الإفتاء والسياسة في مصر
4 ذو القعدة 1425

خمسة أحداث هامة وقعت مؤخراً أثارت في نفسي تساؤلات عن "الدور السياسي لعلماء الأمة والدور السياسي للإفتاء" في عالمنا العربي، وكيف أن الفقيه أو الإمام يمكن أن يقود الأمة إلى التقدم للأمام والرقي أو يقودها إلى التخلف والركون واللهو عن قضاياها الحقيقية أو الصمت على الظلم على طريقة "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" في فيلم "الزوجة الثانية"!؟<BR><BR>الحدث (الأول) كان بيان علماء السعودية الـ 26 يوم 5 نوفمبر 2004م لنصرة المقاومة في العراق رغم حملة الترهيب الضخمة من جانب الأمريكان ورفع تهمة الإرهاب على رقابهم، و(الثاني) كان بيان "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" - الذي تأسس في يوليه الماضي (2004) - في 19 نوفمبر 2004م، الذي قال: إن مقاومة الاحتلال في العراق "واجب شرعي على كل مستطيع، داخل العراق وخارجه"، و(الثالث) كان بيان علماء اليمن الـ 26 يوم 27 نوفمبر 2004م، والداعي أيضاً لنصرة المقاومة وعدم جواز التآمر عليها.<BR><BR>أما الحدثان (الرابع) و(الخامس) فعلى النقيض تماماً، ويتعارضان مع الدور السياسي المفترض لرجل الدين في نصرة قضايا الأمة باعتبار أنه لا فصل بين الدين والدولة في الإسلام، وهما فتوى الدكتور سيد طنطاوي (شيخ الجامع الأزهر) أوائل العام الجاري بشأن الحجاب في فرنسا، والتي نصر فيها حكومة فرنسا على حجاب مسلميها بحجة أنه ليس من حق أي عالم مسلم أن يفتي في أمور دولة أخرى، (الخامس) كان المقال الأسبوعي لفضيلة (مفتي الديار المصرية) د. علي جمعه في جريدة الأهرام يوم السبت 27 نوفمبر 2004م، والذي خصصه للحديث عن " الذباب.. أصله وصفاته"، بدلاً من الحديث عن نصرة المقاومة في العراق مثلاً في وقت يٌُقتل فيه مسلمو العراق، وتهدم المساجد على رؤوسهم (في الفلوجة وحدها أكثر من 35 مسجداً سويت بالأرض)!؟<BR><BR>فلا يمكن الفصل بين الإفتاء أو مواقف وآراء العلماء وبين الواقع الذي قد يكون سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، بل إن أحد أهداف الحملة الأمريكية على العالم الإسلامي بعد تفجيرات 11 سبتمبر هي أن تحول الدين إلى مجرد حديث عن الطهارة وكيفية دخول دورات المياه دون الحديث عن دور العالم المسلم التاريخي في تغيير الباطل وقيادة الأمة إلى النهضة.<BR><BR>ولا يعني هذا أن علماء الأمة في مصر وغيرها من دول العالم، خصوصاً علماء المؤسسات الدينية الكبرى، مثل: الأزهر أو أم القرى وغيرها مقصرون أو هم مع العدوان والغزو، ولكن القضية أن الإعلام الحكومي في البلدان العربية – وبالطبع الإعلام الأمريكي والغربي - يتجاهلهم ولا يستمع لآرائهم، وبعضهم يؤثرون السلامة طالما لم يسألهم أحد الرأي!<BR><BR>وهنا يأتي دور الإعلام الجاد الحقيقي المناصر لقضايا الأمة في إبراز رأي هؤلاء العلماء وإخراجه من تحت الركام، فعندما سأل صحفيون علماء الأزهر عن غزو العراق وإقدام قوات الاحتلال الأمريكي على ضرب المساجد، وقتل الجرحى والمدنيين العزل بمساجد العراق، خاصة ما حدث في الفلوجة، تحدثوا وقالوا: إن هذه جريمة شنعاء تفوق حدود "الإرهاب"، وتوجب على الأمة الإسلامية بلا استثناء التحرك بكل ما أوتيت من قوة لإنهاء احتلال بلاد الرافدين، وقال أحدهم - الشيخ محمد الراوي (عضو مجمع البحوث الإسلامية) في تصريح لموقع "إسلام أون لاين.