عودة الدين في الغرب
27 محرم 1425

تؤكد الأحداث المعاصرة أن الإنسان كائن متدين بالدرجة الأولى، وأن التدين فطرة متجذرة في الكيان البشري لا تبديل لها ولا تحويل مهما بلغ التقدم العلمي والتقني، ومهما تطورت التجربة السياسية والثقافية والاقتصادية للمجتمعات، ولئن أخطأت المؤسسات والمذاهب الدينية الغربية في تاريخها الطويل فظلمت واستبدت وتكبرت باسم الدين حتى نهضت ضدها الثورات فأقصت الكنيسة عن القرار السياسي وألزمته بالمجال الفردي الخاص بناء على اتفاق يسل الحكم للعلمانية الراعية كما فعلت الثورة الفرنسية، أو أنكرته تماماً كما فعلت الثورة الشيوعية السوفييتية، لئن حدث هذا فإن الدين والتدين سرعان ما عبر عن نفس في أشكال متجددة ومتنوعة في العالم الغربي الثائر، وظهر أن التقدم العلمي والاقتصادي وثورة الاتصال لم تستطع تلبية الأشواق والحاجات النفسية الوجودية العميقة للكائن البشري، فتحول الدين من المؤسسات التقليدية إلى تدين المجموعات الصغيرة المتجسدة في الطوائف والنحل الجديدة الخارجة من رحم الكنائس الموجودة أو المركبة من خليط دولي من العقائد والأفكار والخرافات، ومع أن الصورة الإعلامية لهذه الجماعات مشوهة إلا أنها ما تزال دائبة النشاط والحركة بدوافع دينية أحياناً، ودوافع جيوسياسية أحياناً أخرى تتداخل فيها المصالح الاستراتيجية للدول القوية المهيمنة والصهيونية العالمية أيضاً، وأمام هذا التفريخ المتزايد في متوالية رياضية، تحركت المذاهب المسيحية الكبرى في كل من أوروبا وأمريكا مجددة نفسها ومستجيبة لهذا التحدي.<BR><BR><font color="#0000FF">الطوائف الدينية: تكاثر وتناسل </font><BR>التكاثر المستمر للطوائف الدينية يشكل حالياً جزءاً من المشهد الديني بالغرب. تكاثر يضع عدداً من المشاكل أمام المجتمعات والكنائس، والقضايا التي تشتغل عليها هذه الطوائف متقاربة متشابهة، فمن الطوائف من تبشر بنهاية وشيكة لهذا العالم، تتبعها ألف سنة من السعادة على وجه الأرض، ومنها من "ترشد" الناس إلى زمن الخلاص الذي يؤذن بيوم القيامة، منها من تقدم قراءة حرفية للإنجيل وفجر المسيحية وعصرها الذهبي، وكلها تؤكد امتلاكها للحقيقة، وأخرى تعلن أن لديها الشفاء من كل علة والدواء لكل مرض تعجز عنه العلوم الطبية الحديثة، ولديها مفتاح الحل لكل نزاع، والسلام لكل مواجهة حربية، وأن بإمكانها أن تؤلف بين قلوب بني آدم جميعاً، وطوائف أخرى تدعو إلى اتباع سبل الاستكشاف الباطني بوسائل مستوردة من المشرق الآسيوي هي الكفيلة بإدخال العالم إلى طمأنينة النفس وسكينة القلب .<BR> وهؤلاء "المؤمنون" الجدد يجلبون الأنصار بقوة "إيمانهم" وحماسة التزامهم، وبساطة مذهبهم، غير أنهم يزرعون القلق والحذر عندما تكتشف اختلاساتهم المالية وثرواتهم المادية التي يجمعونها من الأتباع، وحينما يفرقون بين المرء وصاحبته وبنيه وفصيلته التي تؤويه.<BR><BR>بعض الطوائف تتوجه إلى الشباب، ويلاحظ أن كثيراً من المنخرطين يؤدون ثمناً نفسياً واجتماعياً معتبراً بدخولهم إليها، إذ يتخلون عن شخصياتهم وهوياتهم وإرادتهم إلى درجة الاستسلام التام، قاطعين بذلك حبال الرحم والدراسة والعمل.