اتفاق السلام الأخير ..هل سلب السودان هويته العربية والإسلامية ؟
8 جمادى الثانية 1426

أصبح يوم 9 يوليه الجاري 2005 يوماً مشهوداً في حياة السودانيين، فهو في نظر الكثيرين منهم يوم السلام وبدء الهدوء وانتهاء الحرب رسمياً في السودان لأول مرة منذ 22 عاماً، بعدما بدأ تنفيذ اتفاقات السلام الثماني الموقعة بين الشمال والجنوب السوداني والتي جري جمعها في (اتفاقية نيفاشا) في 9 يناير 2005.<BR><BR>ولكن نفس التاريخ يعده آخرون مقدمة لفصل الجنوب رسمياً عن الشمال باعتراف الشمال، وتأريخ لحقبة جديدة في حياة السودانيين ربما تضيع فيها هوية السودان العربية والإسلامية تحت دعاوى "جعل خيار الوحدة جذاباً للجنوبيين"، بحيث يتحول السودان تدريجياً إلي دولة أفريقية علمانية، خاصة أن "ثورة الإنقاذ" التي ساندتها الحركة الإسلامية السودانية وحاربت على مدار 15 عاماً تقريباً لتحرير الجنوب من المتمردين غيرت أطروحاتها في ظل الضغوط الغربية الشرسة وانصراف الدول العربية عنها، وقبلت تنازلات ضخمة وصلت حد قبول اعتراض المتمردين على "البسملة" في بداية الدستور الجديد!<BR><BR>فقائد المتمردين في الجنوب الذي يدعو لدولة سودانية أفريقية (لا عربية) علمانية موحدة، والذي هاجم عشرات المدن السودانية وقتل الآلاف، عاد للخرطوم مظفراً فاتحاً، وأصبح له مكتب في القصر الرئاسي في الخرطوم، وقواته ستنقل من الغابات لتنتشر في عدة مدن سودانية أبرزها الخرطوم التي سيرابط بها 1500 منهم.<BR><BR>والرئيس البشير أصبح مقيداً وليس له الحق في إصدار أي قرارات هامة إلا بموافقة قرنق، مثل: إعلان الحرب أو توقيع اتفاقات هامة أو تعيين الوزراء، وبالمقابل ليس له الحق في التدخل في أي شيء في شؤون الجنوب الذي له حكومة مستقلة وميزانية مستقلة وله الحق في التعامل مع العالم الخارجي دون تدخل الخرطوم!<BR>لقد حددت اتفاقية السلام تفاصيل العلاقة بين الشمال والجنوب ووضعت الخطوط العريضة للسلام، وقسمت الثروة (النفط) والسلطة، وأعطت الجنوب سلطات ذاتية واسعة، ولم تهتم كثيراً لما يمكن أن يترتب علي هذا من مخاطر استقلال الجنوب مستقبلاً، ومخاطر استقلال أقاليم أخرى على غراره، مثل: دارفور وابيي وكردفان وجبال النوبة ليتفتت السودان هذه المرة باتفاقات السلام لا بالحروب، وهي السياسة الجديدة التي اتبعها المحافظون المسيحيون الجدد في إدارة بوش.<BR><BR>فلأول مرة في تاريخ السودان منذ استقلاله (يناير 1956) يتولى "جنوبي" منصب النائب الأول للرئيس السوداني بعد أن كان المنصب الأول والثاني في كل الجمهوريات الرئاسية في السودان من نصيب أهل الشمال.. وحتى عندما عين نائب رئيس جنوبي مثل "ابيل اللير" في عهد نميري كان يحتل مركز (النائب الثاني) بصورة دائمة، والأهم أن هذا النائب الأول يحمل سلطات تنفيذية ضمن مؤسسة الرئاسة الثلاثية لا تسمح للبشير بإصدار قرارات معنية دون أخذ رأيه موافقة كإعلان الحرب أو حالة الطوارئ، واستدعاء مجلس التشريع الوطني للانعقاد والتعيينات المطلوبة للسلام، كما أنه حاكم للجنوب،وقائد لجيش جنوبي خاص له قواته حتى في عاصمة البلاد، وله حكومته ذات الاستقلال الذاتي الكامل في الجنوب ولها نصيب محدد من الثروة القومية ولها السلطة في الحصول مباشرة على المعونات والقروض الخارجية وفق الدستور علي عكس الولايات الشمالية !!