كيف قضت الولايات المتحدة على "أونسكوم"؟
8 صفر 1425

حسب واشنطن ولندن، فإن الحرب على العراق مبررة بالتراكم المزعوم لأسلحة الدمار الشامل العراقية. ولكن الواضح هو أن السياسة الأمريكية والبريطانية لم تكن تركز على التهديد الناشئ من أسلحة العراق المشبوه فيها، فالولايات المتحدة خاصة فعلت الكثير لإتلاف نظام التفتيش على مدى سنوات قبل الحرب، ومن ذلك القضاء على اللجنة الخاصة للأمم المتحدة (أونسكوم). </br> </br><font color="#0000FF"> القرار رقم(687): </font> </br>فرضت العقوبات الاقتصادية على العراق أول مرة في أغسطس 1990م، وذلك بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم (661)، لتأمين انسحاب القوات العراقية من الكويت. وفي 3 إبريل 1991م، أي بعد مضي أكثر من شهر على طرد القوات العراقية من الكويت، أعيد فرض العقوبات على العراق، في واحد من أطول القرارات وأكثرها تعقيدا: القرار رقم (687). </br>والمطالب الأساسية المعلنة في الفقرتين (8) و(12) منه، هي أنه يحب على العراق أن "يقبل" دون أي شرط، القيام تحت إشراف دولي بتدمير ما يلي أو إزالته أو جعله عديم الضرر:<BR>1- جميع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وجميع مخزونات العوامل الكيميائية، وجميع ما يتصل بها من منظومات فرعية ومكونات، وجميع مرافق البحث والتطوير والدعم والتصنيع. </br>2- جميع القذائف الباليستية التي يزيد مداها على 150 كيلو مترا، والقطع الرئيسية المتصلة بها، ومرافق إصلاحها وإنتاجها. </br>3- أسلحة نووية أو مواد يمكن استعمالها للأسلحة النووية أو أي منظومات فرعية أو مكونات أو أي مرافق بحث أو تطوير أو دعم أو تصنيع تتصل بما ذكر أعلاه. </br>لاحظ أنه لم يكن من الواجب تدمير أو إزالة هذه المواد، إذ كان من الممكن "جعلها عديمة الضرر تحت إشراف دولي". وكان في إمكان مراقبة طويلة الأمد ضمان أن المرافق المشبوه بها "جعلت عديمة الضرر" من دون تدمير معدات يمكن أن يكون لها استعمالات مدنية. </br>وكان القرار رقم (687) هو الذي أنشأ وكالة التفتيش الجديدة الخاصة بالعراق، أي اللجنة الخاصة للأمم المتحدة (أونسكوم). وقد أنشئت أونسكوم لمراقبة نزع العناصر الثلاثة الأولى من أسلحة الدمار الشامل العراقية والتثبت من ذلك، وكان من المقرر أن تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش برنامج الأسلحة النووية ومراقبته. </br> </br><font color="#0000FF"> الفقرة رقم (22): </font></br></br>أعلن القرار معايير مختلفة للسلوك العراقي من أجل رفع العقوبات المفروضة على الاستيراد والتصدير. وقالت الفقرة رقم (21) إن مجلس الأمن سيرفع القيود على السلع المستوردة إلى العراق بعد درس "سياسات حكومة العراق وممارساتها، بما فيها تطبيق جميع حلول مجلس الأمن ذات الصلة".<BR>وتمسكت الولايات المتحدة وبريطانيا بعبارة "جميع الحلول ذات الصلة" لتوسيع نطاق المطالبات التي ستفرض على بغداد. كما أن الفقرة كانت مبهمة للغاية في استحضارها "سياسات وممارسات" الحكومة العراقية.<BR>وكانت الفقرة رقم (22) من القرار، والخاصة بالقيود المفروضة على الصادرات العراقية و"التعاملات المالية المتعلقة بها" أوضح كثيرا. إذ قالت الفقرة أن هذه العقوبات سترفع حالما يمتثل العراق لقرار نزع أسلحة الدمار الشامل تحت الإشراف الدولي، ويقبل برنامج مراقبة طويل الأمد، تحت إشراف دولي أيضا.