سلوفودان ميلوسيفيتش.. سنوات الحكم والإبادة
12 صفر 1427

في سجنه الوثير الذي يشبه غرف فنادق النجوم الخمسة، والطبيعة الخلابة التي تحيط بمكان إقامته، عثرت السلطات الهولندية صباح يوم السبت 11 مارس 2006؛ على (الرئيس الصربي السابق) سلوبودان ميلوسيفيتش، جثة هامدة بعد عدة ساعات على وفاته.. لينهي حقبة قضائية أنهت حقبة تاريخية كان فيها وبجدارة صاحب الظل الأظلم على المسلمين في يوغوسلافية السابقة.<BR>سلوبودان ميلوسيفيتش، الذي يعرف باسم (جزار البلقان) بسبب إراقته الكثير من الدماء في الدولة العرقية التي كان يتحكم بها، مات بصورة غامضة، لينهي سنوات من التحقيق الدولي معه حول مجازره السابقة، وليفتح من جديد تحقيقاً من نوع آخر، يبحث في كيفية وفاته المفاجئة.<BR>على الفور، وقبل أن تبدأ تصريحات المحكمة الدولية بلاهاي (المسؤولة عن محاكمته والإشراف على سجنه الوثير) بتقديم معلومات محددة عن وفاة ميلوسيفيتش، بدأت وسائل إعلام غربية في الحديث عن إمكانية اغتياله، أو انتحاره. وكلا الحالتين مسنودتان بشيء من الأدلة الإعلامية (غير الجنائية) المسبقة..<BR><font color="#0000ff">هل انتحر أم اغتيل؟ </font><BR>بعض المصادر الإعلامية والسياسية، أشارت على الفور إلى إمكانية إقدام سلوبودان ميلوسيفيتش على الانتحار، خاصة وأن والديه كانا قد انتحرا في وقت مبكر من حياته، ما ترك أثراً في شخصيته.<BR>فضلاً عن ذلك، فإن سجن لاهاي شهد حالتي انتحار سابقتين، لمتهمين في قضية إراقة دماء عشرات الآلاف من المسلمين في يوغوسلافيا السابقة.<BR>حيث أعلنت مصادر دولية يوم الاثنين الماضي (أي قبل الإعلان عن موت ميلوسيفيتش بخمسة أيام فقط) انتحار ميلان بابيتش (زعيم صرب كرواتيا السابق) في سجنه بلاهاي.<BR>وجاء في بيان صادر عن مكتب المحكمة أنه "عُثِرَ على ميلان بابيتش يوم الأحد المصادف الخامس من مارس، ميتاً في زنزانته في مركز الاعتقال التابع للأمم المتحدة في شيفينينغن بهولندا". <BR>وسبق لسجن لاهاي أن شهد في عام 1998 أيضاً، حالة انتحار أخرى، عندما قام سلافكو داكمانوفيتش (أحد الزعماء الكروات الصربيين) بالانتحار.<BR>وفي المقابل، استبعدت مصادر أخرى أن يكون ميلوسيفيتش قد أقدم على الانتحار، حيث قال ستيفين كاي (أحد المحامين المكلفين بالدفاع عنه): " إنه ليس لديه أي سبب يجعله يشك في أن ميلوسيفيتش أقدم على الانتحار".<BR>وفيما يتعلق بانتحار والديه، قال محاميه: " نعم، كلا والديه أقدم على الانتحار، لكن فيما يتعلق به، كان موقفه إلى حد كبير شديد الوضوح عكس ذلك، إنه كان مصمماً على أن يستمر في الدفاع عن قضيته".<BR>وفي رده على سؤال صحفي بعيد إعلان وفاة ميلوسيفيتش، حول احتمال تأثر الزعيم الصربي السابق عاطفياً؛ بانتحار ميلان بابيتش قبل 6 أيام، قال كاي: " على الإطلاق. في الحقيقة فإن بابيتش كان شاهد إثبات في القضية ضدنا، وكان يقد الأدلة في المحاكمة بخصوص مدعي عليه يسمى مارتيك، لكن ذلك لم يكن له تأثير مقلق على ميلوسيفيتش على الإطلاق. إنه لم يكن لدى بابيتش أي علاقة به في السجن".