<BR><BR>ولأول مرة في تاريخ السودان الحديث سيرى سكان الخرطوم 1500 جندي من قوات التمرد الجنوبية الذين كانوا يحاربونهم حتى بضعة أشهر، ينتشرون في العاصمة الخرطوم وفق الاتفاق الأمني الموقع بين الحكومة وحركة التمرد والذي يقضي بنشر قوات عسكرية مشتركة بين الحكومة والحركة الشعبية – هي نواة الجيش السوداني الجديد- حيث يحدد الاتفاق نشر 24 ألف رجل في الجنوب (من الجيشين)، و6 آلاف في جبال النوبة، و6 آلاف آخرين في النيل الأزرق الجنوبي، و3 آلاف (مناصفة) في العاصمة الخرطوم.<BR><BR>ولأول مرة سيحكم السودان "خلطة دينية" و"مواقف دينية " متضاربة، فالرئيس ونائبه الثاني ينتميان للحركة الإسلامية في السودان، وبجوارهما نائب أول مسيحي يؤمن بالعلمانية ورفض تضمين الدستور عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم"، ولكنه عاد وأقسم "بالله العظيم" أن يكون وفياً لجمهورية السودان عند توليه منصبه.<BR><BR>ولهذا بدأ علماء يحذرون من تغلل حركة قرنق في المجتمع السوداني ونشر أفكارها العلمانية بين السودانيين بحجة السلام، حيث أصدر نحو 25 يمثلون الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان فتوى دينية بتحريم الانضمام لحركة التمرد (الحركة الشعبية) وعدم الانضمام لحزبها؛ لأنه علماني لا ديني ويوالي "الكفار" – مقصود أمريكا والغرب- وذلك "كفر وردة"، و"التحالف معهم محاربة لله ورسوله وإفساد في الأرض من أعظم أنواع الكفر والردة عن دين الله"!<BR><BR>ولأول مرة يصبح للجنوب وجود سياسي في الحكومة بنسبة 28% (مقابل 52% لحزب البشير و20% لباقي الأحزاب)، وبنسبة 10% في كل ولاية من ولايات الشمال، وسيكون أيضاً ممثلاً في كل المجالس التشريعية الولائية الشمالية والجنوبية، وذا حق أصيل في صناعة القرار في كل شبر من أرض السودان، وفوق هذا وذاك سيكون له (الجنوب) الحق في نهاية الأعوام الستة القادمة (حتى عام 2011) أن ينفصل عن الشمال وأن ينشئ دولته الخاصة ولن يحتاج في هذا لأكثر من علم يرفعه فوق سارية؛ لأن حكومته قائمة وجيشه موجود ومصادر دخله معروفة وحدوده ثابتة وأجهزة دولته قد استقرت وحكومة الشمال تعترف به من الآن!<BR><BR>ولأول مرة سيتولى وزراء جنوبيين (حوالي 10) مناصب حكومية هامة أبرزها ربما تكون وزارة الخارجية السودانية التي قد تشهد تعيين أول "جنوبي" لها منذ الاستقلال عام 1956، خلفاً للوزير مصطفى إسماعيل، وذلك من بين ثلاثة وزارات سيادية - ربما منها الإعلام والعدل- بعد أن كان أبرز منصب للجنوبيين فيها هو منصب "وزير دولة".<BR><BR>وكل هذا يثير المخاوف علي هوية السودان العربية الإسلامية؛ لأنه بسبب مبدأ (جعل الوحدة السودانية هدفاً جاذباً لمواطني الجنوب) قدمت حكومة الخرطوم تنازلات ضخمة، وأصبح للجنوب استقلالية كبيرة في إدارة شؤونه المالية والإدارية والمحاسبية بعيداً عن أعين الحكومة المركزية وأصبح لولايات الجنوب حقوق سيادية كبيرة ما دفع البعض للتخوف أن يكون الدستور المؤقت الحالي قد جعل المدة الانتقالية "بروفة" أو اختبار للانفصال النهائي وجعل الانفصال – لا الوحدة – خياراً جاذباً للجنوبيين؟!