مشاهدات ميدانية في صحبة المقاومة العراقية
1 ربيع الأول 1425

لا تزال مدينة الفلوجة تحتل مكانة الصدارة في وسائل الإعلام، وذلك بفعل المقاومة العنيفة التي يخوضها المقاتلون العراقيون هناك ضد قوات الاحتلال الأميركية، والتي تحاول عبثاً إحكام السيطرة على المدينة ودخولها، وبالرغم من سقوط مئات القتلى من سكان هذه المدينة نتيجة القصف الأميركي، إلا أن الوضع الميداني يبرهن بصورة لا تقبل الشك، أن المقاتلين مسيطرون على الوضع الداخلي في الفلوجة والمناطق الأخرى المحيطة بها. <BR><BR>وقد ظهر العجز العسكري الأميركي من خلال استخدام مقاتلات "إف16"، بعد فشل المروحيات والدبابات في إخماد شدة هذه المقاومة، وبعد الخسارة المعنوية والبشرية التي ألحقها المقاومون بقوات الاحتلال الأميركي. إضافة إلى ذلك يظهر هذا العجز أيضاً، من خلال رفض جنود أميركيين الذهاب إلى الفلوجة لمواجهة المقاتلين.<BR><BR>وإذا كانت الفلوجة أصبحت عناوين رئيسة مهمة لوسائل الإعلام، إلا أن الأطراف الغربية من هذه المدينة، هي في الحقيقة أهم من هذه العناوين. ذلك أنها المركز الرئيس لرجال المقاومة، الذين يحمونها، والذين أوقعوا خسائر جسيمة بجنود ومروحيات وآليات القوات الأميركية. <BR>وقد استطعت الدخول إلى هذه المنطقة والتحدث إلى مقاتلين هناك، وشاهدت كيف يحرق هؤلاء الآليات الاميركية، وكيف يهرب من يظل على قيد الحياة من الأميركيين تاركين قتلاهم هناك.<BR><BR><font color="#0000FF"> سلاح عراقي مطور: </font><BR>لم تكن الطريق المؤدية إلى منطقة "القرمة" الواقعة في ذراع دجلة غربي بغداد، والممتدة من منطقة "التاجي" إلى منطقة "الثرثار"، منطقة سهلة وآمنة، فكل المؤشرات كانت تدل على أن هذه المنطقة خطيرة جداً كونها تقع في أطراف الفلوجة، وتعد خطاً دفاعياً مهماً لها. <BR><BR>في تمام العاشرة صباحاً من ذلك اليوم المشمس الحار لم تكن حركة السير طبيعية، وكان كل سائق يمر من هذه المنطقة يتوقع تساقط قذائف أمريكية بين لحظة وأخرى. على الطريق شاهدت سيارات من نوع "شفروليه" بيضاء اللون وبدون أرقام تجوب الشارع الرئيس ذهاباً وإياباً وبداخلها شباب ينزلون من سياراتهم بسرعة، وهم ملثمون ويحملون السلاح (كلاشينكوف) عندما يراودهم الشك في سيارة ما. لقد التقيتهم بالضبط على مفرق "القرمة". اصطحبني اثنان منهم (ملثمان)، وهما شابان دون الخامسة والعشرين من العمر، وذلك في منطقة على عمق عشرة كيلو مترات. هناك كان ينتشر مقاتلون في البساتين الموجودة على جانبي الطريق، مقاتلون يحملون إلى جانب "الكلاشينكوف" أسلحة أخرى، كانوا يرتدون دروعاً يحوي كل درع أربع قذائف من نوع "آر.بي.