فرنسا وسوريا ولبنان.. عقد استعماري جديد
13 صفر 1426

الأحداث التي جرت وتجري في لبنان قبيل وبعد جريمة اغتيال (رئيس الوزراء السابق) رفيق الحريري، سواء داخل الساحة اللبنانية أو في إطار العلاقات السورية اللبنانية وعلاقتها "بالتسوية الأمريكية الصهيونية" للصراع العربي الصهيوني، وفي مجال التدخلات الدولية في الشئون الداخلية للدول العربية بطلب ودعم من قوى سياسية داخلية ترسم سيناريو قديم جديد تتغير فيه الأسماء والآليات، وتبقى الغايات ثابتة لا تتغير... تحطيم الكيانات الوطنية وتجزئتها إلي كانتونات عرقية وطائفية.. تقسيم وتوزيع مناطق النفوذ التابعة للدول الكبرى، وفق موازين القوى والمصالح.. الحفاظ على ميزان القوى المختل لصالح الغرب والشمال المتقدم، والإبقاء عليه، وتعميق حالة التخلف في الجنوب.. ضرب وتحجيم قوى التغيير "والحركات الجهادية" خاصة، وإنشاء وتمويل وحماية وتشجيع تحركات الأقليات العرقية والطائفية لتكوين جماعات ضغط موالية لنفوذ هذه الدولة أو تلك من دول "الاستكبار".<BR><BR><font color="#0000FF"> كيف نفهم أحداث لبنان بعد جريمة الاغتيال؟! </font><BR>لكي يمكن فهم الأحداث في لبنان، وآثارها وأبعادها الإقليمية والدولية، لابد من النظر إليها في إطار التطورات والأحداث الأخيرة في المنطقة، فدخول وتمركز القوات الأمريكية (150ألف جندي) في العراق وغيرها في قواعد دول المنطقة والخليج المختلفة، وكذلك المقاومة العراقية ونتائجها المحبطة للخطة الأمريكية، والاستسلام الليبي غير المشروط والمجاني، وتداعي النظام العربي الرسمي الواهن، وكذلك وكنتيجة لوهن وقمعية النظام الرسمي العربي وفقدانه للشعبية.. ونجاح المخططات الأمريكية والأوروبية والصهيونية في استقطاب وبلورة قوى وتيارات تعمل لصالحها داخل المجتمعات العربية والإسلامية، سواء نتيجة الاستلاب الثقافي والفكري أو لتلاقي مصالح تلك الفئات مع مصالح الرأسمالي الغربي أو بالعمالة المباشرة، وما يزال جيش لحد العميل نموذجاً فجاً قريباً حاضراً في الأذهان والعيون، وكذلك السعي الأمريكي المتسارع لحصار القوى العالمية العائدة إلى الساحة الدولية، بعد الضربات والأزمات التي تعرضت لها مخططات الهيمنة الأمريكية المتفردة على مقدرات العالم.. كالكومنولث الروسي.. وفرنسا وألمانيا في إطار الاتحاد الأوروبي أو الإقليمية الصاعدة كالصين والهند واليابان وإيران.<BR>في هذا الإطار، بل وفي هذا الإطار فقط يمكننا فهم ما يدور من أحداث على الساحة ( أو بالأحرى الحلقة) اللبنانية من حلقات الصراع العالمي الذي تدور فصوله على كامل رقعة اليابسة.<BR><BR><font color="#0000FF"> مسار الفصل.. وحقائق الجغرافيا السياسية: </font><BR>تتبع مسار مفاوضات الحل العنيف أو "السلمي" للصراع العربي الصهيوني يشير بوضوح أن هذا الصراع كان وسيظل دائما مرآة تعكس أوضاع الصراع بين قوى الهيمنة العالمية، ومجالاً دائماً لإدخال التعديلات على الميثاق الأساسي لدول الاستكبار "سايكس بيكو"، ونركز هذه الفكرة في نقاط..<BR>• إن الصراع يتم تجميده حرباً أو سلماً في حالات التوازن بين القوى العالمية.<BR>• إن الكيان الصهيوني هو أداة التحريك التي تستخدمها القوة التي يميل ميزان القوى لصالحها لتغيير خارطة الهيمنة.<BR>• إن الحفاظ على تفوق العدو الصهيوني يمثل قاعدة ثابتة لقوى الهيمنة العالمية على اختلافها.