'هفوة' البابا لم تكن سهوا !! (1)
2 شوال 1427

كتب: عمانويل والرشتاين *<BR><BR>في الشهر الماضي، ألقى البابا بنيديكت السادس عشر، خطابا على مدرج جامعته القديمة في ريغنسبيرغ بألمانيا. في هذا الخطاب، أدرج البابا مقطعا قصيرا استشهد فيه بمقولة 'تحليلية' قالها إمبراطور بيزنطي مجهول من القرن الرابع عشر الميلادي. لقد أثار هذا المقطع موجة رد الفعل السلبي عبر العالم الإسلامي و أدى إلى اندلاع أعمال شغب بالإضافة إلى عدد كبير من الإدانات. الواقع أن البابا -لحد الساعة-، اعتذر أربع مرات إلا أن هذا لم يحقق الهدف المنشود لأنه ببساطة، لم يبلغ درجة قوله أن تقديره للإسلام كان خطأ من أساسه. منذ هذا المأزق الدبلوماسي، كان المحللون العالميون يناقشون السبب الذي لأجله، وقع شخص في مثل ذكاء قداسته في "خطأ" من هذا النوع و لكن ماذا لو أن هذا الكلام لم يكن مخطئا؟ ماذا لو أن كلام البابا كان متدبرا؟ <BR>فلنحاول معاينة طبيعة كنيسة الروم الكاثوليك. هذه الأخيرة متواجدة منذ ما يقرب من ألفي عام تقريبا. إنها كنيسة تعتقد أنها تمثل الحقيقة - عن الله و عن الدور الضروري لها في سبيل تحقيق مآرب الرب- فضلا على أنها تعتقد أنها دورها هو تنصير العالم بأكمله بغية الوصول إلى العالم الذي يتحول فيه كل الناس، بلا استثناء، إلى كاثوليك.<BR>الآن، علينا أن نعاين تاريخ الكنيسة باعتبارها مؤسسة. في البداية، كانت كنيسة آخذة في التوسع ففيما يخص بعدد المؤيدين، فإن ذلك تزايد و انتشر بانتظام خصوصا عبر أوروبا و الشرق الأوسط طيلة مدة جاوزت الألف عام ثم كان يتعين على هذا الانتشار العددي أن يواجه أول تقسيم له خلال القرن الحادي عشر، كان ذلك هو انفصال الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. بناء على هذا، انحصرت كنيسة الروم الكاثوليك إلى أوروبا الوسطى والغربية. في القرن السادس عشر، واجهت هذه الكنيسة، الإصلاح البروتستانتي الذي أدى إلى خسارتها لمعظم أوروبا الشمالية ثم و منذ القرن الثامن عشر، بدأت الكاثوليكية تفقد بشكل متزايد، أتباعها لحساب ما كانت تعتبره سرطانا قاتلا. كان ذلك السرطان هو موجة العلمانية و الليبرالية التي بدأت الانتشار في أوروبا.<BR>في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، أي ما بعد العام 1945، تناقص عدد الكاثوليك الملتزمين في القارة الأوروبية بشكل مثير بسبب انتشار القيم العلمانية. فالكاثوليك لم يعودوا يتغيبون فقط عن حضور القداس في البلاد التي كانت تعتبر نظريا، ذات غالبية كاثوليكية مثلما هي حالة إيطاليا، إسبانيا، فرنسا، بلجيكا، النمسا، أيرلندا وصولا إلى إقليم كيبيك في كندا، و إنما باتت إرساليات التبشير هي الأخرى، تسجل تراجعا محيرا و هذا ما كان يحدث في أمريكا اللاتينية أيضا التي بعدما كانت كاثوليكية هي الأخرى، صارت تسجل تراجعا لحساب التبشير البروتستانتي. و بصفة عامة، و على الرغم من أن عضوية الكنيسة ما زالت آخذة في التوسع في البلدان الجنوبية، إلا أنها كانت تكبر لحساب البروتستانتية بسبب ارتفاع معدلات المواليد و نشاط الزيادة السكانية بالنظر للبلدان الأوروبية و لأجل هذا، لم تعد الكنيسة أوروبية أصلا و باتت تسجل عددا متزايدا من الأتباع عبر بلدان جنوب العالم.<BR>الواقع أن مشكلة الكنيسة لم تكن تقهقرها لحساب الدّيانات الأخرى. فالكاثوليك الذين غادروها لم يكونوا يتحولون إلى الإسلام أو اليهودية و لا حتى البوذية. و لم يكن المسلمون أو اليهود أو البوذيون، يتحولون إلى الكاثوليكية. كانت مشكلات التنظيمية للكنيسة بشكل كبير تظهر في العالم المسيحي. و القضية التي واجهت الكنيسة منذ العام 1945، كانت تتمحور حول كيفية الرد على هذه النقلة التنظيمية الضخمة و المفاجئة. لقد كانت هنالك ثلاثة استراتيجيّات بابوية مختلفة لإحياء وضع الكنيسة الكاثوليكية -تلك التي يمكننا نسبتها إلى كل من بنيديكت السادس عشر، يوحنا بولس الثاني، و يوحنا الثالث و العشرين-.