النسوية والأنظمة: البحث عن الشرعية والسلطة
20 جمادى الثانية 1426

في خضم المتناقضات التي تحفل بها الساحة السياسية والفكرية على امتداد العالم العربي يبرز ذلك التحالف أو على الأقل التلاقي بين أنظمة الحكم والنخبة التي تعتنق الفكر النسوي وتروج له، ولهذا التحالف أوجه غرابة متعددة، فالأنظمة في الوقت الراهن قد طلقت الأفكار والأيديولوجيات منذ سنوات ليس لأن هذه الأيديولوجيات قد فشلت كما يقال عادة، ولكن لأن الزمن هو الزمن الأمريكي أي زمن العولمة والبراجماتية الرافضة للأيديولوجية، بل والفكر نفسه طالما اتسم بالعقائدية والثبات ورفض النسبية اللهم إلا إذا وضع هذا الفكر خدماته لصالح تنفيذ مطالب النخب الحاكمة ذات التكوين الاقتصادي وهي مطالب تعلي المنافع المادية والمصلحية على اعتبارات العقيدة أو المبدأ أو الفكرة، والأنظمة كذلك تتحاشى الأيديولوجيات لاعتبارات أخرى.<BR><BR>فالإسلام مستبعد تحت ضغط موجة مكافحة الإرهاب التي وضعها الغرب الآن كأولوية مطلقة في سياسته تجاه العالم العربي والإسلامي، وهو مستبعد كذلك تحت ضغط النخب العلمانية المحلية ذات الميول الغربية، ولأنه في نظر الأنظمة يطرح من خلال الحركات المنتسبة له خطر البديل الذي لا تقبل أن ينازعها السلطة.. والقومية العربية مرفوضة؛ لأنها تقف في طريق الصلح مع إسرائيل الذي أصبح يمثل هو الآخر أولوية قصوى في إطار التبعية للغرب. <BR><BR>والاشتراكية والثورية هي بالقطع مرفوضة ليس بسبب انهيار المعسكر السوفييتي وسقوط الفكر الماركسي نفسه، بل أساساً لأن المرحلة هي مرحلة الرأسمالية والأنظمة لا تستطيع أبداً أن تخالف طبيعة المرحلة لاسيما إذا كانت هذه المرحلة مفروضة من مركز الهيمنة العالمية! لكن الأنظمة إذا رفضت الإيديولوجيات والفكر العقائدي تحت ضغوط معينة فهي لا تستطيع العيش بدون غطاء فكري مما يمثل لها شرعية معينة ليس أمام شعوبها (فهي قد تجاوزت منذ زمن بعيد ضرورة تبرير وجودها وتصرفاتها أمام الشعوب من خلال غطاء فكري)، بل أمام الأصدقاء والحلفاء (يعني الأسياد!) في الغرب الذين مازالوا في مرحلة متأخرة من التطور وبحاجة إلى أن يبرروا أمام شعوبهم ونخبهم هم الاستمرار في دعم هذه النوعية من الأنظمة.<BR><BR>وجاء الخروج من هذا المأزق في إقبال الأنظمة بلهفة على اعتناق الأيديولوجية الغربية ـ الأمريكية الجديدة: التحديث/ الليبرالية/ البراجماتية/ الديموقراطية، مع تعديلها بالطبع وفق مبدأ "الإصلاح من الداخل" لكي لا تحتوي على أي عنصر يهدد استقرار واستمرارية الأنظمة، ومع ضمان أن هذا الفكر سوف يوضع أساساً وفقط في خدمة مشاريع التمديد والتوريث التي أصبحت هي الشغل الشاغل للعديد من الأنظمة الآن.<BR><BR> وهكذا وعلى مر السنوات القليلة الماضية وبتصاعد في المدة الأخيرة كانت الدراما الأبرز على الساحة الفكرية هي محاولة الأنظمة والنخب العاملة فيها التعامل الدقيق مع مفردات ومكونات تلك الأيديولوجية الجديدة المفروضة عليها، والتي تحتاجها بشكل ملح لضرورة إرضاء الغرب. <BR><BR>وجاء هذا التعامل جوهرياً على سبيل تنقية وتطهير وتعديل وتكييف وتعقيم هذه المفردات والمكونات لتلافي أية "أضرار" على السلطة. وفي وسط هذه العملية وفي وقت مبكر جداً حدث اكتشاف مدهش وهو أن أحد مكونات أيديولوجية الحداثة وهو المكون الأبرز فيها بحكم هيمنته على مؤسسات الغرب السياسية والمالية والاجتماعية هو الأصلح للتبني والأقل ضرراً، بل الأكثر نفعاً لهدف الأنظمة في تدعيم الوجود والاستقرار والاستمرارية من ناحية والتحلي لأهداف الاستهلاك الخارجي بفكر "على الموضة" من ناحية أخرى، وهذا المكون هو فكر النسوية مطروحاً من خلال النخب المحلية ومدفوعاً ومروجاً من خلال المؤسسات الغربية الفاعلة.