تحولات الدور الأمريكي: رؤية الذات ورؤية العالم
29 رمضان 1427

في بداية الثمانينيات وحين تم ضرب قوة المارينز في بيروت، سئل الرئيس الأمريكي حينئذ ريجان كيف أن أمريكا التي تملك من الوسائل ما استطاعت أن تكشف به عناصر (الفيت كونج) وهم الثوار الشيوعيين في فيتنام وهو يتبولون أثناء الليل في الأدغال والغابات لم تستطيع أن تكتشف ما يحاك لعناصر البحرية في مياه بيروت وهم يعيشون أجواء معادية احتمالات وتوقعات العدوان منها يجب أن لا يغيب عن الأذهان؟ فقال: "أن أمريكا قد حققت التفوق العلمي وقطعت أشواطا على طريق التسلح والسلاح بما يفوق الخيال ولكن يبقي أمران هما فوق قدرة وتوقعات التفوق الأمريكي: <BR><font color="#ff0000">الأول: </font> ما يتعلق بقدرة الله وانفراده بعلم الغيب<BR><font color="#ff0000">أما الثاني: </font> فهو ما يعتمل في داخل الإنسان وفي أعماقه من أفكار ونوايا ومخططات".<BR> إن رؤية الذات هي التي تحدد معالم الاستراتيجية وطرائق التحرك داخليا وخارجيا وهي التي ترتب الأجندة وتحدد معالم الأولويات ومن وعي القوى العظمي ورؤيتها (إدراكها لذاتها) تنبع مفاهيمها الاستراتيجية والأمنية ومن كيفية إدراكها للعالم (رؤية العالم) تكون صورها الذهنية وأنماط تفكيرها ومن مزيج رؤيتها لذاتها ورؤيتها للعالم تنتج خياراتها الاستراتيجية ووسائل تطبيقها ويعكس التطبيق على أرض الواقع الحقيقة الكامنة في أعماق الوعي لرؤية الذات والعالم.<BR>كما يتجلى وعي القوي العظمي ورؤيتها لذاتها وللعالم في الخطاب السياسي لنخبتها المفكرة و صانعة السياسة ومتخذة قراراتها والتي تحدد أهداف الدولة الاستراتيجية وتوجهاتها العامة. <BR>فرؤية الذات والعالم هي إذن التي تحدد الاستراتيجيات والأهداف والمصالح العليا والسلوك السياسي والموقف تجاه القضايا المختلفة التي تعدها الدولة حيوية لمصالحها العليا وبهدف تنفيذها لابد من خلق الوسائل والآليات المناسبة ولها ترصد الميزانيات الضخمة وتتوافر لها المخصصات الطائلة، يقول بول كيندي : قبل أسابيع قليلة قمت بنوع من إعادة الحساب لقوة الولايات المتحدة في الوقت الحالي على أساس المعايير النموذجية للعلوم الاجتماعية وكان الانطباع الساحق الذي خطر يرتبط بالمدى البعيد الذي يقف فيه هذا البلد فوق كل المنافسين المحتملين باعتباره أعظم قوة في العالم، صحيح أن أمريكا تضم 4.5 في المائة فقط من سكان العالم غير أن الأرقام المطلقة للبشر نادرا ما تكون مؤشرا جيدا للثقل النسبي فبالمقارنة تمتلك الولايات المتحدة ما يقرب من 30 في المائة من إجمالي الإنتاج العالمي وهي نسبة زادت في الواقع في السنوات الأخيرة بسبب الشلل الذي يعاني منه اقتصاد روسيا والهبوط الذي تعاني منه اليابان وما هو أكثر إثارة للدهشة حجم التفوق العسكري الأمريكي في العام الماضي كان 36 في المائة من الإنفاق العسكري في العالم يعود إلى البنتاجون والحقيقة أن ميزانية الدفاع في الولايات المتحدة تعادل الميزانيات الدفاعية للدول التسـع الأكبر التي تأتي بعدها وهي إحصائية لم توجد في التاريخ من قبل، إن وضع كل هذه المقاييس معا في إطار القوه الوطنية النسبية يقدم مزيجا يوقع في النفس رهبه والحقيقة أن أمريكا هي عملاق عصرنا الراهن الذي يتخطى العالم بأساطيل طائراته وأنظمة اتصالاته وشركاته العملاقة وتأثيره الثقافي الهائل غير أن هذا العملاق عرضه أيضًا لأسلحة مختلفة تماما عن طائرات ياما موتو وعن فرق هتلر المدرعة، إن لها كعب أخيل الذي هو إلى حد كبير من صنعها، فتفوقها الثقافي والتجاري وقرع طبول تعاليمها في السوق الحرة ينظر إليه باعتباره تهديدا للكثير من الجماعات الدينية والطبقية خصوصا في المجتمعات التقليدية".