أمريكا وأوزبكستان.. صديق الأمس عدوّ اليوم!
29 رمضان 1426

بعد حرب "عاصفة الصحراء" التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق، أصدر الجنرال كولن باول (الذي كان وقتها رئيس هيئة الأركان الأمريكية، وقائد جيوش التحالف في الحرب) مذكراته الخاصة، حملت رؤيته للحرب والسلام الأمريكيين.<BR>وقال في إحدى النتائج النهائية لتجربته العسكرية في كتابه: " لا تستعدي أحداً، فإن استعداك أحد فلا ترحمه".<BR><BR>رغم أن التجربة والمذكرات كانت شخصية، إلا أن باول الذي بقي لسنوات طويلة في الإدارة الأمريكية (منذ عهد جورج بوش الأب ثم بيل كلنتون ثم بوش الابن) لم يستطع أن يكون ذاتياً تماماً، إذ أنه بالتالي جزء من السياسة الأمريكية.<BR><BR>ما ذكره باول قبل نحو 14 عاماً، ينطبق بشكل كبير على السياسة الأمريكية تجاه دول العالم، وهو ما جسّدته الولايات المتحدة خلال المدة التي تلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر بمبدأ " إن لم تكن معي فأنت ضدي".<BR>ولعل آخر مثال على هذه السياسة الأمريكية ما تشهده أوزبكستان هذه الأيام؟<BR><BR><font color="#0000ff">أهمية أوزبكستان أمريكياً:</font><BR>فبسبب قربها من أفغانستان، ومن الصين وروسيا، وبسبب العلاقات الوثيقة التي كانت تربط الرئيس إسلام كريموف بالإدارة الأمريكية والدول الأوروبية، فتحت أوزبكستان أراضيها برحابة أمام القوات الأمريكية، التي أنشأت قاعدة كارسي (كي تو) العسكرية في خان أباد.<BR>أما كريموف فقد كان اختيار الإدارة الأمريكية لبلاده لإقامة قاعدة عسكرية لها بمثابة جائزة كبيرة له، رحب بها على الفور، وأعلن دعمها.<BR>وظهر الرئيس الأوزبكي على شاشات التلفزيون في الأول من أكتوبر 2001، ليعلن استقبال بلاده للقوات العسكرية الأمريكية، بعد عامين على بدء حملة أمنية واسعة أقامها كريموف في البلاد، لملاحقة الإسلاميين، الذين ضيّق عليهم كثيراً وقتل واعتقل الآلاف منهم.<BR>وقال كريموف وقتها: " إن أوزبكستان ترغب في أن تقدّم مساهمتها في تصفية معسكرات وقواعد (الإرهابيين) في أفغانستان ومستعدة لإتاحة استعمال مجالها الجوي لهذا الغرض".<BR><BR>الولايات المتحدة استخدمت قاعدة (كي تو) في أوزبكستان للدعم العسكري واللوجستي لقواتها المحتلة في أفغانستان، وشكلت يداً عسكرية طويلة لتهديد الصين والاقتراب كثيراً من روسيا.<BR><BR><font color="#0000ff">سنوات غض البصر:</font><BR>ومنذ ذلك العام، استند كريموف على الدعم الأمريكي له في إطلاق يد قوات الأمن لملاحقة الإسلاميين في بلاده، واعتقالهم إلى أبعد حد، وصلت إلى إحداث مجازر جماعية، كل ذلك وواشنطن تغض الطرف عما يحدث.<BR>وسائل الإعلام العربية والعالمية نشرت العديد من التقارير حول ما يحدث في أوزبكستان من انتهاك لحقوق الإنسان، ومصادرة الحقوق الدينية لبلد غالبيته العظمى من المسلمين. ثم تدخّلت منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة التي قررت إرسال بعثات لتقصي الحقائق. بينما اكتفت واشنطن بالتلميح إلى ضرورة "إبداء المزيد من المرونة" من قبل الحكومة مع من أسمتهم "بالمتطرفين".<BR><BR>بل على العكس، بدأت واشنطن بالحديث عن "تهديدات" تتعلق بالدبلوماسيين الأمريكيين في أوزبكستان، حيث طلبت من رعاياها هناك توخي الحذر ومغادرة البلاد، وقالت في بيان لوزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 3 يونيو الماضي: " لدينا معلومات تفيد بأن مجموعات تخطط لهجمات ربما ضد المصالح الأمريكية في المستقبل القريب للغاية", مشيرة إلى العديد من التنظيمات الإسلامية التي وصفتها بالمتشددة منها "الحركة الإسلامية لأوزبكستان" و"القاعدة" و"إتحاد الجهاد الإسلامي" فضلاً عن "الحركة الإسلامية لشرقي توركستان" في المنطقة. <BR><BR>إلا أن الرئيس الأوزبكي ذهب بعيداً في استخدام القمع والقتل ضد الشعب الأوزبكي، ما أحرج واشنطن مراراً، وانتهى الأمر بها أن طالبت بعد أحداث مايو الماضي من طشقند أن تقوم "بضبط النفس" في تعاملها مع المدنيين.<BR>وجاءت التصريحات الأمريكية بعد أحداث 13 مايو التي راح ضحيتها المئات، حيث تحدثت الحكومة الأوزبكية عن مقتل 187، فيما أكدت منظمات حقوق الإنسان مقتل ما يصل إلى 500 مدني أعزل شاركوا في مظاهرة سلمية في مدينة أنديجان.