<BR><BR>والنسوية من هذه الناحية هي فكر "بلا دموع" أي بلا تكاليف سياسية ومعنوية أو حتى مادية تذكر لكنه عظيم العائد والفائدة في النواحي التي تريدها الأنظمة تحديداً وهي إرضاء الغرب وكسب سمعة تقدمية (زائفة بالطبع) هناك مع دعم كيانها بنخبة جديدة طامحة للنفوذ والظهور وقابلة للاندماج في البنية الحالية السلطوية للأنظمة بدون تحدي لها، بل مع الرغبة في تدعيمها لقاء ثمن زهيد هو السماح لها بالعمل والترويج والتأثير في أصل الهياكل القائمة للسلطة.<BR><BR> والسر السحري وراء رخص تكلفة النسوية بالنسبة للأنظمة هو أن شعارات ومطالب وقوة دفع تلك الحركة حتى في أشد حالاتها ثورية موجهة بالأساس ضد كل شيء إلا الأنظمة، بل على العكس فهي تعد الأنظمة السند الحقيقي والوحيد لها في تنفيذ هذه المطالب قبل المجتمع والدين والتاريخ والتقاليد والأسرة والرجال. إن تكاليف هذه المطالب والشعارات وقوة الدفع تقتضي من الرجال ومن الأسرة ومن التقاليد والعادات ومن التاريخ والتراث لكنها أبداً لا تدفع من جيوب الأنظمة. والزخم الثوري لشعارات النسوية لا يتحول أبداً إلى زخم ثوري حقيقي ضد آليات ترسيخ وتأييد وممارسة السلطة القمعية الحقيقية في المجتمع، وإنما يتوجه صوب سلطات زائفة تصور على أنها هي العدو الحقيقي والوحيد وهي السلطة الرجالية في الأسرة والمجتمع المسماة بالسلطة الأبوية الذكورية. <BR><BR>أما سلطة الأنظمة الأمنية والسياسية والاقتصادية وهي أبوية ذكورية بامتياز فلا يتوجه إليها أي ضرب ثوري، بل على العكس تنظر إليها النسوية كما قلنا باشتياق وتطلع باعتبارها هي الأدوات التي تريد الوثوب عليها لا لتغييرها أو القضاء عليها لإحداث تحرير شامل لكل المجتمع بل لكي تستعملها في تحقيق الأجندة النسوية. والواقع أن مختلف التطورات على الساحة العربية في الآونة الأخيرة تشير إلى هذا المسلك. <BR><BR>فعندما توجهت الأجندة النسوية في مصر مثلاً إلى طرح دخول النساء مجال القضاء، حدث التركيز على مجرد شغل النساء لوظائف القضاء دون أي طرح لموضع القضاء نفسه كمؤسسة عامة تواجهها شتى المشاكل إلا أن تكون نسبة كبيرة من أعضائها من النساء. فهناك مشكلة الاستقلال والبعد عن تدخلات السلطة التنفيذية والقوانين الاستثنائية وتكدس القضايا ومكافحة الفساد وما أشبه. كل هذه الأوضاع والمشاكل التي تمثل بنية تلك المؤسسة وتعطل أداء العدالة، بل وتحولها إلى إحدى آليات القمع الذكوري لم تشغل بال الأجندة النسوية التي تجاهلت كل المفردات التي تشوه عمل المؤسسة وتنحو بها إلى أن تكون آلية قمع وتوجهت صوب هدف واحد فقط شكلي الطابع هو إدخال العنصر النسائي على المؤسسة دون المساس بجوهرها الحالي المعيب، بل على العكس كان الواضح ـ وهو ما فهمته السلطة وعملت بناءً عليه ـ هو أن دخول العنصر النسائي سوف يقوى من الوضع القائم السلطوي القمعي النزعة؛ لأنه سوف يعني من ناحية دخول عنصر طامح طامع متوثب لإثبات الذات أمام القوى الحاكمة من ناحية ومن الناحية الأخرى سوف يعني إضعاف وإزاحة أي قوى داخل المؤسسة تدعو إلى الإصلاح وإلى تحويل المؤسسة إلى طابعها الأصيل المستقل العادل الذي يمثل السند للمجتمع، بل والدولة ذاتها إزاء تغول القوى الحاكمة. <BR><BR>ونفس التوجه نجده على امتداد الساحة العربية في العديد من قضايا الأجندة النسوية التي تدور حول محور "تمكين المرأة"، فحديث التمكين الاقتصادي تعقد له المؤتمرات والمنتديات وورش العمل وتنظم وتنشأ مجالس سيدات الأعمال وتصدر التوصيات ولكن نكتشف أن