أغلب هذه الطوائف ظهرت إلى السطح في العقود الأخيرة من القرن الميلادي الماضي (ق 20) في ديار الغرب، مثل: طائفة "المورمون" التي ظهرت في 1830، وطائفة "الرائيليون" الذين يزعمون حالياً أنهم استطاعوا استنساخ وليد بشري وأنهم آتون من كوكب سماوي (1973). نصف هذه الجماعات ولدت بعد 1950، غير أن تزايدهم مستمر.<BR> ومما يلاحظ أن بزوغهم الأول تزامن مع ظهور الثورة الصناعية الغربية في القرنين 19 و20، ومع مسلسل العلمنة الذي فقدت فيه المؤسسات الدينية دلالتها الاجتماعية، ومما يضاعف النمو ويسهله ـ مع كامل العجب ـ الثورة التكنولوجية الاتصالية الحالية، فكأنما تعد هذه الطوائف بدائل عن الكنائس التي تراجعت، غير أنها تلبي حاجات نفسية اجتماعية كامنة لفئات من المجتمع تتطلع إلى "تدين جديد".<BR><BR>وبالفعل، فإن الأجواء النفسية والاجتماعية السائدة داخل هذه الطوائف، تستطيع ـ في حالات عدم الاستقرار والأزمات- تقديم أجوبة تبدو مقنعة مهدئة لأنفس حائرة ممزقة مضطربة: "مثال لمجتمع بديل، له طقوسه وتأطيره الحازم، ويقينه الراسخ، وأمن ظاهر وخلاص ناجح".<BR>وإذا استحضرنا التفكيك الذي تعرضت له المجتمعات الغربية نتيجة الفردانية المفرطة، وتفكيك الإنسان نفسه في الجانب الفيزيولوجي البدني أو في الجانب النفسي أو بهما معاً، وتوجه المجتمع الغربي نحو الانكماش، فهمنا أن هذه الأرضية تمهد السبيل واسعاً أمام نشأة وتطور جماعات دينية أو شبه دينية، فبعد سقوط النماذج المبشر بها في سنوات 1960/1970، سواء في المعسكر الاشتراكي الشيوعي بشرق أوروبا أو في المعسكر الليبرالي الرأسمالي في غرب القارة العتيقة، جاء دور العودة الحذرة إلى المحافظة والعادات القديمة. بدأ الناس ينكمشون على الأسرة والعشيرة والطبيعة والحياة الخاصة، وبدأ البحث عن الزعيم "الكاريزمي" وهذه المعايير والأوصاف توجد في أغلب هذه الطوائف الجديدة. كلها تبحث عن الدفء الجماعي وبعضها تنكفئ إلى البادية والريف، وأخرى تتحلق حول "زعيم روحي"، ومن زاوية ثقافية يمكن النظر إلى هذه الطوائف على أنها ثقافة مناهضة بديلة لثقافة ستينيات القرن العشرين في الولايات المتحدة، ولثقافة ما بعد ماي 1968 بفرنسا، وهي الثقافات التي استنفذت أغراضها شيئاً فشيئاً، التقطت -إذن- هذه الطوائف الخيط، وسط الفراغ، وراحت تبني "المجتمع البديل" المناهض للنظام القائم موفرة له الشروط النفسية والاجتماعية والأخلاقية المساعدة على النمو والاستمرار.<BR><BR><BR><font color="#0000FF">آثار متعددة: </font><BR>التصاعد المدهش للطوائف ليس سوى تعبير عن حركات عميقة ذات مدى أوسع داخل المجتمعات الغربية على الخصوص، هي تعبير عن يقظة الإيمان، واللامعقول، وأحياناً التصوف والمعبر عنها في الكلمة الجامعة "عودة الديني" إنها تحول المقدس من محله. والتناسل المضاعف للطوائف ـ بتعبيرها الاحتجاجي الموحد ضد المجتمع والكنائس الموجودة ـ لها تأثيرات هامة على مجموع المجال السوسيوديني.<BR><BR>اجتماعياً، ظل التحذير من الطوائف مقتصراً على الكنائس الدينية إلى حدود سنوات 1970، ، وبعد الموجة الثانية من الطوائف، انتقل الحذر من الكنيسة إلى المجتمع الذي أحس بالعدوان، فظهرت جمعيات اجتماعية لمناهضة الطوائف، انتقلت إلى المحاكمات والمتابعات القضائية، وتولى الإعلام تركيز الانتباه على الظاهرة.