عنف مطلق و ضحية واحدة اسمها الجزائر!
28 صفر 1428

حين تفتح صحيفة فرنسية هذه الأيام، لا بد أن تقرأ فيها الكثير عن الإرهاب الجزائري، و هي عبارة تستعملها للحديث عن عودة التفجيرات و الاغتيالات إلى الجزائر.. و الحال أن الكثير من المحللين لما يجري في البلاد، يربطون آليا بين الإصلاحات المتأخرة و بين عودة العنف، بحيث أن عبارة الإصلاحات هي نفسها التي صارت تحكي عنها أكثر من دولة أوروبية و تحكي عنها الإدارة الأمريكية بمعنى " الانفتاح" المطلق، و الزندقة. ربما يتذكر العديد من الناس كيف أن صحف فرنسية و حتى جمعيات حقوقية اعتبرت أن ثمة تراجعا رهيبا في حرية التعبير في الجزائر حين تم إيقاف مدير تحرير إحدى الصحف الفرانكفونية التي أعادت نشر رسومات مسيئة إلى المسلمين، بالرغم من أن أهل المحكومين أنفسهم اعتبروا أن التطاول على الإسلام و على الرسول جريمة قذرة لا يمكن السكوت عنها، و لكن الجمعيات الحقوقية لا تسكت بالمعنى العكسي، لأنها تضع الجزائر أمام الجدار كلما أثيرت القضايا التي لا تحب فرنسا إثارتها، كقضية التعذيب و الاعتداء على حرمات الجزائريين طوال أكثر من 130 سنة من سنوات الاحتلال الفرنسي الغاشم. لسنا لنصفق لعودة العنف إلى الجزائر، لأن قراءة عامة للوضع الحالي تذكرنا أن العنف لم يتراجع، و أن ثمة عنف فكري و اجتماعي و لفظي و سياسي يوازي العنف المسلح، إن لم يتجاوزه في الكثير من الأحيان. <BR><font color="#ff0000"> عنف مطلق و ضحية واحدة! </font><BR>لقد عاش الجزائريون السنوات الماضية على نفس الوتيرة من الأخبار البشعة و القتل والتشريد و التهجير. كانت الضربات الأعنف توجه دائما إلى البسطاء و الفقراء الذين لم يكن لديهم لا بنوكا في الخارج و أغلبهم كان بلا عمل، يشحذ لقمته من القمامات أحيانا... في الجزائر، و تحديدا في الأحياء التي حظيت بالحماية والحراسة أكثر من غيرها، لم يكن صوت الرصاص يصل إلى هؤلاء السكان الاستثنائيين! و لم تكن مشاهد العنف تشاهد إلا حين يشاهدون إلى نشرات الأخبار، فيرون الجثث و الدموع و يرون كيف أن العنف و القتل وصل إلى العظم و كيف وصل الدم إلى الركاب! كان بعضهم يتهم وسائل الإعلام بالتهويل و التشهير والتشنيع، و بالكذب على الناس قائلين:" فكيف يكون ثمة حرب أهلية أو عنف و نحن لم نسمع رصاصة واحدة تطلق في الجوار؟"! كانوا ينامون على آذانهم كلها، و يحلمون و يأكلون و يتزوجون و يخططون لقضاء العطل في الخارج مستفيدين من أرصدتهم المنتفخة، بينما كان يموت الفقراء الذين بعضهم كان يتمنى الموت من شدة الفقر و الجوع و البرد الذي كان يلف حياته. طوال تلك السنوات، ظهرت العديد من الكتب التي كانت بمثابة دوي القنابل، بعض تلك الكتب كتبها ضباط سابقون في الجيش و بعضهم كانوا ضباطا في المخابرات الجزائرية هربوا و قرروا أن يحتكروا موهبة الكتابة، فكتبوا ما يشبه مذكراتهم، مع أن بعضهم لم يكن يتجاوز الأربعين أو الخميس سنة. و لعل أخطر تلك الكتب كان بعنوان " وقائع سنوات الدم" لضابط المخابرات و هو كان برتبة (ضابط سام في جهاز المخابرات بالجيش الوطني الشعبي الجزائري) و اسمه "محمد سمراوي" أنظر إلى حواره مع قناة الجزيرة *).. و لأنني لا أتطرق إلى أمور سرية، بل هي أشياء منشورة في كل مكان، والكتاب المذكور موجود كاملا على شبكة الانترنت أيضا، أقول لأنني لا أتطرق إلى أمور سرية (بعد أن صارت علانية) كان مهما التوقف أمام تلك الحوادث التي تعيد الكثير من الأسئلة إلى الأذهان عما جرى فعلا طوال عشرة أعوام من العنف؟ من كان يقتل من؟ ولأجل من و لأجل ماذا و من المستفيد؟ كلها أسئلة تعود اليوم بشكل مباشر بعد أن عاد العنف إلى البلاد، لأن العنف هذه المرة ارتبطت عودته بقضايا و ملفات الفساد. لعل المرة الوحيدة السابقة التي تم التطرق فيها إلى فتح ملفات الفساد في الجزائر، كانت عام 1992، حين قيل وقتها أن محمد بوضياف ( الرئيس المغتال) سيفتح الملف و يحاكم المتسببين في إفلاس البلاد، و طبعا تم اغتيال الرجل أمام الكاميرا، كأشد أبرز رسائل العنف المطلق في الجزائر، و السخرية في الأمر أن يتم نسب الاغتيال وقتها إلى "ضابط واحد" قيل أنهم عثروا في جيبه على رسالة كتبها إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ يقول فيها أنه خلص الجزائريين من طاغوت كبير! في الوقت الذي كان الجميع يعرف أن الجبهة الإسلامية بريئة من دم بوضياف، و أن توريط الجبهة كان لحاجة في نفس يعقوب! و قد عرفت الحاجة حين تم إقصاء الجبهة بشكل تام و جذري من الحياة السياسية، و إن كنت شخصيا أعتبر أن الجميع عجز في إقصاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ من قلوب الناس الذين كانوا و ما يزالون يرون أن الإسلام العادل و المبني على المحبة و الخير و العطاء و الخوف من الله هو الحل الوحيد لكل الحلول التي تتخبط فيها، ليس الجزائر فقط، بل وكل الدول العربية و الإسلامية دون استثناء.<BR><font color="#ff0000"> لمصلحة من؟ </font><BR>لا أحد يعرف إلى هذه اللحظة، لمصلحة من سقط كل ذلك العدد الكبير من الضحايا، أكثر من 150 ألف ضحية، باعتبار ألا شيء تغير، نفس الفساد ظل قائما و النهب الرسمي و الاقتصادي و التفقير العمدي لملايين الجزائريين في دولة النفط و الخيرات الطبيعية التي وهبها الله تعالى لهذه الأرض الطيبة، و حتى أمام القانون، ليس الجزائري متساويا مع جزائري آخر إن كان هذا الآخر مسنودا من جهات قوية، بينما يتم جر أي بسيط إلى المخفر أو المحكمة لأتفه الأسباب، و قد يتم حبسه أيضا. هي اللا عدالة التي صنعت الخوف من كل شيء، و صنعت الشعور العام بالمرض، بحيث أن الذين حاولوا التعايش مع مآسيهم اليومية كانوا يجبرون على فقد كرامتهم في اليوم عشرات المرات. لا شيء تغير.. فإن أراد الجزائري أن يستخرج بطاقة أو شهادة رسمية من جهات رسمية، كالبلدية، يضطر إلى الانتظار، و يخسر وقته ثم كرامته أمام موظف يجد له ألف عائق كي لا ينجز له عملا، و موظف آخر ينصحه بدفع رشوة إلى المسؤول لأجل الإسراع في منحه ما جاء يبحث عنه، مع أن الأمر لا يحتاج في كثير من الأحيان إلى أكثر من ضمير و من إحساس بالمسؤولية و الخوف من الله تعالى. الجزائري الذي يفقد كرامته في طريق البحث عن عمل، عن أي عمل مهما كان نوعه.. هو الذي يبقى لساعات مسنود ظهره على الجدار ينظر إلى العمر يمر أمام عينيه في سنوات الفراغ الرهيب و فقدان الحق في العمل وفي الحياة، لأن لا احد يوظف جزائريا "بائسا" على رأي أحدهم! الجزائري الذي لا يجد العمل هو الذي لا يفكر في الزواج، لأنه لا يملك شيئا، لا البيت و لا الراتب ليكون مسؤولا عن عائلة، مما فتح الباب لمأساة العنوسة التي أصابت الرجال و النساء أيضا، و فتحت الباب للانحلال الأخلاقي، و