<BR>لقد طالب هذا الأخير، يوحنا الثالث و العشرين، بتحديث الكنيسة مستعملا الكلمة الإيطالية: "Aggiornamento" التي تعني: إعطاء الذوق الحديث لها. لأجل ذلك، اجتمع المجلس الوحدوي، في الفاتيكان، و عمل على إحداث تغييرات كثيرة في طرقة عمل الكنيسة: رؤية مرنة أكثر عن الخلاص خارج الكنيسة، استعمال أقل للغة اللاتينية في الطقوس، دور أعظم للأساقفة في الجامعات. بدت هذه التغييرات بداية، تستهدف الانتقادات الواضحة و الضمنية للكاثوليك في القارة الأوروبية الذين كانوا يأملون ألا تكون الكنيسة بعيدة كثيرا عن القيم الغربية الحديثة. تزامن برنامج الفاتيكان هذا، مع تصاعد ما كان يسمى بلاهوت التحرر في الكنيسة خصوصا في أمريكا اللاتينية و الذي كان يبدو أن هدفه هو التصدي للانطباع السائد الذي مفاده أن الكنيسة كانت متحيزة إلى الرؤى السياسية المحافظة.<BR>كانت هناك انتقادات كثيرة صدرت من داخل الكنائس لهذه الإصلاحات على اعتبار أنها قد جاوزت الحد. أما البابا يوحنا بولس الثاني، فلقد أعاد التأكيد على القيم الكاثوليكية التقليدية فيما يتعلق بالقضايا الجنسية و دور النساء في الكنيسة و تبعية الأساقفة إلى المنصب البابوي. ثم هاجم تيار لاهوت التحرر و استبدل الأساقفة الإصلاحيين في أوروبا بالتقليديين. كانت إستراتيجيّته للتجديد تبدو و أنها تركز على الإمكانيات التي كانت توفرها الكنائس في البلدان الجنوبية. لهذا السبب، أقر البابا السابق، تشديدا غريبا على ضرورة الدخول في حوار مع الديانات الأخرى. كان هدفه، على حسب ما كان يفكر، دخول الكنيسة إلى المناطق غير الأوروبية.<BR>أما البابا الحالي، بنيديكت السادس عشر، فيبدو واضحا، أنه يملك رؤية ثالثة . إنه يتفق مع يوحنا بولس الثاني فيما يتعلق بضرورة السيطرة على مطالب التحديث. إلا أنه يختلف معه في نقطة أن مستقبل الكنيسة يعتمد على الحوار بين الأديان. ترتكز إستراتيجية البابا الحالي، على استرداد القاعدة التقليدية للكنيسة -أصولها الأوروبية- في الخطاب الذي ألقاه في ريغنسبيرغ، ركز هجومه أساسا على العلمانية الأوروبية و انتهز الفرصة من أجل المرافعة لأجل التماس عاجل لإحياء المذهب الكاثوليكي و ممارسته في أوروبا. <BR>هذا يتكيف مع انتقاداته السابقة بخصوص احتمال انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي و إصراره -الذي لم يتوج بالنجاح- على ضرورة أن تحتوي الدساتير المقترحة لهذا الاتحاد إلى إشارة واضحة فيها عن الدور المركزي للمسيحية في القارة العجوز. وفقا لهذا المنظور، يمكننا القول أن استخدامه لذلك التصريح المعادي للإسلام الذي تفوه به إمبراطور معقّد، جاء مناسبا تماما لتوجهاته. يمكننا أن نلحظ هنا ما هو عبارة عن مسار لتقوية أوروبا في مواجهة 'عدو' و بذلك، تشجيع كل الأوروبيين على تأكيد جذورهم المسيحية. لأجل هذا، أردا البابا أن يخاطر 'بالغضب' الإسلامي لأجل تعزيز توازن قاعدة أوروبية مترنحة.<BR>ثلاثة استراتيجيات متتالية و مختلفة إذن: 1) التحديث، 2) التوسع جنوبا بناء على الحوار، 3) تعزيز قاعدة أوروبية على الأسس الكاثوليكية التقليدية.<BR>فمن هي، في وجودها، ستكون مثمرة في مستهل هذا القرن الحالي؟<BR>ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ<BR>(1) العنوان الأصلي للمقالة: " الإستراتيجية البابوية لإنعاش المسيحية" و يمكن قراءة النص الأصلي على الرابط:<BR>http://fbc.binghamton.edu/commentr.htm<BR><BR>* عمانويل والرشتاين هو عالم اجتماع أمريكي و هو مدير مركز 'فرناند برودل' لدراسات الأنظمة التاريخية و الفلسفة بجامعة بينغاهمبتون في نيويورك.<BR><BR><BR><BR><br>