جي30" أسقط بها المقاتلون مروحيات أمريكية ودمروا بها آليات عسكرية. قال لي المقاتل مجاهد: "انظر إلى هذه الدبابة التي لا يزال الدخان يتصاعد منها، لقد تم إحراقها قبل ساعتين"، ثم اصطحبني إلى مكان آخر أحرق فيه المجاهدون آلية عسكرية. وقف مقاتلان على جزء متبق منها ورفعا إشارة النصر. <BR><BR>وكانت المفاجأة عندما قال لي مجاهد: "تعال معي لترى كيف يترك الأمريكيون قتلاهم"، فعلى بعد حوالي خمسمائة متر من الشارع الرئيس وعلى مفرق "القرمة"، اصطحبني ثلاثة مقاتلين في سيارتهم إلى مكان رملي. نزلت من السيارة، وقال لي أحدهم: "انظر، هذه جثة جندي أميركي، تركوه ملقى هنا وهربوا"، ثم أضاف: "لقد تم قتله فجر هذا اليوم، وهذه شهادة واضحة على جبنهم وعجزهم حتى في نقل قتلاهم".<BR>قال لي مجاهد: إن السلاح الذي يستخدمونه ضد الآليات العسكرية الأمريكية وضد المروحيات هو سلاح مطور، قام بتطويره خبراء عسكريون عراقيون.<BR><BR>وردّاً على سؤالي عما إذا كانت هذه الأسلحة تقدم للمقاتلين كدعم من بلد عربي، أم يتم شراؤها أجاب مجاهد: "عندنا كميات كبيرة من الأسلحة ولسنا بحاجة إلى الشراء".<BR>وبالرغم من إني سمعت مقاتلاً يتحدث مع زميل له بلهجة فلسطينية، وآخر بلهجة سورية، إلا أني طرحت سؤالاً آخر عما إذا كان هناك مجاهدون غير عراقيين يقاتلون معهم، وقد كان محدثي "دبلوماسياً" في إجابته عندما قال: "كل مواطن عربي شريف يغار على كرامة الأمة والأرض يقاتل معنا"، ثم أضاف وكأنه تذكر شيئاً: "نقوم بعمليات ضد قوات الاحتلال الأمريكي نطلق عليها اسم الشهيد الشيخ أحمد ياسين".<BR><BR><font color="#0000FF">الخراب الشامل يسيطر على بغداد: </font><BR>وصلت العاصمة العراقية في السابعة مساء، وكنت أعتقد أن بغداد ستكون نائمة بسبب الأحداث، لكنها كانت تعج بالناس وبالسيارات الكثيرة التي ملأت الشوارع لدرجة أن هذه الشوارع لم تعد بالفعل تتحمل هذا الكم الهائل من السيارات، شوارع بغداد وبدون استثناء صارت غير صالحة، ورغم الحركة القوية للناس وللسيارات، والتي لا تطاق إلا أن هذه الحركة تتلاشى تدريجياً، لتنعدم كلياً في التاسعة ليلاً.<BR><BR>أوصلني السائق إلى منطقة "الأعظمية" ذات الأغلبية السنية، والتي طالما جاهر أهلها بولائهم للرئيس العراقي السابق صدام حسين. هذه المنطقة كانت قبل سقوط النظام مقر الكثير من الوزراء والشخصيات العراقية الأخرى وبعض رجال الأعمال، الذين بنوا فيها قصوراً تقع مداخلها الثانية على ضفاف نهر دجلة، فهناك مثلاً قصر القيسي، الذي أصر صاحبه ذات يوم (وهو رجل أعمال) أن يقدمه هدية لصدام حسين، ويقال: إن هذا القصر هو أحد أجمل عشرين قصراً في الخليج العربي، وفي منطقة الأعظمية، توجد فيلا جميلة قيل لي: إنها للعالمة هدى صالح عماش، التي لا يزال الأمريكيون يحتجزونها؛ لأنها أحد العلماء المهمين في عهد النظام السابق، والتي كانت أحد أركانه، وبجانب هذه الفيلا قصر صغير لوزير الثقافة السابق همام عبد الخالق، الذي ترفض القوات الأمريكية إطلاق سراحه.<BR><BR><font color="#0000FF">جناح رشيد الكيلاني: </font><BR>وقفت السيارة التي كنت أستقلها أمام قصر رائع جميل، وطلب مني النزول. أتى إلينا مسلحون، وقال لهم السائق: "وصل الضيف". عرفني أحدهم بنفسه قائلاً: "أنا نبيل المسؤول الأمني عن القصر"، ثم أوعز إلى شاب مسلح معه لمرافقتي إلى الجناح الذي تم تخصيصه لي في القصر.