<BR><BR><font color="#0000ff">الأزمة بعد المجزرة:</font><BR>أعربت الولايات المتحدة بتاريخ 17 مايو (بعد المجزرة بخمسة أيام) عن "قلقها البالغ" بشأن تقارير إطلاق القوات الأوزبكية النار على المدنيين العزّل، داعية إلى الشروع بإصلاحات سياسية شاملة، وطالبت نظام إسلام كريموف بالسماح للصليب الأحمر الدولي بدخول جميع مناطق البلاد التي تأثرت بالمظاهرات الأخيرة.<BR><BR>هذه التصريحات الأمريكية الخجولة قوبلت برد فعل حكومي قاس، إذ بعد أقل من شهرين على التصريحات الأمريكية سلمت الحكومة الأوزبكستانية مذكرة للحكومة الأمريكية تطالبها فيها سحب قواتها من القاعدة العسكرية في البلاد، ضمن مدة زمنية محددة، بدأتها بـ29 يوليو، تنتهي بعد مرور 180 يوماً.<BR>وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) في 1 أغسطس الماضي: " إن الحكومة الأوزبكية طلبت من الولايات المتحدة سحب قواتها من القاعدة الجوية (كارشي-خاناباد) ".<BR><BR>ويبدو أن الرئيس الأوزبكي استند إلى بدء تقارب أوزبكي روسي قد يضغط على أمريكا بالعودة إلى سياسة غض الطرف عما يحدث في أوزبكستان، كما أن الحاجة الأمريكية لوجود القاعدة العسكرية في أوزبكستان قد تضطر أمريكا إلى المهادنة.<BR>ولكن أمريكا التي بدأ الحديث داخل أروقة الكونغرس فيها عن ضرورة تخفيض قواتها في الخارج (بسبب الصعوبات المالية التي تواجهها)، وبسبب إنشاءها قواعد عسكرية في أفغانستان ذاتها، دون الحاجة لوجود قاعدة أخرى قريبة منها، ودعم قوات الناتو لها؛ ارتأت أن تقوم برد فعل أقسى ضد الحكومة الأوزبكية.<BR><BR>ما حدث بعد ذلك أن الولايات المتحدة قادت حملة عالمية ضد حكومة الرئيس كريموف، وأعلنت بدء تطبيق عقوبات ضدها على الفور، بدأتها بوقف تزويد أوزبكستان بالأسلحة والعتاد العسكري.<BR>وبعد الزيارة التي قام بها دانيال فريد (نائب وزير الخارجية الأمريكي ) أواخر شهر سبتمبر إلى طشقند، والتقى خلالها الرئيس الأوزبكي، فشلت المحاولات لاحتواء الأزمة بين الجانبين.<BR>ورافق نهاية زيارة فريد بيان أوزبكي يشير إلى عدم تمديد المهلة المحددة أمام أمريكا لإخراج قواتها من البلاد. ما شكّل صفعة مدويّة لأمريكا عالمياً.<BR><BR><font color="#0000ff">ضوء أخضر أمريكي لعقوبات دولية</font><BR>إلا أنه وبعد أيام قليلة على هذه الزيارة الفاشلة، أوعزت أمريكا لأوروبا ببدء تطبيق عقوبات على أوزبكستان، بحجة "حقوق الإنسان!" و"المجازر التي تحدث في أوزبكستان"، رغم أنها حدثت ولا تزال منذ أكثر من 6 سنوات!!<BR>وفي نفس الوقت، أرسل الكونغرس الأمريكي طلباً إلى الرئيس جورج بوش باستخدام النفوذ الأمريكي للضغط على مجلس الأمن الدولي من أجل فرض عقوبات دولية على حكومة إسلام كريموف.<BR><BR>أوروبياً، قام الاتحاد الأوروبي بتطبيق ذات العقوبات الأمريكية العسكرية على أوزبكستان، عبر حظر صادرات الأسلحة والمعدات العسكرية والمعدات الأخرى المستخدمة من قبل الأجهزة الأمنية.<BR>كما حظر الاتحاد إعطاء المسؤولين الحكوميين الأوزبكيين تصاريح دخول إلى الأراضي الأوروبية. بالإضافة إلى إيقاف جميع الاجتماعات ما بين المسؤولين الأوروبيين والأوزبكيين حول مشروع الشراكة واتفاقيات التعاون.<BR>وهددت الدول الأوروبية بتجميد حسابات المسؤولين الأوزبكيين، فيما أعلنت واشنطن أنها جمدت بالفعل المساعدات السنوية التي تقدمها لطشقند، والتي تقدر بنحو (21) مليون دولار سنوياً.<BR>ثم صعّدت كوندوليزا رايس (وزيرة الخارجية الأمريكية) من حملتها ضد حكومة كريموف بالقول: " إن أفعالها يمكن أن تؤدي إلى العزلة الدولية الكاملة لأوزبكستان".<BR><BR>بغض النظر عن السياسة الجديدة التي انتهجتها طشقند من توجه كامل نحو روسيا والصين، عبر استيراد الأسلحة وعقد اتفاقيات تجارية وصناعية معهم، فإن الأحداث الأخيرة رسمت صورة واقعية تماماً للسياسة الأمريكية التي تتبع منهج المصلحة القومية أولاً، بعيداً عن ما تحاول فرضه إعلامياً من خيال لدولة تنطلق في تعاملاتها من مبدأ الديموقراطية وحرية الإنسان وغيرها.<BR><BR>المبدأ الأمريكي بشكل عام هو مبدأ جميع الدول، ففي السياسة تأتي دوماً المصلحة أولاً وقبل كل شيء. إلا أن ما يميز هذه السياسة الأمريكية، هي محاولاتها فرض الهيمنة على الدول عبر شراء الحكومات، فإن لم تستطع، فبمبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان، وإلا.. فالعداء المطلق.<BR><br>