<BR>لكن يبدو لي أن أضعف ما في تصور القوة العظمي (الولايات المتحدة) لذاتها (أو كعب أخيل بتعبير كيندي) هو التضخم في رؤية الذات وهو تضخم مرضي له انعكاساته الداخلية والخارجية، ومن أهم معالم هذا التضخم المرضي هو الشعور<font color="#ff0000">"بالاستثناء"</font> سواء صعيد الداخل أو الخارج.<BR>ولقد نشر الكاتب الأمريكي الياباني الأصل فوكو ياما في جريدة الفايننشال تايمز البريطانية في 16 سبتمبر عقب أحداث تفجيرات نيويورك وواشنطن مقالا يري فيه أن هذه الأحداث قد تعيد الولايات المتحدة إلى حظيرة الدول العادية ويتحدث في هذا المقال عن نهاية <font color="#ff0000">"الاستثناء الأمريكي"</font> فقد كان الشعور الغالب لدي الأمريكي العادي أنه لا يحتاج إلى العالم بل العالم هو الذي يحتاج إليه، كان شعوره أنه وحده الذي يتمتع بالأمن المطلق وإذا به يكتشف لحظة سقوط أبراج مركز التجارة العالمي سقوط هذه الأوهام، فالأمن الأمريكي كالأمن الأوربي أو الآسيوي معرض للمخاطر، والولايات المتحدة ليست قلعة محصنة ضد المخاطر فعندما أتى بوش الابن إلى سدة الرئاسة الأمريكية ومعه فريق الحرب الباردة تقرر إعادة إحياء مشروع الدرع الصاروخي لدرء خطر الدول المنافسة من جهة والدول المارقة العاصية (بالمصطلح الأمريكي) من جهة أخرى وذلك بناء على تقرير كان أعده وزير الدفاع الحالي دونالـد رامسفيلد أراد سحب الجيش الأمريكي من مناطق انتشاره في العالم (100.000 في أوروبا، 100.000 في أسيا، 5000 في الشرق الأوسط وحدد الصين منافساً استراتيجيا بدل أن تكون حليفا استراتيجيا، كما اعتمد دراسة أندرو مارشال الخبير في الشؤون الاستراتيجية التابع للبنتاجون والتي تنص على نقل الصراع إلى أسيا بعد تراجع الخطر السوفيتي، فكانت أولى بوادر الصراع في آسيا حادثة طائرة التجسس الأمريكية التي سقطت في الصين وبها مرت العلاقات الأمريكية الصينية بأزمة شديدة التعقيد كادت تصل إلى طريق مسدود لولا التنازل الذي أبداه الطرفين .<BR>وبهدف تحقيق هذا النقل الاستراتيجي للصراع إلى أسيا حاولت الدراسات تحديد وسـائل هذا الصراع الجديد في أبعاده الأربعة البر والجو والبحر والفضاء، وتحركت الاستراتيجية الأمريكية انطلاقا من رؤية خاصة لذاتها وللعالم فسعت الولايات المتحدة إلى توسيع حلف الناتو لاحتواء أقرب لروسيا وإلا فما معني قرار التوسع شرقاً في الوقت الذي أصبحت فيه روسيا لا تشكل خطراً على العالم الرأسمالي الغربي، بل تسعى للانضمام إليه، وفي أسيا بدل بوش تسمية الصين من حليف استراتيجي إلى منافس استراتيجي وهو يحاول احتواءها على غرار ما حصل مع الاتحاد السوفيتي لذلك يريد حماية تايوان ويغازل فيتنام ويشجع اليابان على لعب دور أمني مستقبلي ويمنع التقارب بين الكوريتين ليبقي 35 ألف جندي أمريكي في الجنوب كذلك يحاول التمركز في الممرات المهمة التي تتحكم بالمواصلات البحرية ويساعد سنغافورة على تحديث ترسانتها العسكرية في مقابل إعطاء البحرية الأمريكية حق الرسو في موانيها للسيطرة على ممر مالنجا، وتعود الهند إلى دفء الحضن الأمريكي بعد غياب طويل بهدف الإشراف على المحيط الهندي واحتواء الصين في الوقت نفسه.