<BR>وقد دافعت موسكو وباريس بقوة عن أهمية الفقرة رقم (22). إذ كان الرأي الروسي يفيد بأنه "حالما يرفع رئيس أونسكوم تقريرا إيجابيا، توظف الفقرة رقم 22 عندئذ، سامحة بمبيعات نفط بلا حدود". وبمرور السنين، وصلت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى موقف مغاير. فبحلول سنة 1994م، افترضت الولايات المتحدة وبريطانيا وجوب بقاء العقوبات على حالها إلى أن يتم الامتثال لـ"جميع القرارات ذات الصلة"، واختارتا تجاهل أو التقليل من أهمية المتطلبات المنفصلة للفقرة رقم (22). <BR>وفي إبريل 1994م كتب وزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر في جريدة "نيويورك تايمز": "الولايات المتحدة لا تعتقد أن امتثال العراق للفقرة رقم 22 من القرار رقم 687 كاف لتبرير رفع الحظر". وفي مارس 1997م، أعيد تأكيد هذا الموقف على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت، التي قالت إنه حتى لو نزعت أسلحة العراق، فإن العقوبات الاقتصادية لن ترفع ما دام صدام حسين في السلطة!. وعلق مفتش الأسلحة السابق سكوت ريتر بمرارة قائلا: "لقد انتهك هذا بند قرار مجلس الأمن الضابط لنظام العقوبات وقوض إطار وجود أونسكوم في حد ذاته".<BR></br><BR><font color="#0000FF"> انهيار التعاون: </font><BR>بعد سبع سنوات من أعمال التفتيش والمفاوضات والمراقبة والمواجهة، حققت أونسكوم الكثير في بداية سنة 1998م، أي في السنة الأخيرة من وجودها. ففي شهر فبراير حلت أزمة تفتيش وتم تفادي ضربات جوية بفضل تدخل شخصي من الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان. بيد أن العلاقات بين بغداد وأونسكوم استمرت في التدهور، الأمر الذي أدى إلى وقف التعاون العراقي في نهاية أكتوبر 1998م.<BR>وكانت الشرارة الحاسمة لانهيار العلاقات رسالة من مجلس الأمن في 30 أكتوبر، ردا على طلب عراقي للحصول على توضيح. وكان عدة أعضاء من مجلس الأمن يطرحون فكرة "مراجعة شاملة" لجهود العراق في مجال نزع الأسلحة في محاولة لإحياء وشحذ عملية التفتيش. وكان ثمة انطباع مؤداه أن المفتشين كانوا في المرحلة الأخيرة. وكان من شأن إطار المراجعة الشاملة الذي اقترحه عنان أن يحول عبء تقديم برهان من العراق إلى متهمي العراق الذين كانوا سيضطرون إلى عرض دليل على عدم امتثال العراق. كما كان من شأنه أن يطلب جدولا زمنيا معقولا لجهود نزع الأسلحة، ويضع بالتالي حدا لمدة صلاحية جانب التصدير من جوانب العقوبات الاقتصادية. وشرعت الولايات المتحدة وبريطانيا في تقويض المقترح البناء. <BR>وقد جاءت الرواية الرسمية للأحداث على لسان غراهام براون المتخصصة في نظام العقوبات، إذ كتبت السفيرة البريطانية، بوصفها رئيسة لمجلس الأمن في ذلك الشهر، رسالة إلى بغداد في 30 أكتوبر 1998م أعلنت فيه موقف مجلس الأمن من المراجعة الشاملة. وفي اليوم التالي، أمر العراق بإنهاء التعاون مع أونسكوم، الأمر الذي أدى إلى مناكفة حادة مع الوكالة، التي سمح لها مع ذلك بمواصلة أعمال التفتيش بعد مدة من الزمن. وكان يراد من عرض كوفي عنان بشأن مراجعة شاملة للعقوبات أن يكون بمثابة "جزرة" تفضي إلى الامتثال العراقي، إلا أن بغداد رفضته.