نت" –: "لقد سئمنا من الكلام والاستنكار؛ إن عدم ولاية المؤمنين بعضهم لبعض هو سبب كل ما يحدث الآن على أرض العراق، والذي فاق كل حد؛ فمن أذن لهؤلاء الأمريكان أن يدخلوا المساجد العراقية التي هي دور عبادة يحرم انتهاكها والاعتداء على روادها، ويجب الدفاع عنها؟! <BR><BR><font color="#0000FF"> أين الخلل؟! </font><BR>والمشكلة – كما يقول المستشار طارق البشري (نائب رئيس مجلس الدولة المصري): "إنه لا يمكن الفصل بين الإفتاء والواقع الذي قد يكون سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً"، وحتى عندما تحدث شيخ الأزهر مع وزير الداخلية الفرنسي إبان أزمة الحجاب في فرنسا، لم يقل له فتوى، ولكنه "اتخذ موقفاً سياسياً فقط " وقال: إنه يحق لفرنسا فرض ما تشاء من نظم قانونية!<BR><BR>وربما لهذا يشدد الدكتور محمد سليم العوا (المفكر الإسلامي) على مسألة عدم الفصل بين ما هو شأن إسلامي "داخلي" وشأن "خارجي" – وفق تبرير شيخ الأزهر لعدم الفتوى في أمور غزو واحتلال العراق – بالنظر لـ "عالمية الإسلام" قائلاً: "إنه لا يجوز لأي شخص ممن ينتسبون إلي دين الإسلام القول بأن منع المسلمة من ارتداء الحجاب في فرنسا شأن لا يعني أحداً سوى الحكومة الفرنسية"، ويؤكد أن " القضية المطروحة للمناقشة مسألة فقهية واضحة لا تحتمل اختلافاً في الاجتهاد فلا يجوز لمن حمله علمه ورضا إخوانه عنه أن يصنع مثلما فعلوا في مؤتمر وزير الداخلية الفرنسي.. _غفر الله لهم_ ".. وبالطبع مثلما يفعل بعض العلماء بصمتهم على قضية احتلال العراق وهدم وتفجير مساجده وقتل المسلمين!<BR><BR>والقضية بالتالي أنه ليس هناك فصل بين الداخل والخارج فيما يخص شؤون الإسلام والإفتاء حتى لو كان الأمر المطلوب الإفتاء فيه شأناً سياسياً؛ لأن الإسلام دين ودولة ولا يعرف الفصل بين الإفتاء والواقع، سواء كان اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً. <BR><BR>وقد ألمح لأهمية هذه العلاقة (بين الأزهر والسياسة) وصعوبة الفصل بين الإفتاء والسياسة عموماً د‏.‏مصطفي الفقي (رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان المصري) في مقال كتبه خصيصاً يوم 7 أكتوبر 2003م إبان أزمة فتوى الأزهر بشأن عم شرعية "مجلس الحكم العراقي" وبعدما فوجئ بمقولة شيخ الأزهر عن قصر الإفتاء على الشأن المصري الداخلي.<BR><BR>حيث شدد د. الفقي على أنه لا يتفهم ما جاء في سياق تبرير التراجع عن فتوى تحريم الاعتراف بمجلس الحكم الانتقالي من أن ذلك شأن عراقي لا علاقة لغيره به؛‏ لأن " هذا يخالف "روح الإسلام الأممي" الذي يرى الأمة من منظور متكامل ولا يفرق بين شعوبها وفقاً للجنسيات أو الحكومات أو حتى الأوطان‏، فما يجري في العراق شأن دولي عام، ومشكلة إقليمية حادة، وهم إسلامي يحمله الأزهر مثلما يحمله المسلمون في كل مكان‏ ".<BR><BR>أزمة احتلال العراق الحالية ومن قبلها أفغانستان وأزمة الحجاب في فرنسا.. كلها مؤشرات هاما على أهمية الدور السياسي للإفتاء في إقرار سياسات داخلية وخارجية بدليل سعي فرنسا لإيفاد وزير داخليتها لاستطلاع رأي الأزهر قبل إصدار قانون تقنين الحجاب في المدارس الفرنسية، وسعي واشنطن لتكميم أفواه المؤسسات الإسلامية عن نقد الدور الذي تلعبه في العراق، والتدخل لقمع مؤسسات دينية في العالم العربي عن إبداء الرأي فيما يخص الاحتلال في العراق.