تونس و طلب العودة إلى الأصول !
3 ربيع الثاني 1427

جاء في أحد الأخبار المنشورة في مواقع كثيرة على الإنترنت منها موقع (النهضة) التونسي ما يلي: " ذكرت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أن عددا من طالبات التعليم الثانوي منعن من اجتياح امتحاناتهن بسبب ارتدائهن الحجاب." وقالت الرابطة في بيان لها أن إدارة معهد "القنال" الثانوي بمدينة بنزرت (60 كيلو متر شمال العاصمة التونسية) منعت 38 طالبة من اجتياز الامتحان، و قالت الرابطة ـ و هي من أقدم المنظمات الحقوقية في العالم العربي ـ أنه طلب من الطالبات التوجه إلى قسم الشرطة للتوقيع على تعهد بعدم ارتداء الحجاب مستقبلا" كشرط من شروط السماح لهن بمواصلة التعليم.."<BR>لعل هذا الخبر الذي لا يخلو من صدمة للعديد من القراء المسلمين ـ و حتى غير المسلمين ـ يعيد الذاكرة إلى بيان مماثل صدر بتاريخ 28 مايو 2003 الميلادية يحمل نفس التعابير تقريبا، و نفس الشجب على حرمان طالبات تونسيات من التعليم بسبب الحجاب، في دولة مادتها الثانية تقول بالحرف الواحد " الإسلام هو الدين الرئيس في تونس و العربية هي اللغة الرسمية" فما الذي يجري فعلا؟<BR><font color="#0000FF">ـ الاحتلال المؤامرة: </font><BR>إبان الاحتلال الفرنسي لعدد من دول شمال إفريقيا، كان واضحا أن البعد الاستراتيجي الكلونيالي للاحتلال أبعد من الحملة العسكرية على شمال إفريقيا أو غربها، بل أبعد بكثير من ذلك، باعتبار أن الاحتلال الفرنسي لكل من الجزائر و تونس و المغرب، فتح شهية الفرنسيين منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى ربط " الاحتلال" بالثقافة الكلونيالية الفرنسية التي ظلت فرنسا تضحك بها على المستضعفين في العالم الثالث بأنها ثقافة انفتاح وترقية اجتماعية و فكرية و صحية أيضا. كان قدوم الجنود الفرنسيين إلى الجزائر مثلا مربوطا آليا بقدوم عشرات من القساوسة الذين أسسوا العديد من الكنائس و من المعاهد التنصيرية التي كان يراد بها استقطاب البسطاء من الشعب كي يصبحوا جزءا من الحملة الـ"تنويرية" الكلونيالية لعقول تتهمها فرنسا مسبقا بالانغلاق و الانسداد، و لم يكن بناء عشرات الكنائس في العديد من المناطق الجزائرية ثم التونسية ثم المغربية إلا هدفا استراتيجيا غير برئ ساهم في تشغيله و استمراره العديد من القساوسة الدوليين بدعم مباشر من الكنيسة الكاثوليكية، و مما يسمى في لغة الفاتيكان بالكرسي الرسولي و هي أعلى سلطة في تشريع الفاتيكان.. الحملة التغريبية على الدول الساقطة بين أيدي الاحتلال كانت لعبة استسهالية في البداية، بحيث أن الغنيمة التي تبلورت نتيجة الاحتلال كانت عبارة عن دول بعينها، و ثقافات و واقع مختلف عن الواقع الفرنسي و بالتالي كان يشكل خطرا كبيرا على التواجد الفرنسي نفسه باعتبار أن الرفض له يعني في النهاية المقاومة، تماما كما جرى في الجزائر و في تونس و المغرب في الخمسينيات.. لكن لعبة الاستسهال سرعان ما لبست البذلة العسكرية حين تورطت العديد من الشخصيات المسيحية في عمليات شنيعة ضد المسلمين، لإجبارهم على الخضوع و على سياسة الأمر الواقع بالخصوص في المناطق القروية النائية و المعزولة و التي كانت وكرا للمبشرين في الخمسينات و الستينات، تماما كما جاء في كتاب " الرب المجيد" للمنصر الفرنسي" آلان جيري" الذي كشف فيه بشكل غير مباشر الوسائل التي استعملها المنصرون في استقطاب المسلمين من عامة الشعب، عبر تقديم لهم الهدايا و المال و المساعدات و عزلهم أكثر عن واقعهم، و إخضاعهم نفسيا إلى حالة من الضغينة على بقية أبناء جلدتهم الذين تركوهم لمصيرهم !" حادثة غريبة أخرى كشف عنها الجنرال المجرم الفرنسي "أوساريس" في مذكراته التي أثارت ضجة رهيبة و أعادت إلى السطح الممارسات التعذيبية غير الإنسانية التي مارسها الاستدمار الفرنسي في الجزائر، قال أوساريس أن اللجوء إلى " الترهيب" النفسي كان يتم عبر مساعدات " شرفاء من خدام الرب" ! و هو التعبير الذي يعني أن الكنيسة كانت متورطة بشكل مباشر في إذلال السكان الواقعين تحت الاحتلال الفرنسي سواء في الجزائر أو في تونس أو في المغرب.. <BR>الربط بين الاحتلال و العمل التنصيري و التغريبي في أعمق صوره لم يكن صدفة، و لا مجرد دعاية مجانية، بل كان حربا أخرى يراد بها وقف كل محاولة التمرد على الواقع، و الحد من أي أنواع المقاومة بالخصوص و أن النشاط "التبشيري" لم يكن مقتصرا على "التبشير" إلى المسيحية فقط، بل على خلق أنواع التناقض داخل المجتمع نفسه و بالتالي حمل الأفراد على الشعور بالثورة على ذلك الواقع الاجتماعي الذي ساهم الاحتلال بشكل مقصود في تجهيله و تفقيره و تهميشه و عزله أيضا... و إن كانت الثورة الجزائرية المندلعة مع بداية الخمسينات و التي سبقتها مئات الانتفاضات الشعبية قد فتحت الباب لثورات مماثلة في تونس و المغرب، إلا أن الرهان لم يكن هو نفسه.. لكن الحملة التغريبية ظلت مستمرة حتى بعد استقلال جل الدول شمال افريقية.. و الحال أن التركيز فيما بعد على البعد العلماني كان أيضا وجهة غير بريئة، بالخصوص حين تبنت العديد من الأنظمة المستقلة خيار العلمانية تحت سقف الاشتراكية و حتى الشيوعية في بعض الحالات، حتى بعد إفلاس تلك الأيديولوجيات ظلت العلمانية هي "الرونق" المستمد في الأساس تاريخيا كنتاج احتلال مر على الدول التي صارت اليوم لأسباب غريبة تتباهى بنتائج ذلك الاحتلال نفسه، بان تعتبر التغريب الاجتماعي و الفكري "غنيمة" حرب، و هي المأساة التي جرتها الدول العربية التي تجني اليوم ثمار "التسيب" في مواجهة الاحتلال الأعمق، و هي الدول التي لم تعمل على بناء مجتمعات بقدر ما عملت على بناء "أنظمة" شمولية صارت تتهاوى اليوم أمام مرأى الجميع !<BR><font color="#0000FF">المشهد التونسي: </font><BR>في كتاب (أزمة الهوية في تونس)، قال الأستاذ هشام فيتوري: إن أزمة الهوية في جل البلاد المغاربية لم تكن مفتعلة في الأساس، بل كانت نتيجة العجز الكبير الذي قابلت به الأنظمة ـ بعد الاستقلال ـ الأمور الأساسية في المجتمعات المغاربية، و في تونس خصوصا، بحيث إن التركيز على ما سمي بالبناء و التشييد الأسمنتي لم يكن بالعملية الفاعلة تماماً، باعتبار أن العديد من القرى ما تزال تعيش فعليا في ظروف من البؤس و الفقر لم تصل إليها أبسط المرافق الاجتماعية كالماء و الكهرباء، لهذا من العار الكلام عن عملية البناء كأساس رمزي و قومي مطلق في الوقت الذي تتكدس فيه السجون التونسية بالعديد من السجناء و في الوقت الذي تشهر فيه العديد من المنظمات الحقوقية في تونس و