<BR>كانت الأمور على أرض الواقع أكثر تعقيدا. فرسالة 30 أكتوبر التي صدرت عن السفيرة البريطانية عدلت كثيرا من الإطار الذي اقترحه كوفي عنان. ويلاحظ رئيس أونسكوم آنذاك، ريتشارد بتلر، في مذكراته أنها "أزالت على وجه الخصوص الضمانة القاضية بتحرير العراق من العقوبات في تاريخ محدد". وعلاوة على ذلك، قامت الرسالة أيضا إلى حد ما بإعادة إلقاء عبء تقديم البرهان على العراق، وهو العبء الذي سعى اقتراح الأمين العام لتحويله إلى أونسكوم. <BR>إلا أن رواية بتلر تتجاهل الجانب الأدق من الرسالة. فقد طرح العراق عددا من الأسئلة حول نظام التفتيش الجديد، وحول المراجعة الشاملة، مستفسرا على الأخص عما إذا كان إتمام مهمات نزع الأسلحة ستؤدي إلى رفع العقوبات الاقتصادية. وغراهام براون لا تشير إلى أن قرار صدام بشل أونسكوم ناجم عن رفض الولايات المتحدة بصراحة إلزام نفسها برفع الحظر عن النفط إذا امتثل العراق لمقتضيات نزع الأسلحة كما اشترطت الفقرة رقم (22) من القرار رقم (687). <BR>وفي وقت لاحق قالت بريطانيا والولايات المتحدة أنه لا بديل من استخدام القوة ردا على العرقلة العراقية. لقد كان هناك بديل، وهو إعادة تأكيد بنود قرار مجلس الأمن رقم (687)، فهذا القرار لم تخربه بغداد في أكتوبر 1998م، بل خربته لندن وواشنطن. وكانت العاقبة ضربة خطرة وجهت إلى عملية تفتيش الأسلحة، وانهيار مبادرة المراجعة الشاملة، ومزيدا من الضحايا وتدمير الأملاك، ووفاة أونسكوم!.<BR><BR><font color="#0000FF"> استئناف التعاون: </font><BR>بدا أن إعلان بغداد عدم تعاونها في 31 أكتوبر تهيئة للمسرح من أجل المواجهة العسكرية التي أجلت في فبراير. فقد سحب أعضاء أونسكوم من العراق في 11 نوفمبر بأمر من الولايات المتحدة. وفي 14 نوفمبر استأنف العراق التعاون مع أونسكوم والوكالة الدولية للطاقة الذرية. <BR>لقد سقطت من كتب التاريخ إعادة بغداد التعاون مع أونسكوم في 14 نوفمبر، وقبول مجلس الأمن ذلك رسميا في 15 نوفمبر، حيث أن المريح أكثر هو الذهاب مباشرة من 31 أكتوبر 1998م "العراق ينهي جميع أشكال التعاون مع أونسكوم" إلى 16 ديسمبر "اللجنة الخاصة تسحب أعضاءها من العراق" كما حدث في ترتيب جريدة "الجارديان" الزمني لانهيار عمليات التفتيش. ومن الممكن أن يكون لعملية "ثعلب الصحراء" معنى أبلغ إذ قال المرء ببساطة إن العراق أعاق المفتشين، وجعلهم محبطين أو أن العراق "طردهم" في الرواية الأكثر خيالية للأحداث. وأنه لم يكن أمام الولايات المتحدة وبريطانيا من خيار سوى استخدام القوة. لكن الحقيقة هي أن عمليات أونسكوم استؤنفت في 18 نوفمبر 1998م، وأن معظمها تم من دون أي حادث، كما سنرى تباعا.<BR><BR><font color="#0000FF"> مواقع حساسة: </font><BR>كان ثمة عامل مهم آخر في انهيار العلاقات بين أونسكوم وبغداد هو الخلاف بشأن كيفية تفتيش "مواقع حساسة" لا صلة مباشرة لها بصناعة أسلحة دمار شامل.<BR>في يونيو 1996م، وبعد خلافات بين الحكومة العراقية وأونسكوم بشأن تفتيش مثل هذه المواقع، ناقش رئيس أونسكوم آنذاك، رولف إيكيوس، مجموعة إجراءات خاصة مع بغداد في ما يتعلق بتفتيش مواقع اعتبرها العراقيون "حساسة" من زاوية أمنهم القومي وكرامتهم وسيادتهم الوطنية. وبحسب مفتش أونسكوم السابق سكوت ريتر، كان ضمن المواقع الحساسة وزارات مختلفة ومرافق للحرس الجمهوري والحرس الجمهوري الخاص، ومكاتب أربعة أجهزة أمنية واستخباراتية رئيسية.