلا بث برامج تليفزيونية باللغة الكردية، كما أصدر قانون العفو عن التائبين من الأكراد الذين التحقوا بحركة حزب العمال الكردستاني الانفصالي وغيرها. كل هذه الخطوات والإنجازات أظهرت أن حزب العدالة والتنمية المتهم بالرجعية كونه ذا جذور إسلامية أكثر تقدمية، وأقرب إلى المدنية المعاصرة من جميع الأحزاب الأخرى الكمالية منها أو اليسارية أو اليمينية؛ وأنه أثبت هذا الأمر في الواقع العملي وليس على المستوى النظري؛ وهو ما جلب ثناء العديد من الكتاب والمثقفين العلمانيين المحايدين .<BR>ولعل أهم ما قام به هذا الحزب هو نجاحه في إرجاع العافية تدريجيًا إلى الاقتصاد التركي وأصبح نسبة نموه بين 7 – 10 % سنويا ، كما اتبع الحزب سياسة خارجية حكيمة؛ فقد اهتم بتحسين علاقات تركيا مع دول الاتحاد الأوربي، ومع الولايات المتحدة الأمريكية، وأثبت أن تركيا ليست ذيلا ولا تابعًا للولايات المتحدة الأمريكية،. ولكنه لم ينسف جميع الجسور بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية<BR>إذن لم يواجه الحزب المؤسسة العسكرية إلا بعد أن قوي بعد هذه النجاحات التي أشاعت جوًا من التأييد الشعبي له. وقد أشارت الدراسات الإحصائية التي قامت بها مؤخرًا بعض مراكز البحوث والإحصاء إلى زيادة التأييد الشعبي للحزب ، حتى قام بخطوته التاريخية بتحجيم موقع ومكانة ومهمات لجنة الأمن القومي وسكرتاريتها، التي لعبت دورا خطيرا في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية منذ عشرات السنين؛ فقامت القوانين الجديدة بإلغاء الصفة التنفيذية، وبإلغاء صلاحية المراقبة والمتابعة من مجلس الأمن القومي ومن سكرتاريتها، وأعطت لها صفة استشارية فقط، كما سحبت من رئيس الأركان العامة صلاحية تعيين السكرتير العام للجنة، ونقلت هذه الصلاحية إلى رئيس الوزراء وإلى رئيس الجمهورية بالصيغة الآتية: يقوم رئيس الوزراء بترشيح شخصين عسكريين أو مدنيين لهذا المنصب، ويقدمهما إلى رئيس الجمهورية الذي يقوم باختيار أحدهما، وبهذا يكون رئيس الوزراء هو الذي يعين السكرتير العام للجنة الأمن القومي من الناحية العلمية. <BR>والشيء المهم هنا سحب صلاحية تدخل هذه اللجنة في الهيئات والمؤسسات المختلفة والوزارات، وحصر عملها ومهمتها في إطار تقديم الاستشارة إلى الحكومة التي لها مطلق الحرية في الأخذ أو عدم الأخذ بها وإهمالها، كما نصت التعديلات على قيام لجان من البرلمان النيابي أو من وزارة المالية بتدقيق نفقات الجيش؛ وهو ما لم يكن موجودًا في السابق ولا مسموحًا به. وهذا لا يتعارض طبعا مع بقاء فقرات ومقادير هذه النفقات سرًا من أسرار الدولة. <BR><br>