خارجها ورقة التجاوزات الرهيبة التي يذهب ضحيتها أفراد من الشعب التونسي الحر".. و الحال أن إشكالية الأزمة التونسية لم تكن في الحقيقة وليدة العهدتين الرئاسيتين السابقتين للرئيس الحالي زين العابدين بن علي فقط، بل هي نتاج سابق فجره الفكر الليبرالي غير الجدي الذي تعامل معه (الرئيس الأسبق) لحبيب بورقيبة حين أراد بناء دولة جديدة بعيدة كل البعد عن الهوية العربية و الإسلامية.. الدكتور "حيدر إبراهيم" مؤلف كتاب " التيارات الإسلامية و قضية الديمقراطية في تونس" ذكر أن تاريخ الحركة الإسلامية في تونس لم يكن وليد العشرية السابقة، بل كان حاضراً مكرساً ساهم في عملية التحرير أيضاً، باعتبار أن المجاهدين الذي رفعوا السلاح ضد العدو الفرنسي المحتل فعلوا ذلك بقناعة النصر أو الشهادة المرتبطتين بالإسلام و بخيار الإسلام كهوية وحيدة للتونسيين، و لكن الذي حدث أن الاستقلال حمل لحبيب بورقيبة إلى الحكم، و الحال أن لحبيب بورقيبة كان من أشد المعجبين و المناصرين للفكر الغربي و الفرنسي بالخصوص، و المدافعين عن العلمانية الفرنسية في عملية الفصل المطلق و الكامل بين الدين و السياسة.. بينما قال الكاتب التونسي المعروف الأستاذ هشام جعيط عنه أن بورقيبة كان من أكثر الرؤساء التونسيين اشمئزازا من الفكر العروبي و من المشرق الذي يعتبره عالما مختلفا عن عالمه، بحيث أن فكرة العروبة عند بورقيبة كانت موازية للرجعية و التخلف و غارقة في اللاوعي و اللامنطق و اللاعقلانية، بيد أن "الجديد" الذي حمله لحبيب بورقيبة يكمن في ذلك السلخ الرهيب الذي أحدثه في الشخصية التونسية عبر جملة من القوانين التي بقيت سارية، منها قوانين تدخل في سياق التشريع المدني الذي أعطى للمرأة حق الحصول على العصمة الكاملة في الزواج، و القانون الصادر عام 1981 المعارض للحجاب صراحة. كان المنشور الحكومي الصادر سنة 1981 قد نص بشكل صريح على أن الحجاب الإسلامي عبارة عن زي طائفي و دعا إلى منعه رسميا في المؤسسات و المعاهد التربوية (المدارس و الجامعات).. و لعل المصادفة أن "حركة الاتجاه الإسلامي" رأت النور في نفس ذلك التاريخ، أي سنة 1981 الميلادية بعد أن تأسست برؤية سياسية و اجتماعية اعتبرتها البديل الحقيقي و الحل الوحيد للوضع الاجتماعي الذي تعيشه تونس، و إن كان زعيم الحركة" راشد الغنوشي" قد لقي ما لقيه من حبس و تعذيب و اتهام مسبق بالتخريب، إلا أن المشروع الإسلامي الذي حملته حركة الاتجاه الإسلامي ـ التي صار اسمها عام 1988 حركة النهضة ـ ضمن مجموعة من الحركات التونسية التي ولدت أيضا سواء نقابية أو عمالية أو اجتماعية تحت سقف نفس المطالب التي يرفعها هؤلاء إلى يومنا هذا، المطالبة بإعادة تونس إلى عروبتها و إلى إسلامها بعد سنوات طويلة من التغريب و من الانحلال السياسي و الأيديولوجي و الاجتماعي الذي لم يفد التونسيين في شيء. <BR>ليس بعيدا عن الحقيقة أن السلطات التونسية مارست كل الطرق لفرض التعتيم و التشويه على حركة النهضة و عل كل الحركات النقابية المعارضة سواء المتواجدة داخل تونس (بعض قياداتها في السجن) أو تلك الموجودة في الخارج و التي تعتمد اليوم على بيانات الانترنت لإيصال أصواتها إلى العالم، إلا أن الدور الذي لعبه الإعلام التونسي بدعم مباشر عن الإعلام