التمكين في هذا المجال لا يعني سوى إدخال العنصر النسائي على نظام اقتصادي قائم بالفعل هو الرأسمالية الشرسة التابعة للغرب والخاضعة لحركة العولمة وهو نظام سلطوي قمعي (وأبوي ذكوري كذلك). كل ما يحدث أو المطلوب حدوثه هو إدخال العنصر النسائي على النظام دون تغييره أو القضاء على العناصر القمعية فيه، بل العكس هو الصحيح فإدخال هذا العنصر يقوي من النظام الاقتصادي القائم من ناحية دخول عنصر متحضر لإثبات الذات فضلاً عن تحلية خبرته التي تحول دون إحداثه لأي تغيير.<BR><BR>هذه الأيديولوجية أو الأجندة النسوية عديمة التكلفة وعالية القيمة والتي هي "بلا دموع" كانت الاكتشاف السحري للأنظمة الذي أدى إلى التحالف مع النخب النسوية المحلية في وقت ترفض فيه التحالف أو حتى مجرد التعامل مع نخب فكرية أو سياسية أخرى يرضى عنها الغرب لكنها تتضمن تكلفة عالية من ناحية اضطرار الأنظمة إلى التشارك معها بشكل أو آخر بينما هي تتمسك بالاحتكار المطلق للسلطة، ولكن إذا كانت رقصة التانجو تتطلب طرفين كما يقول المثل الغربي فإن خطة الأنظمة الذكية في الحفاظ على احتكارها للسلطة واستخدام النسوية لتحقيق مكاسب بلا تكلفة تذكر لا تكفي وحدها لتفسير التحالف السلطوي ـ النسوي، بل لا بد من تحليل وضع الجانب النسوي.<BR><BR> هنا سوف ندخل في قصة طويلة لكنها طريفة؛ لأنها تذكرنا بمقولة أن التاريخ يكرر نفسه بشكل ما. نشأت النسوية في الغرب في خضم المد الثوري هناك أواسط الستينيات جنباً إلى جنب مع حركة الشباب والسود كحركة راديكالية (جذرية) ثورية تستند إلى كم من الفكر في سياق حركة ما بعد الحداثة أو ما بعد البنيوية. لكن التطور الذي حدث سبق ما يحدث الآن مع الأنظمة العربي، ففي أمريكا على وجه الخصوص اكتشف المجتمع الصناعي ـ العسكري المشهور والذي تحول فيما بعد إلى شتى أنواع اليمين المحافظ والديني والصهيوني نفس الاكتشاف السحري وهو أن النسوية يمكن أن تستقطب إلى داخل النظام الحاكم لتعطية المزيد من قوة الدفع وتعطيه الغطاء الدعائي البراق (التقدمية / الحداثة / الخ) الذي يحجب شراسته وتغوله دون أن يؤدي إلى تغيير في بنيته رغم كل دعاوى الجذرية والثورية.<BR><BR> وكان هذا الاكتشاف كذلك قائماً على أن الثورية والجذرية النسوية موجهة إلى الرجال والمجتمع والذات والدين ـ الخ ولكن ليس لإحداث تغيير حقيقي في أسس وجوهر وأهداف المجتمع الرأسمالي / العسكري / الإمبريالي، ولهذا حدث التطور الذي ربما لم يلفت أنظار الكثيرين في ذلك الوقت وهو أنه بينما لجأ النظام في أمريكا (أو "المؤسسة" كما كانت تعرف) إلى استقطاب عناصر معينة فقط من الثائرين الشباب والسود سعت هي إلى هذا الاستقطاب فإنه استقطب الحركة النسوية ككل لتؤدي له وظائف تشبه تلك التي أشرنا إليها في حالة الأنظمة العربية حالياً، ولكن تلك لم تكن نهاية القصة بل بدايتها.<BR><BR>فالحركة النسوية الداخلة في بنية النظام الأمريكي لتخدمه تحولت خلال تلك العملية من "فكر" إلى "أجندة" أي من كم فكري مطروح للنقاش إلى مجموعة من الشعارات والمقولات والإجراءات والأهداف التفصيلية الجاهزة للتطبيق، وبعد مدة قليلة واكب هذا التحول من الفكر إلى السلطة ومن المذهب إلى الأجندة تحول آخر تمثل في ضمور وذبول الفكر نفسه وجفافه مع بدء الحديث عن ما بعد النسوية ومع هيمنة الفكر اليميني بشقيه الديني والمحافظ الصهيوني.