قبرص التركية وبداية المساومة على الثوابت
18 ربيع الثاني 1426

تشهد جزيرة قبرص التركية في الوقت الراهن حركة غير مسبوقة من نوعها جاءت بعد إعلان فوز محمد علي طلعت (رئيس الوزراء السابق، وزعيم الحزب الجمهوري التركي) رئيساً جديداً للشطر الشمالي من جمهورية قبرص خلفاً للرئيس السابق رؤوف دنكطاش الذي أعلن عدم ترشحه لرئاسة البلاد بعد أن حكمها لأكثر من 30 عاماً.<BR><BR>وأكثر الأمور دلالة على ذلك التصريحات التي صدرت من طلعت عقب إعلان فوزه والتي أكد فيها بأن نتائج الانتخابات الرئاسية تؤكد رغبة مجتمع القبارصة الأتراك في توحيد شطري الجزيرة والالتحاق بالاتحاد الأوروبي مشيراً إلى أنه سيطالب الأمم المتحدة بإعادة وتجديد المفاوضات لحل الأزمة القبرصية كما أعلن أنه على استعداد لمقابلة الزعيم القبرصي اليوناني تاسوس بابادوبولوس وهو يرفض بشدة خطة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان الرامية لتوحيد شطري جزيرة قبرص والتي أيدها طلعت بقوة في استفتاء أجري في الجزيرة العام الماضي.<BR>وكان 75.83% من القبارصة اليونانيين قد صوتوا ضد خطة الأمم المتحدة لتوحيد شطري الجزيرة بينما صوت 64.9% من القبارصة الأتراك لصالح الخطة مما أدى إلى فشل توحيد الجزيرة.<BR><BR><font color="#0000FF"> رحيل دنكطاش: </font><BR>أسدل الستار في قبرص التركية على صفحة عريقة من تاريخها عبر الاعتزال الطوعي لرؤوف دنكطاش وعدم ترشحه من جديد لرئاسة جمهورية شمال قبرص التركية في الانتخابات التي جرت الشهر الماضي. دنكطاش (83 عاما) الذي فاز في الانتخابات الرئاسية الست التي أجريت في الشطر الشمالي من قبرص لم يعرف القبارصة الأتراك زعيماً سياسياً قاد مسيرتهم غيره. يرى (الزعيم القبرصي السابق) دنكطاش أن الآمال التي يركض ورائها الزعماء السياسيين في تركيا وقبرص الشمالية مجرد أوهام من نسج الخيال، وأن ما تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية من محاولات لتسوية الأزمة القبرصية ما هي إلا خطوات استدراجية لتقديم تنازلات كبيرة وقبول حل مهين يرضي القبارصة اليونانيين، في المقابل يعد محمد علي طلعت بأن عهد دنكطاش قد ولى وأن صفحة من التعنت والتشدد في قبرص التركية قد طوت.<BR><BR><font color="#0000FF"> خطة عنان: </font><BR>تنص الخطة المؤلفة من تسعة آلاف صفحة على قيام جمهورية فدرالية بكيانين متساويين سياسياً، كما تنص على اقتطاع 7% من مساحة الشطر الشمالي وإعادتها إلى الجنوب، لكنها تستثني تطبيق حرية التنقل المطبقة في الاتحاد الأوروبي عبر الحد من انتقال القبارصة اليونانيين للإقامة في الشمال وفق جدول زمني طويل المدى، وهي تتضمن جدولاً زمنياً طويل المدى لعودة اللاجئين من الشطر الجنوبي إلى ممتلكاتهم في الشمال.<BR><BR><font color="#0000FF"> حيرة الشعب التركي: </font><BR>يمكن القول بأن الشعب التركي حالياً في حالة ذهول من تطورات الأحداث في قبرص إذ إنه لازال عاجزاً عن فهم ما يحصل بشأن قبرص، وهم يتوقعون الأسوأ دائماً في أن يبدأ كل من زعيمي قبرص الشمالية التركية محمد علي طلعت وقبرص الجنوبية تاسوس بابادوبولوس بنقاش حاد في اللحظة الأخيرة على المفاوضات لإعاقة الحل. القبارصة اليونانيون كانوا يتوقون شوقاً إلى بدء المفاوضات القبرصية على أساس الخطة التي اقترحها كوفي عنان (الأمين العام للأمم المتحدة) أما الأتراك فكانوا يتململون ويتمتمون "بضرورة تعديل هذه الخطة"، أما إذا أردنا تقييم خطة كوفي عنان باختصار نجد أنها بمثابة مرض الإيدز بيد أنه عندما يبتلي الإنسان بهذا المرض فإن الموت يبقى مصيره عاجلاً كان أم أجلاً إذ قد يتمكن الأطباء من تمديد مدة العلاج لهذا المرض العقيم، ولكنهم أبداً لن يتمكنوا من إنقاذ حياة المريض من الموت المحتم الذي ينتظره.