<BR> <BR>كانت الصفة المميزة لهذا الاتفاق هي السماح لأربعة مفتشين فقط بدخول العقار المشبوه فيه خلال تفتيش "موقع حساس". لكن في ضوء حجم بعض المواقع الحساسة، الرئاسية والسكنية، قام ريتشارد بتلر، خليفة إيكيوس في رئاسة أونسكوم، بالتفاوض بشأن اتفاق إضافي جديد في منتصف ديسمبر 1997م. وكان يمكن السماح لمزيد من المفتشين بدخول مواقع حساسة "إذا كان الموقع يسوغ ذلك، كما قرر على أساس كل حالة على حدة".<BR><BR>وفي 23 فبراير 1998م تمت الموافقة على مذكرة فرنسية اقترحت شكلا من أشكال الإشراف من دبلوماسيين أجانب رفيعي المستوى على مرافقة فرق أونسكوم عند زيارتهم للمواقع الحساسة. <BR><BR><font color="#0000FF"> مقر قيادة حزب البعث: </font><BR>لم يزعم أحد أن العراق منع تفتيش أي من مصانع الأسلحة، ولكن في 9 نوفمبر 1998م، رفضت السلطات العراقية طلب اثنا عشر مفتشا من أونسكوم الدخول إلى مقر قيادة حزب البعث في منطقة بغداد، وهو طبعا مكتب وليس مصنع.<BR><BR>وقد زعم رئيس أونسكوم، ريتشارد بتلر، في مذكراته لاحقا أن العراقيين قاموا خلال الشهر الأخير من سنة 1997 بنقل "مادة عسكرية حساسة (صواريخ مفككة) ليلا إلى حظيرة كبيرة داخل مجمع مكاتب منطقة الأدهمية في بغداد". ويزعم سكوت ريتر، الذي استقال ككبير مفتشي أونسكوم في أغسطس 1998م لأنه شعر بأن الغرب يحاول الإمساك بزمام أونسكوم، أن "بتلر كتب أنه وقع على دليل قوي على وجود مواد محرمة في مقر قيادة البعث. وإني أعتقد بناء على مصادري أن هذا ليس صحيحا".<BR><BR>ووفقا للرواية في مذكرات بتلر، نص اتفاق ديسمبر 1997م على أنه في الوقت الذي سيسمح لأربعة مفتشين فقط بتفتيش موقع حساس، فإن في الإمكان السماح لمزيد من المفتشين "إذا سوغ حجم الموقع ذلك، كما تقرر على أساس كل حالة على حدة". وكان يرد بهذا أن يشمل حالة القواعد العسكرية الكبيرة، والمقر الإقليمي لحزب البعث لم يكن قاعدة عسكرية كبيرة.<BR>وقد طبقت السلطات العراقية فعلا وبصورة حاسمة اتفاق "المواقع الحساسة"، إذ سمحت لأربعة مفتشين بدخول ساحة مبنى مقر القيادة - المفترض أنها مخبأ مكونات الصواريخ المفككة - انسجاما مع اتفاق 1996م. وقد أهمل بتلر في روايته بشأن الحادثة التفصيلات الحساسة المتعلقة أولا بأن أربعة مفتشين سمح لهم بدخول الموقع، وثانيا بأن العراقيين صرفوا فقط مجموعة من اثني عشر مفتشا لأن عددهم يفوق العدد المتفق عليه.<BR><BR>صورت هذه الحادثة الحاسمة بأنها حالة صريحة من حالات التحدي وعدم الامتثال من قبل العراقيين، في الوقت الذي تبدو في الواقع كحالة امتثال لقواعد متفق عليها. والحقيقة الأهم أن العراقيين سمحوا فعلا لمفتشي أونسكوم بتفتيش الموقع المشبوه به.<BR>وكان أغرب جانب في المسألة هو أن تفتيش مقر قيادة حزب البعث كان مطروحا في وقت سابق من السنة، وألغي بأوامر أمريكية، الأمر الذي ساهم مباشرة في استقالة ريتر في أغسطس 1998م. وكان ريتر، بوصفه رئيسا للمفتشين، قد أقنع ريتشارد بتلر بضرورة إجراء تفتيش مفاجئ للطابق السفلي من مبنى مقر القيادة في منطقة الأدهمية في بغداد، حيث كان يعتقد بوجود عشرة صناديق تحتوي على معدات توجيه وتحكم خاصة بصواريخ عراقية مفككة. <BR><BR>وقد ألغي التفتيش قبيل تنفيذه في 20 يوليو 1998م بسبب ضغوط من الحكومة الأمريكية طالبت بتأخير العملية إلى "وقت أنسب"!. وبعد تحديد 6 أغسطس موعدا جديدا، تم تأخير التفتيش مرة أخرى ثم ألغي بعد أن تشاور بتلر مع وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت. واستقال ريتر بعد أسابيع احتجاجا على الطريقة التي أخضعت بها أونسكوم لحاجات السياسة الخارجية الأمريكية.