<BR><BR>وهكذا انقطعت جذور النسوية الفكرية وبقيت كالسفينة الجانحة بدون ماء (فكر) تتحرك فيه كما بقيت معزولة في إطار كم الشعارات ومقولات المكونة للأجندة. وكان التطور الذي أعقب ذلك حاسماً في تاريخ الحركة النسوية ليس فقط في الغرب ولكن في الشرق العربي (والإسلامي) كذلك، فمع اكتشاف الغرب لإمكانية الحركة أو الأجندة النسائية لكي تكون عنصر تدعيم قوي لبنيته جاء اكتشاف آخر في سياق التحرك الغربي على مر التسعينيات ضد الإسلام في قلب بلاده باعتباره العدو الجديد بعد الشيوعية، فقد اكتشف البعض أو تبينوا أن النسوية يمكن أن تدخل كسلاح فعال في إطار عملية "التحديث" أو "الإصلاح" أو "التغيير" التي أطلقت على العالم العربي والإسلامي في مسعى للقضاء على الإرهاب أو التطرف الإسلامي أو بالأصح للقضاء على الوجود القومي العربي والإسلامي ككيان يقف في وجه حركة العولمة والهجمة الغربية الإمبريالية الجديدة في إطار هيمنة سياسات المحافظين الجدد. وفي هذا الصدد كان التصور هو أن النسوية تصلح أن تكون العنصر الأساسي في سياسة التحديث هذه عبر المقولات التي أصبحت معروفة الآن: تمكين المرأة، سياسات النوع (الجندر) التمييز الإيجابي... إلخ.<BR><BR> وصحب ذلك وضع ما يمكن تسميته بنسخة تصديرية من النسوية للبلاد العربية على غرار النسخ التصديرية التي تصمم خصيصاً في بعض الأسلحة المتقدمة بنزع أهم عناصرها الفنية المؤثرة. ومع الفارق فإن النسخة التصديرية للنسوية تمثلت في كم من الشعارات والمقولات تطرح للتطبيق المباشر وهي مزودة بالإجراءات والخطط التنفيذية والتفصيلية. وكان هذا يعني شيئاً في غاية الأهمية وهو أن النسوية كما جاءت إلى العالم العربي لم تجئ كما كانت الأفكار والمذاهب الغربية تأتي عادة ككيان فكري مطروح للتدبر والتأمل العقلي والمناقشة والتفاعل مع مكونات الساحة الثقافية الأخرى وإنما طرحت كسياسة وخطة مطلوب لها التنفيذ العملي والتطبيق الفعلي بلا مناقشة لتؤدي هدفاً محدداً هو دفع عملية التحديث "والإصلاح" حسب التصور الغربي. <BR><BR>كذلك فإن النخب التي تولت ترويج الفكرة أو الأجندة النسوية في العالم العربي لم تعمل كما كانت سائر النخب أو التجمعات الفكرية تعمل عادة، وإنما نشطت في الغالب كحركة مرتبطة بالدعم الغربي مباشرة (المعنوي قبل المادي) لكي تروج لأجندة معينة وتسعى إلى الوصول لمواقع السلطة المؤثرة أو التحالف معها لتحقيق مفردات وعناصر وأهداف تلك الأجندة.<BR><BR>وهكذا تكون الراقص الثاني في لعبة ورقصة التانجو الساعي للشرعية والسلطة بين الأنظمة والحركة أو النخبة النسائية، ولهذا سهل التحالف بين الأنظمة وتلك الحركة التي كان من السهل عليها جداً، بل من الضروري أن تتناسى مقولاتها الأساسية حول القمع الأبوي والسلطة الذكورية وصولاً إلى التحالف مع الأنظم؛ ذلك لأن الطروحات الفكرية بالنسبة للنخبة النسوية لم تعد سوى غطاء براق لحقيقة أننا أمام حركة مختلفة عن المألوف في دنيا مذاهب الفكر القادمة من الغرب (وحتى عن الماركسية والشيوعية)؛ لأنها مجرد ذراع مخطط وموجه لتحقيق سياسة غربية معينة، وهذه السياسة لن تتحقق بالدعوة الفكرية أو حتى الدعاية الفكرية وإنما تتحقق بالتحالف والالتصاق بالسلطة ليس سعياً وراء تغيير طابعها الأبوي الذكوري الدكتاتوري ، بل لاستخدام وتسخير آلياتها وأجهزتها التنفيذية والقمعية لتحقيق مفردات وأهداف ومتطلبات الأجندة.<BR><BR>لم تعد هناك غرابة إذن في تحالف الأنظمة والنسوية، فوراء حديث البعض عن التحديث والعصرنة وحديث البعض الآخر عن التمكين والجندرة تكمن عملية هابطة للبحث عن الشرعية والسلطة وتحقيق الأهداف لكلا الطرفين، ووراء الطرفين ومما يعمل على تحقيق هذا التلاقي بين الأنظمة والنسوية يلوح شبح السياسة الغربية في المنطقة التي جمعت بين أصدقائها من الأنظمة وأتباعها أصحاب الأجندة لكي تتحقق مصالحها هي العليا.<BR><br>