<BR><BR>نعم، لقد شبهنا خطة عنان بمرض الإيدز ولكن ربما هي أخطر منه بكثير؛ لأن هذه الخطة رغم أن علاجها قابل للتمديد إلا أنها’تحتم على الأطباء (الأطراف المعنية) قتل قبرص الشمالية التركية. حسناً، ومن هو العامل السياسي الأساسي الذي جعل من هذه الخطة المميتة شبيهة بمرض الإيدز؟ بالطبع هم اليهود؛ لأنه كما بات معلوماً للجميع أن الولايات المتحدة هي التي تتوق أكثر بكثير من اليونانيين إلى شل قدرات تركيا في قبرص الشمالية وسحب يدها من هذه الأرض بل أن الولايات المتحدة بعد اجتياح تركيا لقبرص في عام 1974 حاولت جاهدة إبعاد الحكومة الائتلافية مع نجم الدين أربكان الذي كان آنذاك زعيم حزب السلامة ونائب رئيس الوزراء من منصبه ليتسنى لها قطع اليد التركية من قبرص؛ لأنها كانت تؤمن بأن استبعاد أربكان من الحكومة والبرلمان سيدفع بالأحزاب السياسية الأخرى إلى التهاون في المسألة القبرصية بالطريقة التي ترغبها.<BR><BR>ولكي تتخلص الولايات المتحدة من أربكان وحزبه مارست أشد أنواع الضغوط على حكومة بولنت أجاويد وسليمان دميريل الائتلافية في حزيران عام 1977م ودفعتهم إلى إجراء انتخابات مبكرة وبسبب هذه الانتخابات فقد انخفض عدد مقاعد حزب السلامة من 48 إلى 24 مقعد في البرلمان، ولكنها مع ذلك لم تتمكن من إخراج هذا الحزب الإسلامي من البرلمان، ولهذا السبب فقد سلطت أجاويد عليه لتدبير مؤامرة محاربته في الإسلام السياسي.<BR><BR>حسنا، ولماذا كل هذه التهجم على حزب أربكان الإسلامي؟. كل هذا من أجل استبعاد الجيش التركي من شما قبرص لتأمين الأمن الإسرائيلي. كما تعلمون أن جزيرة قبرص تقع شرق إسرائيل ونسبة لموقعها الاستراتيجي المهم فإنها تشكل خطراً حقيقياً على إسرائيل من الشرق، فاليهود هم السبب الأساسي وراء المؤامرات الدفينة حول قبرص الشمالية، وهذه ليست نظرية مؤامرات بل حقيقة استراتيجية واضحة للعيان، ولا سيما أن الفعاليات الاستراتيجية التي بدأنا نشهدها في المدة الأخيرة في منطقتنا هي من صنع صهيوني أيضا ولكنهم يفعلون ذلك من خلف الستار الأمريكي. إذ لم يعد يخفى على أحد أن اليهود وظفوا الماسونيين في حملة للقضاء على حزب الرفاه الإسلامي علما أن أحد الوزراء السابقين طلعت هالمان بتأثير من هؤلاء الماسونيين اعترف بشكل علني في 30 نيسان 1997م بضرورة تقسيم وإبادة حزب الرفاه من المعترك السياسي. ولو فكرنا قليلا بمنطقية سنرى أن اليهود لم يوفروا وقتاً أو جهدا للقضاء على كل من يملك نظرة إسلامية في السياسة التركية، والنتيجة أنهم نجحوا في مسح حزب الرفاه من الخارطة السياسية.<BR><BR><font color="#0000FF"> إذن لماذا كل هذا الاهتمام الأمريكي الإسرائيلي الأوروبي بقبرص؟! </font><BR>لعل البعض يعتقد بأن دخول قبرص اليونانية الجنوبية إلى الاتحاد الأوروبي في الأول من مايو 2004م هو السبب، ولكن هذا ما تعارضه بعض التقارير التي تؤكد تداخل خيوط هذه القضية مع الاهتمامات الأمريكية الإسرائيلية في "مشروع الشرق الأوسط الكبير" بيد أن أمريكا التي ترى في نفسها مسؤولة عن حماية الأمن الإسرائيلي تضغط وبشدة من أجل حل المسألة القبرصية. وفي هذا الإطار، وضعت صحيفة "ملي غازيته" يدها على عمق الجرح عندما تساءلت باختصار في مقالة سابقة لها (هل يا ترى يمكن للناظر من على مشارف قبرص أن يرى ميناء حيفا أمامه). وهنا هي تضع خطاً عريضاً تحت قرب قبرص من الخط الأحمر الإسرائيلي وبما أن الجميع بات يعرف أن مشروع الشرق الأوسط الكبير ينطوي على مشروع إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات وإذا دققنا في كل هذه المعايير نرى السبب الحقيقي وراء الاهتمام الأمريكي الكبير بهذه القضية التي تعد مصيرية ليس بالنسبة لتركيا واليونان أو للولايات المتحدة وإسرائيل فحسب، بل للمنطقة كونها جزء من الاستراتيجية المستقبلية لتغيير معالم المنطقة كلها".