<BR>لم يكن تفتيش مبنى مقر القيادة مطلوبا كمبرر لضربة عسكرية في منتصف 1998م، ولذا أسقط من الاعتبار بأوامر أمريكية، وفقا لرواية بتلر الحقيقية. وعندما لزم الأمر مواجهة، عرف بتلر أي عملية ينبغي أن يأمر بتنفيذها لتبرير العدوان.<BR><BR><font color="#0000FF"> خمس مشكلات في 300 عملية تفتيش! </font><BR>كتب ريتشارد بتلر تقريرا أخيرا من تقارير أونسكوم لمجلس الأمن في 14 ديسمبر 1998م. وكان استنتاجه المركزي أن سلوك العراق في أثناء الأشهر الماضية أكد "عدم وجود تقدم" سواء في مجال نزع الأسلحة أو في تعديل برامجه للأسلحة المحظورة!. ولذلك سجل أن أونسكوم "غير قادرة على تولي العمل الموضوعي الذي كلفها مجلس الأمن به، أي نزع الأسلحة"!. <BR> <BR>كان هناك تناقض كبير بين استنتاجات بتلر والدليل في متن التقرير. فقد قال بتلر في استنتاجاته أنه لم يحقق "أي تقدم". ولكن بتلر سلم في تقريره إلى الأمم المتحدة بأن "الجزء الأكبر من عمليات تفتيش المنشآت والمواقع وفق نظام المراقبة نفذ، بالمعنى الإحصائي، بتعاون من العراق". وقال السفير الروسي في الأمم المتحدة، سيرجي لافروف أن "استنتاج التقرير كان متميزا"، وردد زعم العراق بأن "بتلر استشهد بخمس حوادث فقط من 300 عملية تفتيش" خلال الشهر الماضي.<BR><BR>كان غريبا أن الجميع فوجئوا بقسوة تقرير بتلر الأخير. حتى أن الصين وروسيا ألحتا في طلب إقالة بتلر على أساس أن تقريره "وصف عمل العراق مع المفتشين وصفا غير منصف". وقال دبلوماسي غربي كبير في بغداد: "لقد فاجأ التقرير كامل المجتمع الدبلوماسي الذي كان يراقب عمليات التفتيش هذه عن كثب". وأضاف: "نحن لم نأخذ في اعتبارنا أن المشكلات المذكورة خلال شهر من عمليات التفتيش كانت حوادث بارزة، ونحن لا نبرر الأفعال العراقية، إلا أن الكثير من المشكلات التي وجهت تشير إلى الحاجة إلى وضع قواعد أوضح لعمليات التفتيش.. يقول تفويض أونسكوم أنه يجب أن يتاح لها حرية دخول كاملة، لكن عليها أن تأخذ في حسابها سيادة العراق وكرامته وأمنه القومي، وهذا يفسح المجال لطرح أسئلة، ويثير مشكلات دائمة".<BR><BR>وجاء واحد من أشهر تعابير بتلر في نوفمبر 1997م عندما قال: "الصدق في بعض الثقافات هو نوع مما تستطيع أن تقوله ولا تعاقب عليه". وهذه الإهانة العنصرية تصلح أن تكون عقابا على حكمه الخاص على الأحداث، في كل من تقريره للأونسكوم ومذكراته. <BR><BR><font color="#0000FF"> انسحاب أونسكوم: </font><BR>يقال غالبا أن أونسكوم طردت من العراق في ديسمبر 1998م، والحقيقة هي أن الوكالة سحبت بأوامر من واشنطن. وإذا كان هناك من جهة أخرجت أونسكوم عنوة، فإنها الولايات المتحدة. وكان أول انسحاب لأونسكوم في 11 نوفمبر 1998م، حيث كانت الضربات العسكرية الأمريكية متوقعة. <BR><BR>ويسجل بتلر في مذكراته أن نائب المندوب الدائم في الأمم المتحدة، السفير بيتر برليه، أبلغه أنه "نظرا إلى الأزمة التي أثارها العراق ورفضه الانصياع لمتطلبات مجلس الأمن، فقد قررت الولايات المتحدة تخفيف عدد موظفيها في سفاراتها في المنطقة بأسرها". ثم أوصى بتلر بدرس عملية إجلاء أعضاء أونسكوم من العراق "نظرا إلى مدى أهمية سلامة فريق أونسكوم". وعلى الفور أمر بتلر بإجلاء أفراد أونسكوم. بيد أن خطر العمل العسكري زال وقتذاك، وعاد مفتشو أونسكوم ومراقبوها واستأنفوا عملهم في العراق في 18 نوفمبر 1998م.