مفقودو الأزمة الجزائرية.. بين معاناة الأسر ومماطلة السلطة
9 ربيع الأول 1426

بعد الانقلاب العسكري، الذي أعقب فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات التشريعية التي أجريت سنة1991م، دخلت الجزائر أزمة دموية لم يُعرف لها مثيل، راح ضحيتها آلاف الجزائريين، من جميع شرائح المجتمع، قضى نحبه فيها مدنيون وعسكريون، في فتنة عمياء لا يدري القاتل فيها لما قتل، والمقتول فيها لما قُتل، إضافة إلى تدمير البنية الاقتصادية للبلاد وتفكيك المجتمع والتخريب الذي طال كل شيء، كانت حرباً مجنونة بين زعمين اثنين، زعم بجهاد الطواغيت، وزعم بمكافحة الإرهاب، وفي ظل هذه الحرب تناست جميع الأطراف كل قواعد القتال، وتجاهلت أبسط أخلاق وآداب المعارك، بما فيها الاعتداء على الأبرياء الذين لا علاقة لهم بتلك الحرب القذرة ( la sale guerre ) كما أطلق عليها أحد العسكريين الجزائريين المشاركين في بعض تفاصيلها ثم فر قبل سنوات إلى أوروبا.<BR><BR>كان من مظاهر تلك الحرب القذرة اختفاء ما بين 6 إلى 7 آلاف مواطن جزائري، في ظروف لا تزال غامضة حتى الآن، أُخذوا أو خُطفوا من أماكن عملهم ومن الشوارع ومن غرف نومهم في جنح الظلام، ثم تبخروا فلم يُعرف لهم طريق إلى اليوم، مما أدخل أسرهم وعوائلهم في معاناة شديدة، فهم لا يزالون ينتظرون عودة ذويهم المفقودين منذ سنوات طويلة دون أن يعلموا إن كانوا على قيد الحياة أم قضوا نحبهم، بعد سنوات طويلة ومريرة من المطالبة بعودة أبنائهم، أو من تقديم جواب صريح عما حدث لهم، لم تلق مطالبهم آذانا صاغية، ولم تجب الحكومة إلا بالصمت والسكوت وتجاهل تلك المطالب. <BR><BR>و دفع هذا الموقف السلبي الحكومي ذوي المفقودين إلى تنظيم العديد من المظاهرات والتجمعات أمام المؤسسات الحكومية والحقوقية كل أسبوع لمدة سنوات، وظلت تلك التظاهرات تُجابه بحصار من شرطة مكافحة الشغب، كما راهنت الحكومة على الزمن، حيث اعتقدت بأن الزمن كفيل بإنساء هذه الأسر قضيتهم، لكن حسابات الحكومة لم تكن صحيحة، إذ إن التظاهرات زادت يوماً بعد يوم، وارتفعت أصوات الأسر أكثر فأكثر فصارت قضيتهم مسموعة، وقد كان الإعلام يعرض أسر المفقودين وهم يرفعون صور ذويهم، مما أحرج الحكومة، لا سيما بعد تدخل العديد من المنظمات الحقوقية الدولية، كمنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش الأمريكية.<BR><BR>وأسست أسر المفقودين مع مجموعة من الحقوقيين جمعية لأسر المفقودين مارست ضغوطاً سياسية وقانونية وإعلامية على السلطة، وكان رد فعل السلطة هروبياً في البداية، إلا أنها لم تكن قادرة على تجاهل القضية والتسربل بالصمت إلى الأبد فأجابت لأول مرة قائلة: إن المفقودين هم شرذمة من الإرهابيين الذين التحقوا بزملائهم في الجبال والوديان، ولم تقدم دليلاً على هذا الجواب، ثم زعمت بعد حين، في تفسير يناقض سابقه، أن المفقودين خُطفوا على أيدي الإرهابيين لكونهم يُدينون الإرهاب ويقفون ضد المشروع السياسي الأصولي الإسلامي.