<BR>تذكرت وأنا أصعد السلم تاريخ العراق والعهد العباسي الذي مرت به بغداد، والذي يسمى العصر الذهبي، كنت أتوقع أن أنزل في فندق من الدرجة الأولى أو في بيت خاص، لكني لم أكن أتوقع أن أنزل في هذا القصر الذي كان يملكه (رئيس الوزراء العراقي الأسبق) رشيد الكيلاني، الذي قاد ثورة الأربعينيات ضد الإنجليز وأخرجهم من العراق. هذا القصر هو في الحقيقة متحف قائم بذاته، إن كان في شكله أو في محتوياته، وكل شيء فيه يدل على عظمته وأهميته، ولقد فوجئت عندما قال لي نبيل: إن الجناح المخصص لي كان الجناح المفضل للمناضل رشيد الكيلاني !<BR><BR><font color="#0000FF">مدينة نفايات ودبابات وأشباح! </font><BR>بعد سقوط صدام حسين، اعتقدت غالبية العراقيين أن عهد الظلم والقمع قد ولى، وأن عهداً جديداً "ديمقراطياً" قد انفتح أمام الشعب العراقي، الذي ظن أن الأمن والاستقرار سينفتح له بقدوم الأميركيين، لكن هذه الصورة، بل هذا الحلم لم يتحقق للمواطن العراقي، فكل ما يدور هناك الآن هو ضد "الديمقراطية" وضد "الحرية"، فشوارع بغداد تمتاز بأمرين: النفايات والآليات العسكرية الأميركية، فأينما يوجه الإنسان نظره يرى أكواماً من النفايات هنا أو هناك، ويرى آليات عسكرية أمريكية فيها جنود عيونهم ثاقبة وسلاحهم موجه نحو الشعب. هذه الصورة لم تكن موجودة في عهد صدام "الدكتاتوري" الذي كان - كما يقول حتى أعداؤه - حريصاً على أن تبقى بغداد نظيفة، لكن الأمريكي لم يجلب معه القتل والدمار فقط، بل بسببه أصبحت بغداد عاصمة نفايات وعاصمة الدبابات الأميركية في الخليج، وتجوب هذه الدبابات العاصمة العراقية طيلة أربع وعشرين ساعة، وفي الليل تكون بغداد أشبه بمدينة أشباح، فبعد التاسعة مساء تخلو كلياً من السيارات والمارة، بسبب الوضع الأمني المتردي.<BR><BR>ملاحظة أخرى لا بد من ذكرها، وهي أن الكهرباء تقطع كل ساعتين في بغداد لنصف ساعة أحياناً، كما لفت انتباهي عدم رؤية أي فتاة عراقية في شوارع بغداد، وهي ظاهرة غير مألوفة في العواصم العربية، وقد عرفت فيما بعد أن الخوف على البنات هو سبب ذلك؛ لأن عمليات خطف الفتيات منتشرة في العاصمة العراقية، ولذلك أصبح من المستحيل على أي عائلة عراقية أن تترك بناتها يخرجن إلى الشوارع.<BR><BR>قال لي المسؤول الأمني نبيل: "إن سيارة ومرافقاً صحفياً سيكونان تحت تصرفي، وكنت أشعر أن الطاقم الأمني في القصر يوليني اهتماماً أمنياً غير عادي، وكانت تعليمات تم توجيهها إليهم، من قيادة تحالف القبائل العراقية التي استضافتني أن يكونوا على يقظة تامة في حمايتي والاهتمام بي، ولمست هذا الاهتمام خلال ذهابي لإجراء أول مقابلة صحفية أجريتها مع رئيس حزب التيار الإسلامي الديمقراطي، أحد أهم أربعة أحزاب في العراق، وعلى الطريق كان على السائق التزود بالوقود، فدخلنا إلى محطة بنزين، وقد استغربت عندما رأيت شرطة