هل ينهار سلام السودان بعد موت قرنق ؟
26 جمادى الثانية 1426

يبدو أن السودان على موعد دائم مع القلق وعدم الاستقرار .. فبعد 20 عاما من الحرب في الجنوب واستنزاف ثروات البلاد ، وبعد حزمة تنازلات ثقيلة للغرب وواشنطن تستهدف الإبقاء على ما تبقي من هوية السودان العربية والإسلامية ، جاء مصرع (زعيم حركة التمرد السابق، ونائب الرئيس السوداني الحالي) جون قرنق في حادث سقوط طائرة في الجنوب ليثير التساؤلات حول مصير السلام الذي لم يبدأ تنفيذه سوي منذ ثلاثة أسابيع وهل يستمر أن تعود الحرب ؟<BR>ورغم اعتراف قادة حركة التمرد أن سقوط الطائرة تم لأسباب فنية وجوية تتعلق بالظروف المناخية السيئة في الجنوب (موسم الأمطار الغزيرة ) ، ما يعني عدم وجود شبه مؤامرة وراء قتله ، فقد أدت المظاهرات العارمة التي انطلقت في الخرطوم وقيام بعض الجنوبيين بأعمال شغب وحرق وتكسير محال وسيارات لإثارة المخاوف من انهيار السلام .<BR>وزاد المخاوف سوءا أن خليفة قرنق المتوقع أكثر منه تطرفاً وعنصرية ورغبة في فصل الجنوب عن الشمال ، وهو الجنرال (سلفا كير) ، الذي لا يتمتع بأي صفات سياسية على عكس قرنق الذي أصبح أكثر توازناً ، وكل صفاته العسكرية تؤهله لصدام مع الحكومة السودانية والرئيس البشير ، وقد تؤدي لانهيار السلام الهش أو على أحسن الأحوال تصب في خانة الانفصال أكثر من توحيد شطري السودان الشمال والجنوب .<BR>والأكثر خطورة هو أن تستغل أطراف جنوبية الحدث وتسعي للتمرد على الاتفاق بدورها خاصة أنه ليس هناك قبول لسلفا كير بشكل عام ، ورفض له وعدم إجماع عليه من جانب قادة التمرد وباقي الفصائل الجنوبية ، حيث يؤكد دبلوماسيون سودانيون بالقاهرة أن خليفة قرنق ليه لديه القدرة على جمع باقي أعضاء حركة قرنق والتوفيق بينهم ؛ لأنه لا يحظى بإجماعهم علي شخصه، وربما يسعى لاستخدام نفوذه العسكري في إجبار الرافضين له علي الخضوع له .<BR>بل أن تلميح أطراف جنوبية لوجود مؤامرة وراء مصرع قرنق قد يؤدي ضمناً لضغوط على الخرطوم تدفعها في سبيل الدفاع عن نفسها لمحاولة استرضاء الجنوبيين وتقديم مزيد من التنازلات لهم وللغرب .<BR>السيناريو الأرجح المتوقع هو أن تنجح الخرطوم في احتواء الأزمة، وأن يجري انتخاب سلفا كير في حركة التمرد الجنوبية خليفة لجون قرنق ونائباً أول لرئيس جمهورية السودان ، وأن ينجح إغراء نقل "سلفا كير" من أدغال الجنوب إلي قصر الرئاسة في الخرطوم في تطويعه نسبيا وتفكيك تطرفا تدريجيا ، ولكن المشكلة أنه قد يسعى علي العكس لاستغلال موقعه في قصر الرئاسة السوداني وموقعه كرئيس لحكومة الجنوب في تسهيل خيار الانفصال لا الوحدة !.<BR>صحيح أن موت قرنق يعني الكثير لعملية السلام في السودان باعتباره الشريك الثاني فيها مع البشير ، ولكن موته قد يكون مكسب أيضاً للطرفين .. فالخرطوم قد تستفيد من اختفاء قرنق في تخفيف كم الفواتير التي كان من الممكن أن تدفعها له ، بحيث تسعي مع سلفه لتقديم إغراءات وفواتير أخف ، أما خليفة قرنق فلا شك أن وصوله للسلطة واقتناصه منصبي قرنق ( نائب أول للرئيس ورئيس حكومة الجنوب ) ، وهو الذي كان يعارض جمع قرنق بينهما ، مكسب كبير له حصل عليه في غمضة عين ومن مصلحته الحفاظ عليه بالتعامل مع البشير .<BR>ولولا أن اتفاق تقاسم السلطة (بين الخرطوم والحركة الشعبية الموقع في يناير 2005 الماضي) نص على تعيين بديل (لقرنق) في حال حدوث أمر كهذا ، لكانت الأزمة أشد وأخطر ، ولهذا لن تكون هناك مشكلة في تولي خليفة لقرنق ولكن المشكلة ستكون في طريقة تفكيره وكيفية تعاطيه مع المدة الانتقالية المقبلة في السودان (المدة الانتقالية لمدة ستة سنوات قبل الاستفتاء علي الانفصال أو الوحدة) وهل يسعى للوحدة كما هو مأمول أم للانفصال ؟