<BR>وعلي صعيد الداخل، فقد ظل الأمن الداخلي الأمريكي هامشيا في الاستراتيجية الأمريكية الشاملة، رغم أنه قبل تفجيرات نيويورك قد شكلت ثلاث لجان لدراسة هذا الأمر في العامين 1999، 2000 (لجنة عليمور 1999، ولجنة هاروت رودمان في يناير 2000 ولجنة بريمر في يونيو 2000 ) وكانت حصيلة هذه اللجان متشابهة وتضمنت كلها الأمور التالية:<BR>أصبحت أمريكا من دون شك معرضة للهجمات الإرهابية أكثر من ذي قبل ولن تستطيع العسكرية الأمريكية الدفاع عن الأمريكيين.<BR>إن دول ومجموعات إرهابية سوف تحصل على أسلحه دمار شامل وبعضهم سيستعملها ضدنا (الأمريكان) وأمريكيون سيموتون على الأرض الأمريكية من دون شك وبأعداد كبيرة.<BR>توصلت اللجان إلى نقطه مشتركة تقول: أن أمريكا ليست مهيأة أبدا لدرء وردع هذه التهديدات.<BR>إذا وقع المحظور وحصل أكبر اعتداء على الأرض الأمريكية فمنهم من سماه بيرل هاربر ثانية ومنهم من شبهه بمفاجأة حرب رمضان (أكتوبر 1973) وأطلقت الصحافة الأمريكية الشعار الآتي "إعلان حرب إرهابية على الولايات المتحدة" وفعلا صدقت توقعات اللجان المذكورة وبدت أمريكا عاجزة عن الرد فالوسائل كانت معدة لغير هذا النوع من الحروب حيث يمكن الاقتصار على العدو ويمكن قياس النصر، أما <font color="#ff0000">العدو الجديد</font> فيتطلب نوعا جديدا من الاستراتيجية والتدريب والتسليح.<BR>ومنذ مدة طويلة ـ وزاد الأمر بعد أحداث 11 سبتمبر ـ والجدل يدور داخل الولايات المتحدة حول الموقف الواجب اتخاذه تجاه العالم: <BR> <font color="#ff0000">فهناك الموقف الانعزالي</font> إذ تتراجع أمريكا إلى حدودها لتترك العالم لمشكلاته كما حصل بين الحربين العالميتين فلا تكون هناك عمليات حفظ سلام أمن خارج الأرض الأمريكية ولا مشاركة في البنك الدولي ولا في الأمم المتحدة ولا في صندوق النقد الدولي وكل ما يستتبع من انعزال، لكن هذا الخيار يبدو مستحيلا لأن الاقتصاد الأمريكي أصبح مرتبطا بشكل عميق بالاقتصاد العالمي.<BR>كما أن هذا الأمر سوف يخلي الساحة للأقوى على المستوى الدولي لأن الفراغ ليس من سنن الكون، وإذا حلت الفوضى في العالم في وقت من الأوقات حتما ستطول آثارها الولايات المتحدة عاجلا أم آجلا.<BR><font color="#ff0000">الموقف الثاني: </font> هو التفرد في القرارات وتقوم هذه المقاربة على أن تأخذ الولايات المتحدة قرارات تتناسب و مصالحها القومية حتى لو انتهكت هذه القرارات القوانين الدولية وكانت تتعارض مع مواقف الحلف ولكن هذا الموقف سيؤدي إلى مزيد من الفوضى العالمية من حيث الانعكاس السلبي على أمريكا الاحتمال الأخير يقوم على مزيد من تورط الولايات المتحدة في العالم بالشكل الذي يحفظ مصالحها، <BR>إن تحولات الدور الأمريكي داخليا وخارجيا سترتبط ارتباطا وثيقا بالتحولات في رؤيتها لذاتها وللعالم، فلقد تهاوت أسطورة الأمن المطلق ولم تعد المحيطات ولا الأساطيل التي تجوب العالم قادرة على حفظ المواطن (والوطن) الأمريكي وبدت الذراع الأمريكية الطويلة (على العالم) عاجزة عن حماية الأرض الأمريكية ولم يعد الذي يهدد الولايات المتحدة أخطار خارجية أو قوى منافسة بل أصبح الخطر من الداخل وهذه أخطار(عدو) لا يصلح معه الدرع الصاروخي، وسيظل مستقبل العالم رهنا بإحداث تغيرات جذرية على صعيد رؤية الولايات المتحدة لذاتها وللعالم.<BR><br>