انهيار "جدار برلين" العربي
16 محرم 1429

[email protected] <BR><BR>بوسع خطوات على أرض بسيطة أن تصنع ما لا يمكن لآلاف الطلعات الجوية أن تقوم به في تعديل الجغرافيا، وصياغة التاريخ، وتغيير الحسابات، وصناعة الأحياء، وخلق التفاعلات. <BR>خطوة، فمعول.. ارتقاء فوق الجدار أو هدمه، أسال خارطة أوروبا والعالم في التاسع من نوفمبر عام 1989، فانساب الألمان بين شطري مدينة برلين المقسمة وبين الدولتين الألمانيتين الشرقية والغربية.. كانا بالأصل شعب واحد، قسمته الحرب وتداعياتها، مثلما كان المشرق العربي بلا حدود، حتى التقى ممثل بريطانيا سير مارك سايكس، وممثل فرنسا مسيو جورج بيكو في مايو عام 1916، فوضعاً حدوداً بالقلم الرصاص؛ فاستحال الرصاص حياً، يخطف الأرواح ويسيل الدماء العربية، ويضرب الأسيجة. <BR>وقد يكون بمقدور أهل غزة أن يمحوا سطراً من هذه الخطوط أو لا يكون وفقاً لمعطيات دولية وإقليمية خانقة؛ لكنهم في أقل تقدير أداروا السهم "الإسرائيلي" في ثغر مطلقيه، وقلبوا الموازين، وكسروا الطوق، ما جعل خطوتهم أكثر من انتفاضة جوع كما طاب للبعض وصمها، إذ لاشك إن "إسرائيل" اليوم نادمة على خلق هذا الوضع الجديد، الذي أفرز معطيات ترسم ملامح مرحلة مقبلة، حتى لو بني الجدار من جديد مع نشر تلك السطور؛ حيث الأمر في دلالته أكبر من عبور خاطف، وحاجة دافعة للتحرك، إنه حالة استثنائية بكل المعايير، ونُقلة نوعية في رسم صورة الصراع مع "إسرائيل" والتعامل مع مصر، الذي أعاد صفحات التأريخ إلى ما قبل 5 يونيو في العام 1967 ـ أجدد ـ ولو عادت الأمور إلى حدود ما قبل 23 يناير 2008 !! <BR>إن الدلالة الأقوى في أحداث ذلك اليوم، أن التاريخ لم تعد تصنعه العواصم ولا القادة، وإنما الشعوب المهيضة التي انتفضت مع تباشير الفجر لتصنع الفجر، وتشرق على سيناء في ساعة الشروق من حدودها الشرقية الزائلة.. (هل يمكن للعلماء إذن أن يفسروا لنا ما حدود الأرض المباركة اليوم). <BR>إن الاتهام الجاهز للعرب في أروقة الغرب أنهم عاجزون عن التحرر، وأنهم أطفال على الحرية، وأن فاعلية الانطلاق لا تتأتى إلا وفقاً لرغباته وهباته، بيد أن ثورة البسطاء في غزة حققت ما عجز عنه مجلس الأمن بكل صولجانه، وتركته يعبث بأوراق التاريخ يقلبها فيما اللحظة قد جاوزته، وهو يتحدث عن الحصار ويعجز عن تمرير كسرة خبز إلى غزة، مع أن كل أعضائه الدائمين "أحرار ديمقراطيون"!! <BR>إن أحرار غزة لقنوا الجميع الدرس؛ وبدون متفيهقين سياسيين؛ فهم أداروا انتفاضتهم في الاتجاه الصحيح، وتساموا فوق كل خيار داخلي، وكتبوا الملحمة. <BR>والدلالة التالية في هدم جدار رفح، أن خلق أرضية جديدة للحوار على كافة الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية لا تتأتى إلا عبر الميدان لا أصوات الفضاء، ولقد صار من المفيد الآن إجراء جرد حساب من الجميع في تلك اللحظة لتقدير ما الذي صنعه البعض للشعب الفلسطيني وما الذي جناه الآخرون عليهم، وتفعيل دور عربي بناء يعترف للواقع بمصداقيته ويأخذ بالحسبان المعادلة الجديدة، فلا يسعى إلى نسفها بل إلى ضبطها بشكل يحقق استقلال القرار العربي فيما يخص معبر رفح الذي انسحبت منه "إسرائيل" كرهاً؛ فلا يحق لها أن تعود إليه طوعاً أو تطويعاً على نحو آخر. (ولو أن بعض المحللين سيقول إن "إسرائيل" قد دفعت أهل غزة لفعل ذلك تحت الضغط متعمدة لإرباك المصريين وتحميلهم مسؤولية غزة العصية على التدجين، لكن "إسرائيل" قد تكون سبباً لكنها ليست قدراً يحكم الأحداث ويجريها وفق أهواء تل أبيب).