<BR><BR><font color="#0000FF"> الإفتاء والسياسة في مصر: </font><BR>والحقيقة أنه يساعد على الربط بين الإفتاء والسياسة في مصر وغيرها صدور عدة مواقف من عدد من شيوخ الأزهر السابقين ومفتين تواكب سياسة الدولة المصرية، مثل: ترحيب (شيخ الأزهر الأسبق) عبد الرحمن بيصار بمعاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979م، وتحليل (شيخ الأزهر الحالي) سيد طنطاوي فوائد البنوك وغيرها، بل إن الشيخ طنطاوي أكد في أحاديث صحفية إبان أزمة استقباله (السفير الإسرائيلي السابق في مصر) تسفي مزائيل عام 1997م أنه أتصل بالحكومة المصرية ليسأل هل يستقبل السفير الإسرائيلي الذي طلب لقاءه أم لا؟!!<BR><BR>كما ساعد على طرح هذا الدور السياسي للإفتاء أكثر أن آراء علماء هذه المؤسسة العريقة، سواء كان مفتي مصر أو شيخ الأزهر أو بيانات مجمع البحوث الإسلامية، بدأت تلعب دوراً في حسم العديد من المواقف تجاه أحداث داخلية وعالمية كثيرة، مثل: القضية الفلسطينية والموقف من العمليات الاستشهادية، وقضية احتلال العراق والموقف من مجلس الحكم الذين عينه الاحتلال، فضلاً عن قضايا الحجاب في دول أوروبا وغيرها.<BR><BR>وقد سعى د. طنطاوي مؤخراً (ترتيب شيخ الأزهر في مراسم بروتوكول الدولة المصرية في منزلة نائب رئيس الوزراء)، عبر فكرة قصر الإفتاء على الداخل المصري، للخروج من هذه الدائرة بعدما تسببت الكثير من فتاوى لجنة الإفتاء بالأزهر ومجمع البحوث الإسلامية في مشاكل للشيخ طنطاوي نفسه مع الحكومة المصرية التي اتهمتها دول خارجية مثل أمريكا بتحريض الأزهر ضدها كونه مؤسسة رسمية تابعة للسلطة السياسية.<BR><BR>ولكن لأن هناك علاقة تاريخية وعضوية قوية بين الإفتاء والسياسية أو الأزهر والسياسة، فلم يفلح الشيخ نفسه في التخلص منها، واضطر إلى التدخل في قضية حجاب مسلمات فرنسا والإدلاء برأي أغضب علماء الأزهر، رغم أنه سبق أن أكد قبلها بأيام قليلة أن الإفتاء قاصر على الداخل، وأنه لا يجوز لعلماء الأزهر الإفتاء في الشأن العراقي!<BR><BR>ففي شهر فبراير 2003م، وقبل احتلال القوات الأمريكية للعراق، صرح الشيخ علي أبو الحسن (رئيس لجنة الفتوى بالأزهر حينئذ) بفتوى يؤكد فيها "وجوب قتال القوات الأميركية إذا دخلت العراق، وأن دماء الجنود الأميركيين والبريطانيين تعد في هذه الحالة حلالاً، كما أن قتلى المسلمين يعدون شهداء، وقد أشيع وقتها أن أمريكا احتجت على هذه الفتاوى؛ لأنها تحرض ضدها فتمت إقالة الشيخ أبو الحسن وتعيين غيره.<BR><BR>والحقيقة أن شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي سبق أن أصدر عدة تصريحات تدور حول رفض هذا العدوان معتبراً أن مقاومة العدوان واجباً شرعياً، ولكن إقالته لرئيس لجنة الفتوى عقب تصريحاته ضد الحرب أثارت السؤال عن حقيقة الأمر، وهل هو مجرد إجراء إداري لا علاقة له بتصريحات الشيخ أبو الحسن عن الحرب، أم أن هناك أسباباً سياسية وراء الإقالة.<BR><BR>وفي العاشر من مارس 2003م أصدر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بيانًا يحض فيه جميع المسلمين على الجهاد ضد القوات الأمريكية الغازية إذا بدأت في حربها ضد العراق،ويعد هذه الحرب (صليبية)، ومع أن شيخ الأزهر لم يوقع على البيان رسمياً كما أن المجمع هو المنوط به الإفتاء في المسائل السياسية، فقد توالت الضغوط من السفارة الأمريكية ومن كنائس غربية بشكل دفع شيخ الأزهر للتراجع جزئياً عن البيان ورفض وصف حرب العراق بأنها (حرب صليبية).<BR><BR>ثم تكشف أن الإدارة الأمريكية هي التي احتجت على وصف بيان مجمع البحوث الإسلامية حربها الحالية على العراق بأنها صليبية، وأنها تدخلت بقوة لوقف ما اعتبرته (تحريض ديني) ضدها؟!<BR><BR>وأثار البيان انتقادات واسعة في الخارجية الأمريكية قامت على إثرها بإعداد تقرير عاجل إلى البيت الأبيض وصفت فيه الأزهر بأنه أحد أعلى المؤسسات الدينية في العالم العربي وأن آراء الأزهر الدينية تكون محل احترام وتقدير ليس من المسلمين العرب فحسب ولكن من كل مسلمي العالم.