<BR>أيضاً من المهم الإشارة إلي أن قرنق كان علمانياً يسعى لسودان علماني في حين أن بعض قادة حركته وخلفاءه أكثر تطرفاً دينياً وأكثر موالاة لتنظيمات تبشيرية مسيحية غربية متطرفة ، وهنا قد تنشأ حساسيات خصوصاً فيما يتعلق بمسائل الشريعة الإسلامية وتطبيقها في الشمال .<BR>وسيلفا كير (50 عاماً) هو نائب رئيس الحركة، وكان المشرف العام على الجيش الشعبي لتحرير السودان الجناح العسكري للحركة، وكان على خلافات مع قرنق بدأت عقب اتفاق نيفاشا في يناير 2005 بعد اتهامه لجارانج بالهيمنة على منصبي النائب الأول للرئيس السوداني ورئيس الحكومة الجنوبية .<BR>وقبل وفاة قرنق بيومين فقط عقد (قرنق) مؤتمراً صحفياً بمدينة نيو سايت الجنوبية، أعلن فيه إقالة سلفا كير من كل مناصبه بالجيش، كما أقال مجموعة الـ15 التي كانت تحكم الجيش والحركة، واكتفى بإبقاء كير بمنصب نائب رئيس حكومة الجنوب ، وتم توزيع مجموعة الـ15 على مناصب مدنية بالجنوب تماشيا مع اتفاق السلام.<BR>ويستمد سيلفا كير الحاصل على دراسة متوسطة قوته من انتمائه لقبيلة الدنكا فرع بحر الغزال، وهو الفرع المهيمن على قبيلة الدنكا الجنوبية، كما أن معظم قيادات الجيش الشعبي تنحدر من دنكا بحر الغزال؛ وهو ما يجعلها تدين بالولاء الكامل له، في حين أن قرنق كان ينتمي إلى "دنكا بور" التي تشكل أقلية بين الـ15 فصيلاً التابعة لقبيلة الدنكا التي تتنافس معها قبائل "الشلك" و"النوير" في الجنوب علي السلطة والثروة ..<BR>وقد تعهد كير عقب تأكد وفاة قرنق بأن تحافظ الحركة على وحدتها والتزامها بالسلام ، وقال في مؤتمر صحفي في نيروبي : "نريد أن نؤكد للجميع أن القيادة وجميع كوادر الجيش الشعبي لتحرير السودان ستحافظ على وحدتها، وستجاهد لتطبق بإخلاص اتفاق السلام الشامل". <BR>وقال :" أصدرت أوامري للأعضاء السابقين في مؤتمر قيادة الحركة لعقد اجتماع طارئ في... كابويتا (في جنوب السودان)." وحث أعضاء الحركة والسودانيين بشكل عام على الهدوء خصوصاً عقب تظاهرات الخرطوم ومدن جنوبية أخري .<BR>وتعد هذه التعهدات من جانب زعماء حركة التمرد مؤشر قوة لاستمرار السلام في الجنوب باعتباره تم بين شعبي الشمال والجنوب وليس بين شخصين فقط (قرنق والبشير) ، ولكن أسلوب حكم (سلفا كير) وخلفاء قرنق وتعاملهم مع حكومة الخرطوم سيكون هو الفيصل لتحديد مستقبل سلام السودان .<BR>وعلى ضوء تحديات التنفيذ هذه سيتحدد ليس فقط مصير الجنوب (بالانفصال أو استمرار الوحدة مع الشمال ونصيبه من الثروة والسلطة)، ولكن أيضا مصير الشمال نفسه من كل هذا وهويته العربية/الإسلامية التي يرى الكثير من الشماليين أنها ضاعت تحت وطأة الضغوط الغربية في وقت تخلى فيه الزعماء العرب عن الخرطوم حتى وهي توقع اتفاق تقرير مصيرها رغم حضور 10 زعماء أفارقة، وأمريكان وأوربيين. <BR>والأهم: هل يتفتت الشمال؛ لأنه إذا قرر الجنوب الانفصال فما الذي يمنع من انفصال الشرق (حيث إريتريا تدفع بهذا الاتجاه) ودارفور وأبيي وكردفان وجبال النوبة وغيرها، ويتحول السودان -وفق المخطط الغربي الأصلي- لصومال جديد؟. <BR>ومعروف أنه أصبح للجنوب وجود سياسي في الحكومة بنسبة 28% (مقابل 52% لحزب البشير و20% لباقي الأحزاب)، وبنسبة 10% في كل ولاية من ولايات الشمال، وسيكون أيضا ممثلا في كل المجالس