<BR>• إن سماح القوى الدولية بإطار جامع لحركة الطرف العربي أو تفكيك هذا الطرف إلي مسارات متفردة يرتبط دائماً بهدفي تجميد وتحريك الصراع لتثبيت أو تحريك الخطوط على خارطة الهيمنة.<BR>• إن آلية التجميع والتفكيك تستلزم تعاون قوى وشخصيات داخل التكوينة العربية تعطي القوى العالمية "في مواجهة بعضها البعض" الشرعية الشكلية اللازمة للتدخل الفاعل.<BR><BR>ولا شك أن تتبع الأحداث منذ "بلفور" وحتى "خارطة الطريق"، مروراً "بجنيف" و"مدريد" و"كامب ديفيد" و"أوسلو" و "وادي عربة" و"شرم الشيخ"، وما تخلل ذلك من مواجهات عسكرية مستمرة على الجبهة اللبنانية والأردنية، وحروب 1948م، 1956م، 1967مو 1973م يؤكد تحكم هذه الآليات في مسار الصراع، إضافة إلي توظيف حقائق الجغرافيا السياسية وموازين القوى الإقليمية.<BR><BR><font color="#0000FF"> حقائق الجغرافيا السياسية: </font><BR>يشير تاريخ منطقتنا إلى ثلاث مراكز تمثل محاور جمع قوى المنطقة لإطلاق مشروع إقليمي وعالمي أو تفرقها لتتحول إلى مغنم لمشاريع مضادة إقليمية وعالمية، هذه المراكز الثلاثة هي مصر، والعراق، والشام، كما يشير التاريخ إلي أن كل مركز من هذه المراكز له مجاله الحيوي اللازم لانطلاق مشروعه أو إفشاله.. وبخروج مصر كامب ديفيد، وتحطيم الدولة المركزية الناهضة في العراق لم يعد في المدى المنظور أي احتمال لقيام مشروع إقليمي للمواجهة إلا في الشام، ولضرب هذا المشروع في الأساس لابد من فصل سوريا عن مجالها الحيوي وعمقها الاستراتيجي في لبنان وفلسطين والأردن، وقد تم فصل المسار الفلسطيني والأردني عن المسار السوري اللبناني في مدريد، كما فصل المسار الأردني عن الفلسطيني في وادي عربة، والخطوة اللازمة المتبقية هي فصل المسار السوري عن اللبناني، وهو ما يحدث الآن في لبنان.. لتحويل لبنان من عمق سوري إستراتيجي إلى ثغرة إستراتيجية، ولابد هنا أن نوضح ما يطرحه التاريخ من مسلمات عن الدول المحيطة بالدول المركزية الثلاث، فهذه الدول المحيطة.. إما أن تكون ضمن مشروع إستراتيجي للمركز أو ضمن مشروع استراتيجي خارجي لضرب هذا المركز ينطبق هذا على السودان وفلسطين بالنسبة لمصر وعلى شرق الأردن والخليج بالنسبة للعراق، وعلى لبنان وشمال فلسطين بالنسبة لسوريا، ووفق هذا الفهم يمكننا القول بأن ما يجري الآن في لبنان هو محاولة لإخراجه من الهوية والصف العربي إلي هوية أخرى وصف آخر نقيض كمقدمة للإجهاز على الدولة السورية وتفتيتها في مرحلة لاحقة انطلاقاً من لبنان.<BR><BR><font color="#0000FF"> فرنسا تكشف عن وجهها الحقيقي.. </font><BR>أوقعت السياسات الفرنسية الممانعة لحرب أمريكا لاحتلال العراق.. من لا يمتلكون رؤية كلية للصراع.. في تخبط شديد.. وقيم البعض مظاهر السياسة الفرنسية على أنها مواقف مبدئية، واستمرار لسياسة فرنسا الديجولية، التي فهموها خطأ هي الأخرى، وقد ازداد ارتباك هذه العقول حينما تغير الموقف الفرنسي، فوافقت فرنسا على القرار 1546، ووصلت هذه العقول إلى حالة من التيه الكامل والصمت المريب، بعد إعلان التوافق الأمريكي الفرنسي.. ونعني القرار 1559.. والذي صيغ بمعرفة الرئيسين الفرنسي والأمريكي في 2 سبتمبر 2004م ليقر بإجماع مجلس الأمن في 19 أكتوبر 2004م ومهلة للتنفيذ حتى 19 إبريل 2005م ، فكيف يمكن فهم الموقف الفرنسي في إطار الصورة الكلية للحراك السياسي العالمي.