عراقية على مدخل محطة البنزين، وعرفت أن أفراد هذه الشرطة موجودون أمام كل محطة بنزين في بغداد للحماية وللحفاظ على "قانون التزود بالوقود"، والذي ينص على تخصيص يوم للسيارات ذات الرقم الزوجي ويوم للسيارات ذات الرقم الفردي، والحقيقة أن سعر البنزين هو أرخص شيء في العراق يمكن شراؤه؛ لأن سعر لتر البنزين يبلغ 5 هللات سعودية تقريباً، بينما يبلغ ثمن حبة تفاح واحدة 1.5 ريال، الموزة الواحدة 2.5 ريال! ولذلك توجد سوق أخرى متجولة لبيع التفاح والموز والفواكه الأخرى مخصصة لأطفال موجودون على الطرقات الرئيسة التي تربط بغداد بالضواحي، يحمل كل منهم خمس أو ست تفاحات، وعشر موزات ويعرضونها على السائقين بأسعار أقل.<BR><BR>تحدثت مع شرطي عراقي حول سبب هذه الظاهرة، فأخبرني أن الموز والتفاح كانت فواكه "نادرة" شعبياً أيام صدام حسين، ولم تكن مثل هذه الفواكه موجودة من قبل في الأسواق نهائياً، ولذلك فإن توافرها في الأسواق أمر غير عادي للمواطن العراقي الذي لا يزال عاجزاً عن شراء كيلو موز ولو مرة في الأسبوع.<BR><BR><font color="#0000FF">عند القبائل: </font><BR>القبائل والعشائر العراقية تشكل التركيبة العقلية للمجتمع العراقي، ولا تزال قوانينها وعاداتها سارية المفعول بغض النظر عن وجود قانون في الدولة أو عدم وجوده. الأميركيون عرفوا ذلك متأخراً، وقاموا باستدعاء البعض من قيادات هذه العشائر وبالأحرى الأمراء فيها، وأجرت معهم لقاءات في واشنطن.<BR><BR>الأمير سعد المطلق (أمير قبيلة السمرمد، أكبر القبائل العراقية) كان أحد الأشخاص الذين طلبت منهم الإدارة الأميركية السفر إلى واشنطن لإجراء مشاورات هناك.<BR>قال الأمير سعد: "إن واشنطن هدفت إلى إقناعي للتعاون معها بشأن الأوضاع الأمنية ولا سيما في الفلوجة، لكني كنت واضحاً معهم، وأفهمتهم "أن تسليم السلطة للعراقيين هو العملية الوحيدة لتخليصكم من عمليات المقاومة". خلال دعوة للغداء أقامها الأمير وضمت شخصيات قبلية وعشائرية أخرى، تبين لي أن قوات الاحتلال الأمريكية، قامت بتوزيع بطاقات شخصية ممغنطة على المقربين والمتعاونين معها، مكتوبة باللغتين العربية والإنجليزية، وعليها صورة الشخص، وتتضمن النص التالي: "إن السيد (...) معترف به رسمياً من قبل قيادة سلطة التحالف في العراق" ! ويبدو أن هذه العشائر والقبائل التي كان لها دور أيضاً في دعم صدام حسين، الذي كان ينعم عليها بين الحين والآخر بـ"مكافآت" مادية بالملايين، تحاول اليوم أيضاً أن تجد لها مكانة في الجو السياسي الجديد الذي خلقه الاحتلال الأميركي في العراق، والواضح أن سلطة الاحتلال فهمت ذلك، وتريد استيعاب قيادة القبائل وعدم إهمالها.<BR><BR>الأمر الأخير الذي لفت انتباهي كان أن الشارع العراقي لا يكن محبة لإيران، ولمست ذلك ليس بين فئة واحدة فقط، بل بين شرائح عادية من المجتمع العراقي، فالكثير يتهم إيران بأنها لا تريد استقرار العراق، وأنها المستفيد الرئيس من زعزعة الأمن فيه.<BR><br>