<BR><BR>وبعد أن وزع تقرير بتلر على أعضاء مجلس الأمن في 15 ديسمبر 1998م، اتصل السفير برليه ببتلر هاتفيا مرة أخرى. ومن جديد حض برليه بتلر على أن يكون "متبصرا" لسلامة أعضاء أونسكوم وأمنهم. وتم سحب المفتشين فعلا في غضون ساعات، وبلا رجعة. وقد نفذ بتلر سحب الفريق من دون إبلاغ مجلس الأمن، الهيئة التي يفترض أن ترفع وكالة التفتيش تقاريرها إليها. <BR>كان يفترض أن يؤدي انهيار عملية التفتيش إلى إثارة ضربات جوية مخطط لها، لذا كان من الضروري سحب المفتشين لبناء القضية السياسية من أجل عمل عسكري، وهكذا أخرجت أونسكوم من العراق لتسهيل حملة قصف جوي على مدى أربعة أيام.<BR><BR>وفي اليوم التالي، فيما كان بتلر يصوغ تقريره الرسمي لمجلس الأمن، وفيما كان يستجوب من قبل السفير الروسي سيرجي لافروف، تلقت الأمم المتحدة أنباء أفادت بأن القصف الأنجلو-أمريكي قد بدأ. وبعد بدء القصف، قال لافروف إن الأزمة "اختلقت بأعمال ريتشارد بتلر غير المسؤولة"، بينما قال مندوب الصين في مجلس الأمن إن بتلر قام "بدور مشين" في المواجهة.<BR> <BR><font color="#0000FF"> اختراق أونسكوم: </font><BR>كان المسمار الأخير في نعش أونسكوم انكشاف سلسلة أسرار تتعلق باختراق الاستخبارات الأمريكية للوكالة، أهمها ما كشفه سكوت ريتر بعد استقالته من أنه عمل في الفترة من ربيع 1992م وحتى نوفمبر 1993م وعن قرب، مع رجل اسمه "مو دوبس"، وهو أخصائي عمليات سرية تابع لهيئة الأنشطة الخاصة في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.<BR><BR>وقد "وفر دوبس ورجاله أشخاصا محنكين يستطيعون تشغيل آليات، وتنظيم شؤون لوجيستية، وإدارة اتصالات، وبعبارة بسيطة، ذلك النوع من الناس الذين تريدهم حولك في موقف صعب". وأعيد فريق مو دوبس إلى العراق في عام 1995م. <BR>شارك فريق دوبس في العديد من عمليات التفتيش أبرزها العملية رقم (150) في يونيو 1996م، التي ركزت على مرافق الحرس الجمهوري الخاص التي كان يعتقد أنها تحوي مواد ووثائق ذات صلة بأسلحة دمار شامل. وكان هناك في فريق التفتيش ذاك تسعة عاملين سريين شبه عسكريين تابعين لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.<BR><BR>وأخذ ريتر لاحقا يرتاب في تعرضه للتلاعب، وفي أن عملية أونسكوم رقم (150) قد نسفت مع محاولة انقلاب مدعومة من وكالة الاستخبارات الأمريكية، كما اتضح فيما بعد. وكانت العملية موجهة نحو مواقع الحرس الجمهوري الخاص، وكان "مدبرو الانقلاب من بعض الوحدات نفسها التي كنا نحاول تفتيشها"، وكان دوبس وفريقه هم من "الاختصاصيين في تنظيم انقلابات"!. وقد اكتشف ريتر وثيقة خاصة خلال تفتيش أجري في وقت متأخر تأمر بـ"تصفية" الكتيبة الثالثة من الحرس الجمهوري الخاص، التي كان قد أعد لتفتيشها، والتي تبين أنها كانت متورطة في تنظيم محاولة انقلاب. <BR><BR>ولقد زودت الاستخبارات الأمريكية أونسكوم بتكنولوجيا لاعتراض اتصالات عراقية سرية ومشفرة. وأرسل ريتر الاتصالات المعترضة عن طريق