<BR><BR>أولاً: إن المعارضة الفرنسية للاحتلال الأمريكي للعراق تبدأ وتنتهي عند حدود عدم تمكين أمريكا من الانفراد بشريان الطاقة الحيوي لأوروبا من جهة، وعند حماية مناطق نفوذها التقليدية في سوريا ولبنان من جهة أخرى.<BR><BR>ثانياً: إن المقاومة العراقية بما مثلته من عثرة كؤود أمام المشروع الأمريكي قد أعطت الفرصة للسياسة الفرنسية المتذبذبة، والتي تلقي معارضة لا يستهان بها داخل الاتحاد الأوروبي بأن تخطو خطوة للأمام دون تردد.<BR><BR>ثالثاً: إن وجود القوات الأمريكية في العراق، فرض على فرنسا حسم ترددها حتى لا يضيع آخر موطئ قدم لها في المنطقة، بعد الخسائر التي منيت بها في المغرب العربي لصالح الأمريكيين.<BR><BR>رابعاً: إن نتائج الحرب الأهلية اللبنانية، واتفاق الطائف، ومعاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق السورية اللبنانية، قد أفرزت توازنات جديدة على ساحة القوى اللبنانية الداخلية، تهدد اللوبي اللبناني التابع لفرنسا، بل وتهدد كل القوى الداخلية التي تعتمد على دعم القوى الغربية و"إسرائيل"، وتضع لبنان في إطار المشروع المضاد لها.<BR><BR>خامساً: إن الضربات الموجعة التي يتلقاها الأمريكيون في العراق تجعل الوقت مناسباً لتنازلات في الموقف الفرنسي لصالح أمريكا في العراق وفلسطين مقابل أن يبقى لبنان "عراق فرنسا".. كما قال الرئيس الفرنسي، ويعني أن تكون فرنسا صاحبة الحق الوحيدة في التدخل فيه على أن تقوم فرنسا بتأمين العدو الصهيوني ضد الهجمات من الجنوب اللبناني وتأمين الحدود العراقية مع سوريا.<BR><BR>هكذا تحل التناقضات بين أمريكا وفرنسا لصالح تقاطع مصلحتهما. وإن احتفظت أمريكا بورقة الكيان الصهيوني وأوراق أخرى في لبنان وسوريا، واحتفظت فرنسا بورقة الملف النووي الإيراني، فالاتفاق على نيل فرنسا جزء من مطالبها في مشروع الشرق الأوسط الكبير مقابل تنازلات مطلوبة لأمريكا لا يعني نهاية الصراع.<BR><BR><font color="#0000FF"> الأهداف الفرنسية في سوريا ولبنان: </font><BR>تسمح التركيبة الديموجرافية في كل من سوريا ولبنان، وخاصة في حالة تراجع المشروع الجامع والناظم لقوى المجتمع الرئيسة بانفراط عقد تجمعات الأقليات، ولجوء كل منها إلى قوة من قوى الهيمنة الخارجية المتربصة، ففي لبنان على سبيل المثال سبعة عشر طائفة معترف بها بالإضافة إلى العديد من الطوائف الصغيرة، وقد فرض الانتداب الفرنسي قواعد وقوانين، على أساس طائفي، تعطي حقوقاً لبعض الطوائف "خاصة المسيحية" تفوق نصيبها من القوة الاجتماعية وتعداد السكان، بحيث يصبح استمرار امتيازاتها مشروط باستمرار النفوذ الفرنسي، والتاريخ يعج بخطابات واستغاثات هذه الطوائف المطالبة بالتدخل الفرنسي في الشؤون الداخلية اللبنانية، وقد ذكرنا فيما سبق إشارة عن النتائج التي أفرزتها الحرب الأهلية اللبنانية والاتفاقيات التي تلتها من تعديلات على الصيغة الفرنسية المغلوطة، إضافة إلى تعديل خارطة توزيع الثروة، والتي كانت تتركز في أيدي أقليات "مسيحية" تحديداً.<BR><BR>وفي إطار الوضع العالمي الذي يمر بحالة إعادة تشكيل، والوضع الإقليمي بكل مشتملاته سابقة الذكر.. رأى الفرنسيون في الورقة السورية اللبنانية فرصة ملائمة لتحقيق جملة من الأهداف تتمثل في:<BR>1. الدخول كشريك مرعي المصالح في خطة الشرق الأوسط الكبير، بعد تراجع البديل الأوروبي الأول "البحر متوسطية"، والثاني "الشرق الأوسط الموسع" لغياب إرادة سياسية أوروبية موحدة.