<BR><BR>وأما إعلاميا فق أصبحت الطوائف الدينية أولوية وحدثاً لدى وسائل الإعلام، واتبع الإعلام هواه في الإثارة والبحث عن كل ماهو حساس وغريب وخارج عن المألوف، ولو كان في بعض الأحيان قليل الحجم مقارنة مع طوائف أخرى أكبر لا تحظى بالقدر نفسه من التركيز والمتابعة.<BR> <BR>وقضائياً، دعيت المجتمعات الغربية إلى التعبير عن موقفها من التحركات الصادرة عن الطوائف الجديدة ذات اللباس الديني، وذلك للمحافظة على حرية الأفراد خاصة الشباب، وأصبحت الإجراءات الإدارية والقانونية مطلباً ملحاً، وفي هذا السياق اتخذت المجالس النيابية بعض القوانين خاصة في البرلمان الأوربي ( تقرير لوتريل 1984) والبرلمان الفرنسي (تقرير فيفيان 1985) والبرلمان الألماني.<BR><BR>وأما سياسياً، فإن تداخل الظاهرة الطائفية الدينية مع المجال السياسي هو جزء من البينة العامة للمجتمعات الغربية؛ لأن كل طائفة دينية تقيس نفسها بمعيار خاص يرتبط بالعالم الذي تعيش فيه، ويلاحظ في هذا الشأن مثلاً أن بعض الطوائف ترفض أداء الخدمة العسكرية والخدمة المدنية والتبرع بالدم كما هو واقع لدى طائفة "شهود بهوه"، كما يلاحظ إعراض بعض الحكومات عن طوائف لا تتدخل في الشأن السياسي أو تناهض الإلحاد والشيوعية، وبذلك تريح السلطات السياسية من المنافسة، بل تقدم لها خدمة مجانية حين تواجه خصوماً إيديولوجيين لها. غير أن المشكل الأكبر الذي تطرحه هذه الطوائف هو سلوكها الاحتجاجي ضد المجتمعات.<BR><BR><font color="#0000FF">آثار دينية: </font><BR>انفتح في عالمنا اليوم سوق واسع موحد للعقائد، يشكل فيه تصاعد الطوائف ونموها مؤشراً دالاً، وهذا وضع دفع الكنائس إلى اتخاذ موقف واضح على الصعيد العالمي أيضاً.<BR><BR>ما الطائفة؟ الاشتقاق اللغوي لا يغني في التعريف شيئاً هنا: فهو يشير إلى أنها حركة يتشكل من أشخاص تابعين لشخص ويدينون بمذهب ما، وكلمة "سيكت" "SECTE" الفرنسية مأخوذة من الكلمة اللاتينية "سيكي" (SEQUI) التي تعني اتبع، هذا ما حدث لطائفة "المومورن" الذين اتبعوا بريغهام يونع في نهاية القرن 19 بأمريكا في مسيرته الطويلة نحو الغرب الأمريكي، وفي بعض الأحيان، يؤتى ـ خطأ ـ بكلمة "سيكار" (SECARE) التي تعني فرق وقطع باللاتينية، وبذلك تتميز الطائفة عن الديانة كما تتميز الفئة القليلة عن الجماعة الأم، وبالفعل، فإن كثيرا من الطوائف نشأت هكذا، مثل "أبناء الله" الذين انفصلوا عن الجذع الإنجيلي الأصلي.<BR><BR>"الطائفي" و"الطائفي": صعوبة أي حديث عن الطوائف بالغرب يأتي من اعتبار الكلمة "طائفة" تعبيرا عن حكم قيمة، فهو ينتمي بالفعل إلى اللفظ العقائدي، يقال عن مجموعة إنها "طائفة" معناه حمل حكم قدحي في الذهن، من الأفضل هنا الحديث عن "عدم التوافق الديني" إذ غالبا ما تعرف الطائفة بنسبتها إلى "الطائفي" وهي نسبة قدحية بالنظر إلى الكنيسة، وأفضل شيء هو النظر إلى الطائفة ـ ومعها الكنيسة ـ على أنها جماعة اجتماعية أي اعتماداً على البنيات الاجتماعية دون الأخذ بعين الاعتبار أي معنى ذا قيمة مقارنة.