الفرنسي بكل ما في ذلك الدعم من مساندة سياسية و لوجستيكية لأجل قطع الطريق أمام كل أنواع التغيير الممكنة في تونس، بالخصوص في زمنية زين العابدين بن علي المعروفة بحدة قمعها للحوار الآخر و أساليب الاعتقال التعسفي و المطاردات البوليسية تحت سقف "أمن الدولة" التي جرّت العديد من المعارضين إلى المعتقلات.. كل هذا لم يعد سرا اليوم تحديدا بعد أن انفجرت قضية التجاوزات في السجون التونسية و التي تنشرها دوريا مواقع كثيرة لمنظمات حقوقية تونسية و دولية.. <BR><font color="#0000FF">الهروب إلى الأمام: </font><BR> اليوم، في الوقت التي يتغير فيه العالم، و في الوقت الذي سقطت فيه العديد من القلاع الدولية، و في الوقت الذي انهارت فيه الأيديولوجيات الغربية المفلسة، في الوقت الذي يبدو الصراع مفتوحا على آخره في عملية تدميرية غربية ضد الثوابت الإسلامية، داخل سياق صراع الحضارات الذي لا يريد الاعتراف به بعض "الديمقراطيين" المسالمين !! في هذا الوقت الذي يعتبر فيه جورج دابليو بوش أن الإيمان قناعة أمريكية و أن الصلاة " للرب" ضرورة يجب القيام بها يوميا كي يكون الفوز الأخير حليفا ل" الامبريالية" الأمريكية الجديدة، حامية البشر، و راعية السلام الدولي، و حاملة الديمقراطية و الحرية لبقاع الأرض !!! في هذا الوقت، ما زالت تونس تمنع ارتداء الحجاب و تعتبر الحجاب ثقافة رجعية و لباسا طائفيا لا يجوز الانتماء إليه، و لعل التصريحات التي أدلى بها الوزير التونسي للشؤون الدينية تعكس بشكل مفجع الرؤية الرسمية للثوابت التي يسعى النظام التونسي إلى طمسها واستئصالها من الجذور.. رؤية عامة للوضع الإعلامي و الثقافي على سبيل المثال لا الحصر تقول أن عشرات الصحف و المجلات التونسية تسوق منذ سنوات لتونس جديدة، "متفتحة" على العالم، غير ملتزمة بأي التزام خلقي و لا أدبي و لا فكري مع العالم الإسلامي، باعتبار أن التسويق للعنف و الإرهاب صار مربوطا بالإسلام، و هي الركيزة التي للأسف صارت تتمسك بها الأنظمة عموما و في تونس بشكل خاص، لأجل إخافة الناس من "خطر الإسلام" على العباد ! كما فعلت حين ربطت الإرهاب و العنف بالتجربة السياسية الجزائرية و حين اعتبرت أن التيارات الإسلامية في الجزائر هي التي اغتالت مئات الآلاف من الجزائريين ! الشيء المؤكد أن قانون "معاداة الحجاب" صار اليوم سياسة بعينها في تونس، تحرم آلاف التونسيات المسلمات من أن يكون لهن حق ارتداء الحجاب، و تحرمهن من حق ممارسة الشعائر الدينية بشكل طبيعي من دون أن يكون الخوف من المخبرين الذين سيربطون اللباس، و الحشمة، و الالتزام الديني، و ارتياد المساجد و إقامة الحلقات الدينية فيها بأنها "تحضير" سياسي لانقلاب كما جرى لشباب مدينة "صفاقص" التونسية الذين اعتقلوا بتهمة إقامة حلقة دينية، مع أنهم كانوا يسمعون إلى محاضرة طلابية عن ابن خلدون !! نذكر أن موقع "فام" الفرنسي على الانترنت، ذكر في استطلاع أن 44% من الشابات التونسية في العشرين و ما وفق يرغبن ارتداء الحجاب، و أنها النسبة التي بدت عالية عن السنوات الماضية، بحيث أن استطلاع للرأي أقيم عام 2003 جاء فيه أن 32% من التونسيات يرغبن في ارتداء الحجاب.. و مهما يكن فإن القانون الرسمي في تونس يعد الحجاب جريمة يحق معاقبتها ضمنيا !<BR><br>