<BR>2. مراجعة نتائج الحرب الأهلية اللبنانية واستعادة نفوذ الطوائف الموالية.<BR>3. تحجيم المدى الإقليمي لسوريا، تمهيداً لإتمام إخضاعها، وتحريك القوى الموالية فيها كخطوة في اتجاه تقسيمها، خاصة بعد تقلص نفوذ فرنسا فيها لصالح الأمريكيين، الأمر الذي ظهر في عقود النفط السورية التي تجاهلت فرنسا لصالح الأمريكيين.<BR>4. امتلاك موقف مبادر ومؤثر على قوى المقاومة المجاهدة في فلسطين ولبنان والعراق، الأمر الذي يسمح لفرنسا بالدخول في مساومات جديدة على الحصة الفرنسية من غنائم الشرق الأوسط الكبير، قد تتعدى منطقة الوسط العربية إلى المغرب العربي ووسط آسيا ووسط وغرب أفريقيا.<BR>5. وضع سوريا ولبنان أمام خياري "صدام والقذافي" باستخدام التهديد بعصا التدويل، والتي ستصبح الخرق الثالث للأمن القومي العربي بعد فلسطين ثم العراق.<BR><BR>ولفهم التحركات التي ولدت في الشارع اللبناني بمجرد غياب رفيق الحريري، بل ولفهم من قتل، ولماذا قتل الحريري نقتبس بعض العبارات الهامة من أقوال ممثلين لقوى أساسية في أحداث الشارع اللبناني الأخيرة.<BR>شيراك: بعد أن قال: إن لبنان هي "عراق فرنسا"، أردف أنه من حق فرنسا.. وفرنسا وحدها (1)التدخل (2)التدويل لتطبيق 1559 (3)تأييد أحد الأطراف الداخلية.<BR><BR>شمعون بيريز: "في زيارتي للبنان أثناء الحرب الأهلية دعوت قادة الطوائف لإقامة كياناتهم الطائفية المستقلة، ولكنهم لم يغتنموا الفرصة".<BR><BR>جيفري فيلتمان (السفير الأمريكي في بيروت).. "النظام السوري عقبة في طريق مشروع الشرق الأوسط الكبير، ولا يتجاوب مع مطالب المجتمع الدولي بطرد ممثلي المنظمات الإرهابية الفلسطينية من دمشق وإغلاق مكاتبها، وهو يمثل تهديداً لأمن جنودنا في العراق،الذي تمتد حدوده مع سوريا لمسافة 620 كيلومتراً تقطنها "قبائل سنية" على الجانبين.<BR><BR>عاطف حرب: (المتحدث باسم الاتحاد اللبناني في الولايات المتحدة، والذي يضم الاتحاد الماروني الأمريكي والقوات اللبنانية وميشيل عون والكتائب ومفوضية الأحرار والتجمع الديموقراطي المسيحي..) يقول: "مطالبنا واضحة ومحددة، وهي: الخروج السوري من لبنان، فصل المسار السوري في التسوية عن المسار اللبناني، نزع الميليشيات وسلاح الفلسطينيين، فصل لبنان عن المسار العربي، وقد كانت هناك خطوط حمراء أمريكية تحد من حركتنا لكي يبقى الوضع على ما هو عليه.. ولكن غير هذه المعادلة صعود الراديكالية الإسلامية وانتشارها، وقد رأينا أن فرنسا تحتاج إلى العودة إلى المنطقة، وتفاهمنا مع مخططي السياسة الأمريكية عن طريق أعضائنا في الكونجرس، ونرى أننا وحدنا نستطيع أن نوفر للفرنسيين هذه العودة من طريق لبنان".<BR>انتهى كلام عاطف حرب (المتحدث باسم الاتحاد اللبناني)، والكلام يغنى عن أي تعليق.<BR><BR>إن آليات الديموقراطية الغربية "انتخابات، مجالس تمثيلية...إلخ" تتحول في ظروف تراجع المشروع الجامع وطمس الهوية والتركيب المشوه الذي صنعه الاستعمار عبر الحدود التي خطها على خرائطه إلى آلية سيطرة مضافة للعتاد الحربي في يد قاهرينا من دول الاستكبار والعملاء، وتبقى الأسلحة البسيطة في أيدي شعوبنا المجاهدة هي الضمان الوحيد للتصدي للمشاريع الأمريكية والصهيونية والأوروبية الاستعمارية.<BR>هذا هو درس العراق ولبنان واضحاً.. ولعل سوريا ومصر وغيرهما يستوعبون عبره ويستفيدون من أخطائه وبسرعة..!!<BR><br>