ترحيلها عبر أقمار اصطناعية إلى البحرين، مقر القيادة الإقليمية لأونسكوم، ومن ثم ترحل إلى وكالة الأمن القومي الأمريكي في ولاية ميريلاند، من أجل فك رموزها وترجمتها. وعلم بارتون غيلمان، الصحفي في جريدة "واشنطن بوست" في عام 1999م أن ضابط استخبارات عسكرية أمريكية يعمل مع أونسكوم قام في مارس 1996م بدس أجهزة مسح خاصة في آلات تصوير أونسكوم، متيحا للاستخبارات الأمريكية إمكانية التجسس على نقاط مهمة في الاتصالات العسكرية العراقية لم تكن معروفة تماما لدى أونسكوم. وبعد إخفاق وكالة الأمن القومي في إصدار تقارير أو استنتاجات مبنية على عدة عمليات رئيسية، طلب رئيس أونسكوم وقتذاك، رولف إيكيوس، من بريطانيا وإسرائيل تنفيذ فك الشيفرة والترجمة، وهو الأمر الذي فعلتاه!. <BR><BR>وكشف ريتر في مذكراته أيضا أن "علاقة خاصة بين أونسكوم وإسرائيل" نشأت في أكتوبر 1994م، وهو يصف لقاء تم في سبتمبر 1997م بين ريتشارد بتلر، رئيس أونسكوم المعين حديثا، وثلاثة مسؤولين إسرائيليين: السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة، وعقيد في الاستخبارات الإسرائيلية، والجنرال أيالون، مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية. ويستهل كتابه بالإحباط الذي شعر به عندما سحبت كل من بريطانيا وإسرائيل أفرادا من عملية تفتيش كبيرة كان قد نظمها!. وفي أكتوبر 1998م أكد ريتر أنه زار إسرائيل "مرات عدة" لأغراض استخبارية. كما بين ريتر أن بعض أجهزة المسح العام وآلات التسجيل الرقمية التي استخدمت في تسجيل الرسائل اللاسلكية المشفرة والمرسلة من أعمق مصادر القوة الأمنية والعسكرية العراقية قدمتها إسرائيل بطلب منه. <BR><BR>وقد أشار المحلل العسكري وليام أركين إلى أن هدف عملية "ثعلب الصحراء" كان في الأساس استهداف جهاز صدام حسين الأمني الداخلي عن طريق استغلال المعلومات التي جمعت من خلال أونسكوم. ويلاحظ أن نصف أهداف "ثعلب الصحراء" تقريبا كانت مركزة على النظام لا على مواقع أسلحة الدمار الشامل. واعترف البنتاغون بأن "المعلومات التي قدمها مراقبو أونسكوم لعبت دورا لا مناص منه في اختيار الأهداف بعناية".<BR><BR>باستغلال أونسكوم لأغراض استخبارية، وضعت واشنطن أهداف استخباراتها وسياستها الخارجية فوق نزاهة أونسكوم وبقائها في مهمتها. وكان التجسس على زعيم العراق أهم بالنسبة إلى الولايات المتحدة من تأمين نزع أسلحة العراق.<BR><BR><font color="#0000FF"> موت أونسكوم: </font><BR>لم تعد أونسكوم قط إلى العراق بعد سحبها بإيعاز من الولايات المتحدة. وبغداد لم تدمر أونسكوم، بل واشنطن هي التي فعلت ذلك. أما أن عملية "ثعلب الصحراء" ستنهي نظام التفتيش، فهذا أمر لم يكن بالإمكان التنبؤ به فحسب، بل تم التنبؤ به فعلا. فالرئيس الأمريكي كلينتون نفسه قال إن السبب الوحيد لعدم شن الهجوم الجوي وقتذاك هو أن الهجوم "سيدل على نهاية أونسكوم".<BR><BR>وكتب الرئيس السابق لأونسكوم ريتشارد بتلر في مذكراته أنه كان "من الصعب عدم رؤية ثعلب الصحراء، كعملية فاشلة، وعلى الأخص بسبب محدودية فترتها الزمنية" إذ دامت أربعة أيام فقط. ويعلق بتلر بقوله: "إذا استخدم المرء تجربة النظر إلى النتائج بعقلانية، ومن دون الرجوع إلى الدوافع.. يمكن القول إن موت أونسكوم أيضاً أصبح سياسة أمريكية لأن هذا هو ما حدث.<BR><br>