التسيب. وهو الجزائري الذي إن تكلم يصبح إرهابيا، و تتم مطاردته قانونيا، و بحكم المحكمة! فلمصلحة من كل ذلك العنف السابق حين لا شيء تغير.. حين يظل الفساد والمحسوبية و البطالة و الفوضى و الانحلال السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي شبه التام، و حين لا يتلمس أحد حقيقته خارج نفس الشعور بالذل.. لم تكن ثمة مصلحة للشعب، لهؤلاء البسطاء، و لكن الذين استفادوا من العنف هم الذين كانوا يتاجرون به، و فيه.. هؤلاء الذين كانوا يساومون الشعب لأجل المزيد من التضحيات، و لأجل أن يطأطئ رأسه للجبناء الذين صاروا غيلانا فيما بعد. لأن غرق البلاد في العنف حماهم من المحاسبة، و من توجيه السؤال البسيط لهم : من أين لك هذا؟ و لأن العنف أبعد عنهم شبح البحث عن ماضيهم أيضا، و لأن العنف سمح لهم بأن يصبحوا مليونيرات في ظروف زمنية خيالية و في غياب كل معلومة عن مصادر تلك الأموال الخيالية. المصلحة استفادت منها فرنسا التي وضعت يدها على أشياء كثيرة، لأنها ببساطة كانت تحمي أولئك الذين كانوا يتاجرون بدماء الجزائريين. شجعتهم و صرفت عليهم الكثير من الوقت و المال و منحت لبعضهم حق اللجوء السياسي، و وضعت لهم الصفحات الأولى في صحفها لأجل تشويه سمعة الثوار القدامى، حين كان بعض المجرمين يظهرون على الشاشات الفرنسية لوصف شهداء الثورة بالشوفينية و الإرهاب لأنهم أخرجوا فرنسا من الجزائر، و لو بقيت فرنسا لعاش الشعب سعيدا جدا!!! ( كأن فرنسا لم تحتل الجزائر 130 سنة كاملة، و مع ذلك لم تصنع من الجزائريين شعبا سعيدا، على العكس تماما، صنعت كل التخلف و الجهل و الفقر، أحالت الشعب على الهامش، صنعت منه خداما بائسين في قصور الفرنسيين و عمالا يوميين و أكثر بؤسا في مزارع الفرنسيين الذين كانوا يهينون الجزائري مليون مرة في اليوم الواحد!) .. فرنسا التي وجدت في تلك السنوات الأخبار الدسمة للنيل من كرامة الجزائريين و من ثورتهم المجيدة و من شهامة الشهداء الذين سقطوا في ميدان الشرف إبان الخمسينات من السنة الميلادية من القرن الماضي، هي التي تواطأت أيضا مع العديد من القتلة لزرع العنف و الرعب في نفوس الجزائريين، بالخصوص في القرى البعيدة التي كانت أكثر المناطق تمسكا بعروبتها و بإسلامها، فهل يعقل أن يكون ما جرى ثورة إسلامية لقتل المسلمين باسم الدين.. هي الكذبة التي أطلقتها فرنسا و عملائها في أكبر حملة ضد الإسلام شنتها في التسعينات من القرن الماضي لمحاربة يقين الجزائريين، بدليل أن الإنجيل نفسه وجد طريقه إلى الانتشار في العديد من المناطق في تلك المرحلة تحديدا، و بدليل أيضا أنه تم عام 1999 حجز حوالي عشرة آلاف نسخة من الإنجيل على متن باخرة قادمة من مرسيليا (جنوب فرنسا) و كانت ستوزع على الجزائريين الذين حاولوا قتل يقينهم بالعنف، لأجل تبني ديانة أخرى ( ديانة التسامح للرب) على حد رأي أحد القساوسة النشطين في مدينة وهران بالغرب الجزائري. و الحال أن استمرار العنف سيكون صورة واضحة لنفس السيناريو القديم، الذي سيكرس نفس الوجوه البشعة التي قادت البلاد إلى التهلكة، على حساب شعب كامل يحلم بالتغيير الحقيقي الذي لا يتأسس على اغتيال الأبرياء أبدا.. و الله يمهل و لا يهمل. <BR><BR>ــــــــــــــــــــــــــــ<BR><BR><BR>* http://www.aljazeera.net/channel/archive/archive?ArchiveId=89818<BR><br>