<BR>وفي مقابل هذه الفرضية، فإن بعض الأصوات أشارت إلى احتمال اغتيال ميلوسيفيتش في سجنه، وهي الفرضية الأقل قبولاً لحد الآنً، طالماً أن المحكمة الدولية كانت قد تسلمت أدلة مصيرية حول تورطه في التطهير العرقي الذي نال من عشرات الآلاف من المسلمين في يوغوسلافيا السابقة.<BR>حيث أماط محامي مليوسيفيتش ستيفين كاي اليوم اللثام عن رسالة قال إن موسكو تسلمتها منذ عدة أيام من الزعيم الصربي تحذر من احتمالية تسميمه في سجنه, كما أعلن اوليتش داسيك (الزعيم الكبير في حزب ميلوسيفيتش الاشتراكي) بصربيا، أن زعيمه السابق لم يمت ميلوسيفيتش في لاهاي، وقال: " هو لم يمت، لقد قتل في لاهاي".<BR>كما نقلت محطة (بي 92) الصربية، عن زدينكو تومانوفيك (أحد محامي ميلوسيفيتش) قوله: " اليوم قد حفظت طلباً رسمياً في المحكمة، من أجل إجراء فحص طبي في موسكو، من أجل التحقق من اتهام يتعلق بتسميم ميلوسيفيتش في سجنه بلاهاي".<BR>ومن أجل الابتعاد قدر المستطاع عن الاتهامات التي قد تصدر لاحقاً، قررت هولندا إجراء تشريح طبي لجثة ميلوسيفيتش، بحضور طبيب صربي. مشيرة إلى أنها ستقوم بتشريح كامل الجثة، وإجراء فحص للسموم أيضاً.<BR>وقد نقلت جثة ميلوسيفيتش من سجنه إلى المعهد الهولندي للطب الشرعي حيث سيقوم أطباء هولنديون بفحص الجثة. <BR>وقالت متحدثة باسم محكمة جرائم الحرب: " إن طبيبا بارزا من بلجراد سيتابع تشريح الجثة بناء على طلب المجلس الصربي الوطني للتعاون مع لاهاي". <BR><font color="#0000ff">إلى موسكو بالتحديد! </font><BR>حتى الآن تظل الفرضية الأكثر اقترابا للحقيقةً، هي التي ذهبت للقول بأن ميلوسيفيتش مات بسبب وضعه الصحي المتردي، بعد أن لازمته أزمة صحية طويلة، تتعلق بقلبه.<BR>حيث قال محاميه ستيفين كاي: " إن تقييمي موته أنه بسبب حالته الصحية السيئة، وقلبه المتعب"، مشيراً إلى ترجيح احتمال وفاته بسبب سكتة قلبية.<BR>كما أكدت محكمة لاهاي أن موت ميلوسيفيتش داخل زنزانته كان لأسباب طبيعية. <BR>ومن جانبه أكد وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي أيضاً، أن وفاة ميلوسيفيتش كانت لأسباب طبيعية. <BR>ويعاني ميلوسيفيتش (64 عاما) من مشاكل في القلب وارتفاع في ضغط الدم، مما دفع المحكمة إلى وقف جلسات محاكمته مرارا بسبب تدهور حالته الصحية.<BR>ورغم ذلك، فقد تعددت الأصوات التي حملت إدارة السجن مسؤولية موته. حيث قال بوريسلاف ميلوسيفيتش (الشقيق الأكبر لميلوسيفيتش): " إن لاهاي تتحمل مسؤولية وفاة شقيقي، لعدم سماحها له بالعلاج في روسيا أثناء المحاكمة".<BR>إلا أن المحكمة نفت ذلك، قائلة: " إنها تعنى بالمعتقلين أفضل عناية وعلى وجه الخصوص ميلوسيفيتش". وهو الأمر الذي تشهد عليه رحابة وفخامة المكان الذي كان يقيم فيه سفاح البلقان.