<BR><BR><font color="#0000FF"> اتفاق ثنائي يستبعد باقي القوى: </font><BR>والأمر الأول الملفت للنظر أن الاتفاق الحالي بين حكومة حزب المؤتمر الحاكم وحركة جون قرنق، والذي نتج عنه الدستور المؤقت لا يشمل العديد من القوي السياسية الأخرى الشمالية والجنوبية التي ترفض أن يمثلها الطرفان في الشمال والجنوب، ما يعد انتقاصاً كبيراً من فكرة أن الاتفاق "قومي"، بل إن نص المادة 40 من الدستور على شرط أن تكون الأحزاب الموجودة موافقة على هذه الاتفاقيات هو غصب وإكراه لها علي الموافقة على اتفاقات لا توافق عليها؛ لأنها تعطيها 16% من الوزارات بعد أن كانت هي تتولي رئاسة هذه الوزارات في العهود السابقة.<BR><BR>فلا يعني الاتفاق بين الشمال والجنوب أن كل أطياف الشمال والجنوب ممثلين فيه، فهناك عشرات الأحزاب والحركات السياسية السودانية الشمالية والجنوبية غير ممثله فيه، ورغم تحديد نسب لها في الحكم (14% لأحزاب الشمال و6% لأحزاب الجنوب)، وقواعد للتعامل معها في الاتفاق فبعضها غير راض عن الاتفاق والدستور، والبعض الآخر يطالب بتصحيح الوضع أو تفجير الاتفاق، وقد عبر (رئيس وزراء السودان الأسبق، ورئيس حزب الأمة) الصادق المهدي عن هذا عندما حذر من أن ما تم "يمثل تمكيناً ثنائياً لحزبين لا يمثلان كل الشمال ولا كل الجنوب ولا الأغلبية في السودان.<BR><BR>والأمر نفسه ينطبق على الجنوب، حيث قبائل عديدة خصوصاً "الشُلك" و"النوير" و"اللاتوكا"، يتصارعون مع قبيلة "الدينكا" التي ينحدر منها جون قرنق، وهناك عدة فصائل عسكرية جنوبية تنتمي لهذه القبائل الأخرى، ترفض الانضواء تحت راية قرنق وتهدد باستمرار الحرب في الجنوب وبعضها يقودها قادة كبار مثل اللواء فاولينو ماتيب، ولم يتم الاتفاق معها حتى الآن، سواء باستيعابها في الجيش السوداني الرسمي أو جيش قرنق ما يهدد سلام وهدوء الجنوب. <BR> <BR>وهناك تفاصيل كثيرة في اتفاق السلام نتيجة كثرة البروتوكولات قد تنعكس على تضارب أو خلافات مستقبلية.. حيث تتوزع السلطات على أكثر من مؤسسة مركزية تعبر عن المستوى القومي والولايات الشمالية والجنوبية، وهناك نسب مختلفة لكل طرف تجعل خروج أي قرار أو تشريع في نهاية الأمر عملية حسابية معقدة وصعبة ونتيجة توازنات ومنافسات كثيرة، فالبروتوكول السادس بشأن توزيع السلطة تضمن منح حزب المؤتمر الوطني الحاكم 52% من السلطة في حكومة وبرلمان الشمال (المركز) ومنح حركة تمرد الجنوب (الحركة الشعبية) 30% من السلطة، و16% لبقية القوى السياسية السودانية ونسبة 2% لمواطني جبال النوبا وجنوب النيل الأزرق، كما تم الاتفاق على توزيع السلطة في حكومة جنوب السودان -خلال المدة الانتقالية التي تستمر 6 سنوات عقب توقيع الاتفاق النهائي، يعقبها استفتاء على حق تقرير المصير- بحيث تحصل حركة التمرد على 70% من السلطة، مقابل 15% فقط للحكومة، و15% للقوى السياسية الأخرى .<BR><BR>أما بالنسبة لتوزيع السلطة في منطقتي الجبال والنيل الأزرق؛ فقد تم الاتفاق على أن تحصل الحكومة على 55% من السلطة فيهما مقابل 45% للحركة الشعبية، وأن تكون رئاسة الحكومة في المنطقتين دورية بين الطرفين لمدة عام ونصف عام لكل جانب، وفيما يتعلق بمنطقة "أبيي" المهمشة تم الاتفاق على تبعية الإقليم للشمال كما هو الرأي الحكومي استناداً لتعريف يرجع بتاريخ المنطقة إلى عام 1905، ولكن جرى الاتفاق على تشكيل إدارة مشتركة لها، بمعنى أن يحصل كل طرف على 50% من السلطة، وأن تتبع المنطقة رئاسة الجمهورية مباشرة (البشير وقرنق)، والأمر نفسه يطبق على وضع العاصمة الخرطوم والتشريعات (تطبيق الشريعة مع إعفاء الجنوبيين)، وعلى عملية التشريع المتشعبة ما بين برلمان مركزي موحد وآخر للولايات وغيرها لكل ولاية جنوبية وشمالية.