<BR>إن على النظام العربي أن يبني في أضعف الإيمان على المعلن من المواقف العربية ـ على هشاشتها ـ، وعلى معطيات اللحظة الراهنة التي جاءته فيها ورقة جديدة بدون كلفة أو مشقة أو مواقف عنترية.. إننا لا ننتظر أقل من جسر جوي عربي إلى مطار العريش لمد غزة بكل ما تحتاجه لفترات طويلة إذ لم يبق من مبرر مقبول للحديث عن حؤول "إسرائيل" <BR>فوربس لأغنياء العالم ونفتقدها على تخوم غزة، أن ترينا من ذاتها ما تقر به أعين الشعوب العربية، إن لم يكن اقتداء بعثمان رضي الله عنه فتقليداً لبل جيتس أشهر المتبرعين الأمريكيين، على أقل تقدير!! <BR>(نثمن في هذا الصدد مبادرة الندوة العالمية للشباب الإسلامي في الرياض مبادرتها لتقديم 5 ملايين ريال سعودي كإغاثة عاجلة، ومسارعة لجنة الإغاثة الإنسانية بنقابة الأطباء المصرية إلى الحدود لتقديم ما تيسر من الدعم، وعسى أن يكون أول الغيث قطرة)<BR>نأمل إلا موقفاً عربياً يثبّت مكتسبات الوضع القائم وإن نظّم الحدود بشكل أو بآخر؛ حيث إن ما قدمه الغزاويون طوال أيام الحصار من دم وصحة وجهد ومال لا يجوز أن يمضي هدراً بجرات أقلام سياسية تستنكف إلا العودة إلى المربع الأول بكل أتراحه وشجونه وآلامه. <BR>إن أهلنا في غزة قد عانوا الأمرين، ولا أقل من نجدتهم بشكل إنساني ودعم سياسي يعلي من قيمة الساسة العرب بين شعوبهم ويكسبهم أوراق ضغط مقابلة ولا يثير هواجسهم بفقدان "حلفائهم" و"أشياعهم" ـ على أدنى المكاسب السياسية وأقلها طموحاً ـ في وقت يفقد هؤلاء الحلفاء الدوليون مراكزهم وسلطانهم شيئاً فشيئاً.<BR>وبمقدور النظام العربي أن يجعل من تاريخ أمس عنواناً لصفحة جديدة من صفحات التاريخ الكبيرة أو يسلبها بهجة الانتصار الشعبي، ويلحق بذاته عار يلازمه كما لازمه من يوم النكبة.<BR><BR>أوليس مفارقاً جداً في النهاية أن تنساب الجموع عبر الحدود العربية بشكل عشوائي على إثر تفجيرات أضاءت ليل رفح، بينما عجزت القمم العربية على أي المحاور والأحلاف قامت أن ترسم الصورة ذاتها على مدى ستين عاماً ونيف؟! ألم يكُ مثيراً أن نشهد "سوقاً عربية مشتركة" مصغرة في طرقات رفح فيما ضنت منظومة الجامعة العربية عن تحقيقها خلال 44 عاماً حين أعلنتها "تنفيذا لأحكام اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية (..) على أن تتم خلال خمس سنوات من العام 1965"؟! <BR>إن كان بوسعنا أن نحلم بهذه الجماهير تنتقل بين البلدان العربية (كما انتقلت ذات يوم مثلها بين ألمانيا الشرقية الفقيرة وشقيقتها الغنية) بلا جوازات سفر أو هويات، لقد رأينا لمحة منها أمس، قبل أن تضيع وسط أضغاث أحلام سياسية، حيث الشيطان يكمن في الأضغاث كما في التفاصيل ـ كما يقول الساسة ـ ... وعلى الحدود أحياناً! <BR><br>