<BR>ورفضت المحكمة نقل ميلوسيفيتش إلى روسيا لتلقي العلاج، خوفاً من إعداد ترتيبات له للهرب هناك، خاصة وأن روسيا تعتبر أحد أكبر حلفاء ميلوسيفيتش، فضلاً عن وجود مصحات ومراكز طبية أفضل وأجدر في أوروبا، إلا أن ميلوسيفيتش وحلفاءه كانوا مصرين على علاجه في روسيا تحديداً!<BR><font color="#0000ff">تاريخ أسود... وأحمر! </font><BR>استطاع ميلوسيفيتش أن يسطر تاريخ يوغوسلافيا السابقة بالدم، خلال فترة حكمه التي استمرت 13 عاماً تقريباً. <BR>كانت صور الجثث والأشلاء والدماء المتناثرة في كل زاوية في برشتينا ومدن البوسنة والهرسك وكوسوفا تاريخاً رصدته ذاكرة التاريخ، وأرخته صور ومشاهد الأمكنة المسلمة، التي انتظر الغرب أكثر من 10 سنوات من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضدهم قبل أن يتحرك لإيقاف الحكومة الصربية العنصرية.<BR>فقد شهدت دول يوغسلافيا السابقة حقبة سوداء مظلمة، لم يكن فيها للسلم والسلام نصيب. استمر القتل والتشريد والتطهير العرقي فترة طويلة، عانى منها المسلمون كثيراً، ولم يكن لهم من فئة تنصرهم وهي بين فكي كماشة الصرب والكروات، قريبين من الدول الشيوعية والنصرانية التي لم توقف القتل إلا بعد أن أراق ميلوسيفيتش دماء عشرات الآلاف من الأبرياء.<BR>بدأ تاريخ المنطقة المظلم، عندما بدأت أحلام ميلوسيفيتش بالسيطرة على دول يوغسلافيا السابقة، وفرض نصره الشخصي على حساب هزائم ودمار بلده، التي أدخلها في أربع حروب مزقتها وأفقرت الشعب فيها.<BR>قاد ميلوسيفيتش صربيا (الجمهورية اليوغسلافية المهيمنة)، في أربعة حروب بلقانية في التسعينيات. استطاع أن يجمع حوله الصرب العنصريين، ويعلن نفسه زعيماً روحياً عليهم.<BR>وكان يقول لرئيس وزرائه، ميلان بانيتش: " إن الصرب سيتبعونني بغض النظر عما أقوم به".<BR><font color="#0000ff">الطريق إلى لاهاي: </font><BR>ولد ميلوسيفيتش في 20 أغسطس، 1941، في بوتزاريفاك، المدينة الفقيرة في صربيا المركزية.<BR>كان أبوه قسيساً أرثوذكسياً معزولاً، ويعمل مدرساً. وكانت أمه أيضاً تمتهن التدريس. قبل أن ينتحرا سوية. <BR>في المدرسة الثانوية، قابل ميلوسيفيتش زوجتة المستقبل، وهي ابنة رجل ثوري متحيز للشيوعية في زمن الحرب.<BR>أصبح ميلوسيفيتش رئيساً لصربيا عام 1989 عبر انتخابات واسعة. <BR>في عام 1991، أعلنت كل من كرواتيا وسلوفانيا استقلالهما عن يوغسلافيا. فأرسل ميلوسيفيتش دبابات إلى الحدود السلوفانية، وبدأ حرباً قصيرة انتهت بانفصال سلوفانيا.<BR>في تلك الأثناء، قام الصرب في كرواتيا، بحمل السلاح بدعم من ميلوسيفيتش. قبل أن يرسل الجيش اليوغسلافي الصربي للتدخل في كرواتيا لدعم الصرب. وأسفرت هذه الحرب عن مقتل 10 آلاف شخص على الأقل، ودمّرت مئات القرى والبلدات الكرواتية، ولم تنته المجازر إلا عندما وقع الطرفان على اتفاقية وقف إطلاق النار في الأمم المتحدة عام 1992.<BR>بعد ثلاثة أشهر، أعلنت البوسنة والهرسك (ذات الأغلبية المسلمة) استقلالها. فبدأ ميلوسيفيتش بتمويل الصرب البوسنيين هناك، ودعمهم بالسلاح والعتاد، وأطلق حرباً دموية عنصرية ضد المسلمين، أسفرت عن مقتل أكثر من 200 ألف شخص مسلم. وتشريد مئات الآلاف الآخرين.