<BR><BR>وقد حرصت الحكومة السودانية بذلك على إظهار نواياها الطيبة للسلام ونيتها تنفيذ الاتفاقات بغرض وحدة السودان والتي وصلت لحد تقديم تنازلات ضخمة اعتبرتها في إطار حسن النية والتوازن بين الطرفين، وبقي الدور على قادة وحركة التمرد في الجنوب لإثبات نواياها، خصوصاً أن هناك تخوفات من أن تكون حركة التمرد لديها أجندة خفية للانفصال أو غيره من المخططات المتصلة بأهداف أجنبية.<BR><BR>ومن الواضح أن الحكومات العربية تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية تجاه هذا الانحدار السوداني والتنازلات الضخمة لصالح حركة التمرد؛ لأنها تركت الخرطوم وحيدة تواجه مؤامرات الغرب، وتركتها وحيدة تواجه ضغوط الولايات المتحدة، وتدخلاتها في كافة تفاصيل مفاوضات السلام وهي ترفع سلاح التهديد بالإرهاب، وبمحاكمة كبار المسؤولين السودانيين أمام المحكمة الجنائية الدولية، حتى أن احتفال بدء الحكم الجديد لم يحضره أي زعيم عربي بما فيها مصر المجاورة التي أرسلت رئيس وزرائها ما أثار استياء السودانيين في حين عشر عشرة رؤساء أفارقة وكبار المسؤولين بالخارجية الأمريكية والأمم المتحدة والدول الأوروبية.<BR><BR> ويمكن القول بأن تحرك الولايات المتحدة تجاه السودان كان يقوم على السعي لمنع "أسلمة النظام" مع اختلاف الطرق التي اتبعتها كل إدارة أمريكية وفقاً لمصالحها مع النظام الإسلامي في السودان.<BR><BR>وقد لخص (وزير الشؤون الداخلية السوداني) أحمد محمد هارون هذا التأرجح في العلاقات الأمريكية السودانية بين حالتي الشد والجذب، عندما صرح في وقت سابق بالقاهرة بأن بوش غير سياسة كلينتون (ومن قبله سياسة أبيه بوش الأب) القديمة القائمة على "شد الأطراف" عبر دعم حركات التمرد السودانية في شرق وجنوب وغرب السودان لتقطيع أوصاله، واتبع سياسة جديدة هي سياسة "تفكيك النظام" القائم عبر اتفاقيات سلام متعددة، تفكك أوصال السودان لصالح المتمردين!!<BR><BR>فواشنطن سعت لمنع "أسلمة" النظام سلمياً، وتفتيته عبر سلسلة من اتفاقات السلام مع الجنوب والغرب والشرق كي تحيله في نهاية الأمر لدولة فيدرالية أو كونفيدرلية مترهلة مترامية الأطراف ومتعددة الأديان والأعراق والقبائل، ولا يسيطر عليها من ثَم الجنس العربي وحده أو الشريعة الإسلامية، وقد برز ذلك جلياً في اتفاقات سلام الجنوب التي قصرت تطبيق الشريعة على الشمال والخرطوم دون الشرق والغرب والجنوب.<BR><BR>كما سعت للسيطرة بطرق مختلفة على نفط السودان، وتولي إدارة هذا النفط لصالحها، وظهر هذا أيضاً في اتفاقات سلام الجنوب الأخيرة (ماشاكوس ونيفاشا) التي أعطت للجنوبيين -وهم موالون تاريخياً لواشنطن- السيطرة على نفط الجنوب لحد تغيير الشركات الآسيوية العاملة هناك بشركات أمريكية وفرنسية، والسعي عبر الضغط على الخرطوم في قضية دارفور وتمرد شرق السودان لإبعاد حكومة الخرطوم الإسلامية عن التحكم في ملف النفط السوداني.<BR>فهل خسر السودان هويته بهذه الاتفاقات السلمية؟ وهل ينتهي الأمر لفصل الجنوب رغم هذه التنازلات الساعية لجعل خيار الوحدة جذاباً لدى الجنوبيين، وربما انفصال مناطق أخرى، وفق الخطة الأمريكية، لتضييق الحصار في نهاية الأمر علي الخيار الإسلامي في السودان؟<BR><BR>وهل يفطن أهل الحكم في السودان لهذه الخطط، أم أنهم يدركون الخطر ويتحسبون له ولهم حساباتهم الخاصة؟<BR><br>