<BR><BR><font color="#0000FF">تفسيرات وحاجات: </font><BR>لم تقف المؤسسات المسيحية التقليدية مكتوفة الأيدي أمام التحولات الجارية: في خطوة أولى سعت الكنيسة إلى الفهم والتفسير، وفي خطوة ثانية انتقلت غلى الحركة والاستجابة للتحدي. فحسب تقارير الفاتيكان عام 1968 -بناء على تحقيق ميداني طويل على الصعيد العالمي، وبناء على دراسات الكنائس والمجمعات الدينية المسيحية الغربية- فإن انتشار الطوائف الجديدة ظاهرة عالمية، والأسباب الخاصة التي أعلن عنها الملاحظون، ترد كلها إلى سياق أكثر عمومية، فالمجتمعات المصنعة تعزز بنيات تفكك الأفراد وتجردهم من شخصياتهم ومكوناتهم الثقافية والنفسية والاجتماعية وتؤدي إلى حالات أزمة على المستوى الفردي والجماعي، وهذه الحالات تظهر حاجات ومطالب تزعم الطوائف أنها تشبعها بكل سهولة، ويفصل تقرير الفاتيكان المقدم من لدن الباحث الاجتماعي جان فيرنيت في كتابه عن الطوائف والكنيسة الكاثوليكية عام 1968 بباريس)، والمعنون "ظاهرة الطوائف، أو الحركات الدينية الجديدة: تحدي كنسي"، ويعد المؤلف أنها تعبيرات متعددة عن البحث الإنساني عن الكمال والانسجام، والمشاركة والتحقق على جميع المستويات من الوجود والتجربة الإنسانية، إنها تعبيرات عن المحاولات الدائبة لمعانقة لبحث الإنسان عن الحقيقة والدلالة، والبحث عن القيم البانية التي تقمع أو تدمر أو تضيع في بعض مراحل التاريخ (الجماعي والفردي معاً) من لدن أفراد مضطربين بسبب تغير سريع، وقلق مضاعف أو خوف.<BR>ثم إن الطوائف تعبير عن حاجات شخصية: <BR>- حاجات تمثل أسباباً كافية للنجاح والبروز، وهي متعددة، مثل: الرغبة في الانتماء إلى مجموعة ما، والحصول على اعتبار ومكانة وقيمة في مواجهة مجتمع يتميز بالقوة وبرودة العواطف، بل بقهر الشخصية الفردية. <BR>- ومثل الحاجة إلى أجوبة دقيقة تكون بمثابة عناصر للأمن في عالم متغير بسرعة حيث تنهار الحقائق التقليدية. <BR>- والبحث عن تكامل الشخصية داخل انسجام تام، نفسياً وجسدياً، نفسياً وروحياً، وفتح الباب أمام ظهور مجموعات علاجية تعمل عملاً يجعلها تقوم مقام الديانات. <BR><BR>-والحاجة إلى الاعتراف الاجتماعي والمشاركة الفعالة والالتزام النشيط، خاصة في صفوف الفئات الاجتماعية الفقيرة. <BR>- والسعي إلى هوية ثقافية تفتح المجال أمام العقائد الأهلية، خاصة في دول العالم الثالث. <BR>- والبحث عن التعالي وعن تجربة دينية شخصية مباشرة لا تجد لها إرواء في الحضارة المادية الحالية التي فقدت روحها. <BR>- والبحث عن وجهة روحية وزعيم رائد يكون مرشداً ودليلاً. <BR>- والتعطش إلى رؤية إيجابية للمستقبل على أنه "زمن جديد" للعالم في وقت يتعاظم فيه الخوف الجماعي بسبب العنف والنزاعات المسلحة وتخريب البيئة العالمية.<BR><BR><font color="#0000FF">جماعات يهودية مسيحية: </font><BR>في فرنسا وأوروبا، تزيد الجماعات الدينية الطائفية على الثلاثمئة، ويستحيل الإحاطة بهذه الجماعات في كتاب أو مقال مطول. إنما ذلك عمل يصلح لتؤلف حوله موسوعة خاصة يتعاون عليها جماعة من الخبراء والمهتمين. يمكن الاقتصار على أهم الجماعات، لكن ضمن تصنيف ثنائي يقسم الظاهرة المدروسة قسمين كبيرين: الجماعات المنحدرة من الجذع اليهودي المسيحي، والجماعات المستوردة من الشرق الغنوصي الآسيوي. <BR>الجماعات الأولى أيضاً يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أقسام: الألفيون، وحركات اليقظة، والمجموعات العلاجية.<BR><br>