<BR><BR>وجاء في تقرير الخارجية الأمريكية الذي نشرته صحيفة "الأسبوع" المصرية أن: "الأزهر بصفته مؤسسة دينية مصرية كان من المفترض ألا يشجع على الإرهاب ضد القوات الأمريكية فهذه المؤسسة الدينية المصرية تجاهلت الفظائع والأهوال غير الإنسانية التي ارتكبها الرئيس العراقي في حق شعبه كما أنه أي الأزهر لم يصدر أية إدانة للرئيس العراقي في مجال أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها".<BR><BR>ودعا التقرير الذي أعده ريتشارد سكوتي، وهو أحد مستشاري الخارجية الأمريكية الإدارة الأمريكية بأن تتدخل بحسم لدي الحكومة المصرية حتى يصدر الأزهر بياناً آخر يعتذر فيه عن مثل هذا البيان الإرهابي "وإلا فإن الأزهر يجب أن يكون على قائمة المؤسسات الإرهابية التي تجب محاربتها "!؟<BR><BR>أيضاً في نهاية أغسطس 2003م صدر قرار للشيخ سيد طنطاوي (شيخ الأزهر) بإيقاف الشيخ نبوي محمد العش (رئيس لجنة الفتوى) عن الإفتاء وإحالته للتحقيق؛ لأنه أفتى بعدم شرعية مجلس الحكم الانتقالي العراقي وحرم التعامل معه، وأكد شيخ الأزهر أن الفتوى التي صدرت (ممهورة بشعار خاتم الجمهورية المصري وشعار الأزهر) لا تعبر عن الأزهر الذي لا يتدخل في السياسة وسياسات الدول (كما قال)!<BR><BR>وجاءت هذه الضجة عقب لقاء تم بين السفير الأمريكي بالقاهرة وشيخ الأزهر قيل: إنه تطرق للفتوى الصادرة، وقيل: إن شيخ الأزهر اضطر تحت الاحتجاج الأمريكي للتراجع وإعلان إن الفتوى التي صدرت لا تمثل الأزهر.<BR><BR>وقد قال الشيخ العش وقتها – لمجلة المصور المصرية 5 سبتمبر 2003م: إنه لو علم أن هذا السؤال (الفتوى التي وجهت له) سيحدث كل هذه الضجة ما أجاب عليها إطلاقاً(!)، وقال: إن (التعليمات) بعدم التعرض للأمور السياسية (في لجنة الفتوى) كانت بشأن المستقبل، وأن (كلام شيخ الأزهر ماشي على رقبتي)!؟ <BR><BR>كما أكد الشيخ أبو الوفا أبو عجور (وكيل الأزهر) أنه صرخ فيه (أي الشيخ العش) عقب فتواه وقال له: (مالك أنت ومال العراق..لازم تاخد بالك من حدودك في الفتوى )!؟<BR><BR>والمشكلة كانت هي قول الشيخ طنطاوي: إنه ليس من حق لجنة الفتوى الإفتاء بأمور سياسية أو بشؤون دول أخرى، خصوصاً أن هذا الدور لا يعود إلي أزمة العراق أو فلسطين، ولكن يعود إلى تاريخ نشأة الأزهر نفسه قبل أكثر من ألف عام ودوره السياسي المتعارف عليه ودوره في طرد الاحتلال الفرنسي والإنجليزي لمصر.<BR><BR>وقد ربط محللون سياسيون بين فتوى طنطاوي بعدم الإفتاء في شؤون العراق والعلاقة بين الإفتاء والسياسة في مصر، وقالوا: إنه حتى عندما رفض شيخ الأزهر الإفتاء في الشأن العراقي كان يخدم السياسة الرسمية المصرية(!) من زاوية أنه كان من الواضح أن هناك تراجعاً في الموقف المصري عموماً - في ظل الضغوط الأمريكية المكثفة علي مصر والدول العربية - للاعتراف بمجلس الحكم العراقي، وهو ما تم لاحقاً وجرى استقبال أعضائه رسمياً ثم الاعتراف بحكومة العراق الموالية للاحتلال من قبل كل الحكومات العربية!<BR><BR>يجب أن يكون هناك بالتالي دور سياسي لعلماء الأمة في كل ما يخص الأمة من شؤون سياسية أو دينية أو اقتصادية أو اجتماعية؛ لأنه لا فصل بين الدين والدولة في الإسلام، ويجب أن يصدع علماء وقادة الأمة الدينيين بآرائهم في احتلال أرض المسلمين في العراق وأفغانستان وفلسطين فهذا هو دورهم الطبيعي الذي لا خلاف عليه لكل من يفهم حقيقة الإسلام!.<BR><br>