<BR>استمرت العمليات العسكرية ضد المسلمين حتى عام 1995، عندما وقّعت صربيا اتفاقية (سلام!) في دايتون بأوهايو.<BR>هذه الحروب المتكررة تركت بوغسلافيا مقصومة الظهر، وأغرقتها في بحر من الفقر والتشرد والعوز. وبدأت العقوبات الدولية بالتركيز على صربيا، التي لا يزال يقودها ميلوسيفيتش.<BR>توقع العالم أن ينهي اتفاق دايتون الحروب الصربية المجنونة. إلا أن حرباً أخرى كان ميلوسيفيتش يستعد فيها لقتل المسلمين الألبان.<BR>فعلى الرغم من أن مدة حكم ميلوسيفيتش الدستورية انتهت عام 1997، إلا أنه استغل نفوذه في البرلمان من أجل تسميته رئيساً ليوغسلافيا، التي شملت جمهوريات صربيا والجبل الأسود معاً.<BR>وفي فبراير 1998، أرسل ميلوسيفيتش جنوده مرة أخرى، لقتل المسلمين الألبان في كوسوفا، حيث خرجت مظاهرات غاضبة في كوسوفا، بسبب الأوضاع البائسة التي تعيشها البلاد. كما جيش التحرير الكوسوفي بثورة ضد حكم ميلوسيفيتش العنصري.<BR>وبعد أشهر على الحرب العرقية الرابعة، تم تشريد نحو 800 ألف ألباني مسلم إلى الدول المجاورة، حاولت دول حلف الناتو إقناع ميلوسيفيتش بتوقيع معاهدة وقف إطلاق نار، نظمتها فرنسا.. إلا أنه رفض أي هدنة.<BR>فأطلق الحلف في عام 1999 حرباً دولية استمرت 78 يوماً، أرغمت ميلوسيفيتش على الاستسلام، بعد أن استغل القصف الدولي عليه لإحداث المزيد من الإبادة الجماعية ضد المسلمين في كوسوفا.<BR>استمر القصف الجوي الدولي معظم فترة الأيام الـ 78، إلى أن قبل ميلوسيفيتش بخطة (السلام!) الدولية، التي نقلت إقليم كوسوفا إلى الأمم المتحدة في يونيو 1999.<BR>وبقي ميلوشيفيتش على رأس السلطة في صربيا، التي غير فيها آلية الانتخابات الرئاسية عام 2000، حيث أصبح شعب يوغوسلافيا يختار الرئيس باقتراع مباشر. <BR>وظن المراقبون أن هذه الخطوة ستؤمن له فترة رئاسية ثانيةـ لكن ذلك لم يحصل. <BR>فخلال انتخابات الرئاسة في سبتمبر عام ألفين ورغم حرمان المعارضة من إسماع صوتها عبر وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة تعرض ميلوشيفيتش لهزيمة جلية على يد مرشح المعارضة فويسلاف كوستونيتشا. <BR>وعندما دعت اللجنة الاتحادية للانتخابات لجولة إعادة، انتشرت مظاهرات غاضبة في يوغسلافيا، وامتد الإضراب في كل مكان. <BR>وتتويجا لمظاهرات واسعة النطاق وإضراب عام استولى أنصار المعارضة على مبنى البرلمان في بلغراد وعلى مبنى التلفزيون الحكومي. وهرب ميلوشيفيتش وزوجته. <BR>وبعد ستة أشهر ألقي القبض على ميلوشيفيتش وأرسل إلى محكمة جرائم الحرب الخاصة بيوغوسلافيا السابقة في لاهاي، ومعه أربعة من كبار مساعديه. <BR>وفي فبراير 2002، بدأت محاكمة ميلوشيفيتش أمام المحكمة الدولية، حيث واجه فيها 66 تهمة تتعلق بالإبادة الجماعية في كرواتيا والبوسنة وكوسوفا، وجرائم التصفية العرقية وقتل النساء والأطفال والأبرياء.<BR><BR><br>