<BR>لكن الأسر رفضت هذه التفسيرات، وقدمت ملفات وأدلة دامغة على أن المفقودين اُعتقلوا على أيدي أجهزة الأمن المختلفة، وأن بعضهم كانوا في سجون السلطة لما اختفوا، وأكثرهم من الشباب والصحفيين والنساء والشيوخ، الذين لم يكن لديهم أي نشاط سياسي أو إرهابي، وذنبهم الوحيد أن بعضهم كان قريباً لأحد المطلوبين أو أنه كان موجوداً في المكان الخطأ والزمان الخطأ. <BR><BR>وفي إحدى الخطوات الإيجابية عرضت السلطة تعويضات مالية عن كل مفقود، لكن دون أن تعترف بتورطها في اختفائهم أو أن تُحمل الأجهزة الأمنية أية مسؤولية، واستبعدت الأسر الحديث عن التعويضات قبل أن تعرف مصير أبنائها، فهؤلاء- حسب تلك الأسر- إما أن يكونوا في السجون والمعتقلات، فعلى الحكومة في هذه الحالة أن تحاكمهم إذا كانوا مذنبين وإلا أن تُطلق سراحهم، أما إذا قُتلوا فعلى الحكومة أن تُقدم المسؤولين عن إعدامهم خارج إطار القانون إلى القانون، كما على الحكومة أن تكشف عن جثامينهم ليتم دفنها بالطريقة التي تريدها كل أسرة.<BR><BR>ومع أن (الرئيس السابق) الأمين زروال أصدر قانون الرحمة، الذي خفف من حدة الأزمة الدموية عموماً، إلا أن حلحلة قضية المفقودين لم تبدأ إلا باعتلاء الرئيس بوتفليقة كرسي السلطة، فقد وعد في برنامجه الانتخابي سنة 1999م بحل أزمة المفقودين، إلا أن عهدته الأولى مرت دون تحقيق ذلك الوعد، ويبدو أن شجاعة الرئيس الحالي، الذي لم يشارك في الحقبة الدموية واجه بعض الجنرالات الذين طالبوا ببعض الضمانات بعدم محاسبة المسؤولين عن اختفاء 7 آلاف جزائري.<BR><BR>ويرى المراقبون أن النظام الجديد عمل على إصدار قانون الوئام المدني والمصالحة الوطنية ثم مؤخراً مشروع قانون العفو الشامل، وهي كلها قوانين تُحضر للاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها الجزائريون في جميع المواقع، دون تجريم أحد بعينه، وفي هذا الصدد جاء لأول مرة اعتراف هيئة رسمية حكومية، وهي المرصد الوطني لحقوق الإنسان، بمسؤولية الأجهزة الأمنية في اختفاء 6 إلى 7 آلاف مواطن جزائري بعد طول صمت وإنكار.<BR>ويرى بعض المراقبين السياسيين أن الحكومة الجزائرية تريد استغلال قانون العفو الشامل لتبييض صحيفة النظام، وأكثر من ذلك إذ بدأت تتكشف بعض المعلومات عن إدخال تحت العفو الشامل المسؤولين المتورطين في الفساد المالي والاقتصادي، الذين استغلوا غياب المراقبة إبان الحرب الأهلية لينهبوا ثروات البلاد.<BR>كما تنتشر أخبار في الأوساط السياسية والإعلامية عن شمل الخونة ( الحركى )، وهم الذين حاربوا إلى جانب الاحتلال الفرنسي ضد الثورة و استقلال الجزائر، مما أذكى الكثير من الشكوك حول الأهداف الخفية من العفو الشامل، الذي تُسوق له السلطة هذه الأيام.<BR>ومهما يكن فإن العفو عن الجزائريين من المواطنين والأمنيين، الذين أخطؤوا في حق بعضهم البعض، هو لا شك حل عادل ومنطقي نثمنه، لتعود الأخوة بين الجزائريين، لكن الخونة و الحيتان الكبيرة التي دمرت اقتصاد البلاد لا يوافق عليهما المواطن الشريف، خصوصاً أن هاتين الفئتين الأخيرتين لم تعترفا يوماً أنها كانت على خطأ!<BR><br>