<BR><BR><font color="#0000FF"> الولايات المتحدة تريد الإقامة العسكرية الدائمة في قبرص: </font><BR>المسؤولون الأمريكيون في لجنة الأمن القومي لا زالوا يتبنون شعورا غريبا بعدم الثقة والأمان من الجانب التركي في قبرص لهذا فقد رأوا أن الطريق الوحيد لإذهاب مخاوفهم وضمان أمنهم يمر من خلال التواجد العسكري الأمريكي في قبرص، وبذلك فإنهم سيحققون مصالحا أكبر ويحصلون على ضمانات أوفر لتقوية الشوكة الأمريكية سياسيا وجيواستراتيجيا في البحر الأبيض.<BR><BR>بالنسبة لهؤلاء المسؤولين الأمريكيين فإن واشنطن ترى في قبرص أهمية استراتيجية خاصة نظراً لموقعها المميز في الشرق الأوسط وقربها من منابع الطاقة في الشرق الأوسط أفريقيا والقفقاس وللأهمية الأمنية التي تحملها بالنسبة لمعابر الطاقة مثل خط باكو– جيهان، كما أنه نظراً لكون دائرة التخطيط الاستراتيجية التابعة لقيادة القوات الأمريكية في أوروبا تخضع لسيطرة الاتحاد الأوروبي في البحر الأبيض فإن واشنطن ترغب بتعزيز قواها السياسية والاستراتيجية في المنطقة من خلال قبرص.<BR><BR>في هذا المضمار يقول الكاتب الصحفي في جريدة زمان "الإسلامية" حسن أونال أن وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" ترغب بنقل قواتها الموجودة في قواعدها بأوروبا الغربية إلى قواعد في أوروبا الشرقية مثل بولونيا بلغاريا ورومانيا نظرا لتمتع هذه الدول بقوة تحرك أفضل بالنسبة لها، ولهذا السبب فإن واشنطن تواصل المباحثات مع تركيا من أجل استخدام قاعدة إنجرليك وربما قاعدة تركية أخرى إلى جانبها والهدف من ذلك هو: زيادة سرعة التدخل خصوصا في القفقاس وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وبمعنى أخر تأسيس حزام أمني أمريكي للرد المباشر والسريع على أي عمليات ضدها، ولهذا السبب بالذات فإن الولايات المتحدة تستعد لطلب قاعدة عسكرية في قبرص أملا في أن تكون هي الدول الراعية لهذه الجزيرة، وبذلك فإنها ستكون قد نجحت في التمهيد لوضع أرضية سياسية لها من جهة مقابل ربحها دوراً قيادياً كأنها تتمتع بالكلمة مثلها مثل بقية زعماء الجزيرة في أي خلافات قد تنشئ على طاولات المفاوضات القبرصية من جهة أخرى. <BR><BR>وفي الختام، يمكن القول بأن الآراء في تركيا منقسمة حالياً بشأن قبرص إلى شقين؛ الأول ينظر إلى قبرص من عين أوروبية فيؤكد بأن أنقرة نجحت في تفكيك اللغم القبرصي وبأنها تمضي بخطوات واثقة على طريق تسريع تشريع الإصلاحات وتطبيقها وبأنه لم يعد من الممكن إخراج القطار التركي عن السكة الأوروبية بعدما وضعه الاتحاد الأوروبي بنفسه عام 1999 م على هذه السكة وبأن القطار التركي يتقدم على الأقل على صعيد الشروط المعلنة أوروبيا وهي ذات صفة تقنية وتخص الجانب التركي أساسا والمتمثلة بمعايير كوبنهاغن. <BR><BR>أما الجانب الثاني ويمكن القول بأنه الأغلبية يشكك في أن طبيعة العلاقات بين القبارصة الأتراك وتركيا تحتاج إلى مراجعة شاملة ودقيقة لرؤية مستقبل العلاقة بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين، وهل سيتمكنا من تجاوز خلافاتهما والتعايش معا أم أن الجزيرة الخضراء ستبقى جزيرة الفرص الضائعة إلى الأبد..<BR><br>