التشريعية الولائية الشمالية والجنوبية وذا حق أصيل في صناعة القرار في كل شبر من أرض السودان، وفوق هذا وذاك سيكون له (الجنوب) الحق في نهاية الأعوام الستة القادمة (حتى عام 2011) أن ينفصل عن الشمال، وأن ينشئ دولته الخاصة ولن يحتاج في هذا لأكثر من علم يرفعه فوق سارية؛ لأن حكومته قائمة وجيشه موجود ومصادر دخله معروفة وحدوده ثابتة وأجهزة دولته قد استقرت وحكومة الشمال تعترف به من الآن. <BR>كما سيتولى – لأول مرة - وزراء جنوبيون (حوالي 10) مناصب حكومية مهمة أبرزها ربما تكون وزارة الخارجية السودانية التي قد تشهد تعيين أول "جنوبي" لها منذ الاستقلال عام 1956، خلفا للوزير مصطفى إسماعيل، وذلك من بين 3 وزارات سيادية -ربما منها الإعلام والعدل- بعد أن كان أبرز منصب للجنوبيين فيها هو منصب "وزير دولة".<BR>خبايا الحادث تحدد المستقبل ؟<BR> ولا شك أن تكشف خبايا حادث سقوط طائرة قرنق سوف يحدد إلي حد بعيد مستقبل العلاقة بين طرفي الشمال والجنوب سواء كان سقوط الطائرة طبيعياً بفعل عوامل مناخية سيئة واصطدمت بسلسلة جبال الأماتونج جنوب السودان نتيجة انعدام الرؤية أم بفعل مؤامرة من جهة غير معروفة .<BR>فجنوب السودان يشهد بالفعل في هذا الوقت من العام أمطاراً غزيرة وأجواء غير مستقرة ، وقد سقطت عدة طائرات قبل ذلك وقتل فيها قادة عسكريون كبار منهم الفريق الزبير محمد صالح نائب الرئيس السوداني في فبراير 1998 والذي لقي مصرعه في حادث سقوط طائرة مشابه في جنوب البلاد وتردد نفس الحديث عن احتمال قتله بواسطة المتمردين .<BR>أيضاً قد تكون الخلافات الشديدة داخل حركة التمرد في الجنوب – الحركة الشعبية لتحرير السودان – وراء قيام خصوم قرنق بقتله في سياق نزاع علي السلطة والمكاسب المنتظرة بعد إبرام اتفاق سلام مع الحكومة السودانية ، أو أن يكون وراء القتل فرق جنوبية أخري متصارعة مع حركة قرنق ترفض الانخراط خلف زعامة قرنق وتسعي لإثبات وجودها خاصة بعدما تجاهلتها اتفاقات السلام في الجنوب .<BR>والمبررات لترجيح هذا السيناريو عديدة منها الصراع الشهير بين سلفا كير نائب قرنق ، وجون قرنق ، ووجود خلافات مستمرة داخل حركة التمرد انتهت بعضها نهايات مأساوية بتصفية قرنق لخصومه أو هروبهم من الحركة وأشهرها الانقسام الذي جري داخل الحركة في التسعينات (1997) بين جناحي قرنق من جهة ، و"ريك مشار" و"لام أكول" من جهة أخري .<BR>كذلك هناك من يتهم "جيش الرب" الأوغندي الديني المتطرف بالتورط في إسقاط طائرة قرنق ، لأن المنطقة التي سقطت بها الطائرة يسيطر عليها متمردو "جيش الرب للمقاومة" الأوغندي، وسبق لهذه الحركة أن تمكنت من قبل من إسقاط طائرات تابعة للجيش الأوغندي خلال صراعهما ، فضلاً عن أن زيارة قرنق لصديق عمره (الرئيس الأوغندي) موسيفيني هذه المرة كانت تنصب علي بحث سبل حصار وطرد جيش الرب من المناطق الحدودية السودانية الجنوبية ! .<BR>ولو صدقت هذه التوقعات خصوصا أن قرنق أعلن يوم 25 يوليو 2005 أن : "من أولويات المرحلة وبرنامج حكومة الوحدة الوطنية المقبلة إخراج قوات متمردي جيش الرب المسيحي الأوغندي من منطقة شرق الاستوائية جنوب السودان " ، فمن المتوقع أن تسرع الحكومة بالتعاون مع جيش جنوب السودان عملية طرد جنود جيش الرب من الجنوب .<BR>أما لو تم ترجيح سيناريو الصراع الداخلي داخل حركة التمرد فربما ينعكس هذا علي تنفيذ اتفاق السلام ويزيد الانشقاق بين المتمردين الجنوبيين ، ويفتح مجالا لضرب خطط السلام أو ظهور حركات تمرد جديدة .<BR><BR><br>